مجلة الرسالة/العدد 125/المجنون
→ على هامش الموضوع السابق أيضا | مجلة الرسالة - العدد 125 المجنون [[مؤلف:|]] |
في مائة عام ← |
بتاريخ: 25 - 11 - 1935 |
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جاء يمشي هادئاً يتخيَّلُ في مِشْيته، يَرْجُفُ بين الخُطوة والخطوة كأنه من كِبره يُشعرك أن الأرض مُدركة أنه يمشي فوقها. . . . ولا ينقلُ قدمَه إذا خَطَا حتى يَنْهضَ برأسه يُحركه إلى الأعلى، فما تدري أهو يريد أن يطمئنَّ إلى أن رأسَه معه. . . . أم يُخَيَّل إليه أن هذا الرأس العظيم قد وضع على جسمه في موضع راية الدولة فهو يهزُّه هزَّ الراية. . . .
وأخذته عيني وليس بيني وبينه إلا طولُ غرفةٍ وعرضها - فهو إذا زائغُ البصر كأنما واقع في صحراء يقلَّب عينه في جهاتها متحيَّراً متردِّداً، ثم كأنما رُفِعَ له في أقصاها جبَلٌ فأخذ إلى ناحيته. . . . .
ورحبتُ به، وأجلستهُ إلى جانبي، فأخذ يَسْتَعَرِفُ إليَّ بذكر أسمه وجماعته وبلده، لا يزيد على ذلك شيئاً كأنه عنترةُ بني عَبسٍ، لأرضه من طبيعتها جغرافياً، ومن أسمه جغرافياً على حدة. فلما رآني لا أُنْبِتُه معرفة قال: أن بك نسياناً قلت: وكثيراً ما أنسى، غير أن أسمك غير من ذلك الأسماء التي تذكّر بتاريخ.
قال: هذه غلطة الجرائد. . . ومهما تنسَ من شيء فلا تنسَ أنك أستاذاً (نابغة القرن العشرين). . .
فسرَّحتُ فيه نظري، فإذا أنا بمجنونٍ ظريفٍ أمردَ أهيفَ، يكاد برخاوته وتفككه لا يكون رجلاً، ويكاد يبدو امرأة بجمال عينيه وفتورهما.
وتوسمتُ فإذا وجه ساكن منبسطُ الأسارير ممسوح المعاني، ينبئ بانقطاع صاحبه مما حوله، كأن الدنيا ليست دنيا الناس، ولكنها دنيا رأسه.
وتأملت فإذا طفولة متلبدة قد ثبتت في هذا الوجه لتخرج من بين الرجل والطفل مجنوناً لا هو طفل ولا رجل.
وتفرَّستُ فإذا آثارُ معركةٍ باديةٍ في هذه الصَّفحة قَتْلاها أفكارُ المسكينِ وعواطفُه.
وتبَّينتُ فإذا رجلٌ مُستَرْخٍ، مُتفتّرُ البدن، خائرُ النفس، وكأنه قائم لِتَوَّه من النوم فلا تزال في عينه سِنَةٌ، وكأنه يتكلم من بقايا حُلُم كان يراه. . .
وخُيِّل إليَّ من هذا الخُمول في هذا الشاب أن عليه جوَّا من تثاؤبه وان المكان كله يتثاءبُ، فتثاءبت.
فلما رأى ذلك مني ضحك وقال: أن (نابغة القرن العشرين) رجلٌ مغناطيسيّ عظيم؛ فها هو ذا قد ألقى عليك النوم. . . وحسبُكَ فخراً أن تكون أستاذَه وأخاه وثقتَه، (فليس على ظهرها اليوم أديبٌ غيري وغيرك. . .).
قلت في نفسي: إ تا لله، ما يعتقد الرجلُ أن على ظهرها مجنوناً غيره وغيري، وكأنما ألمَّ بذلك فقال: لستُ مجنوناً، ولكني كنت في البيمارستان. . .
قلت: أهو البيمارستان الذي يسمى مستشفى المجاذيب؟
قال: لا. إن هذا الذي تسميه أنت هو مستشفى المجاذيب، أما الذي سميتُه أنا فهو مستشفى فقط. . .
وذكرتُ عندئذٍ أن من المجانين قوماً ظُرفاء يَدخُلُهم الفسادُ في عقولهم من ناحية فكرة ملازمة لا تبرح، فلا يكون جنونُهم جنوناً إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء، غير انهم بذلك طيَّاشون متقلبون، إذا ازْدُهِىَ أحدُهم لم يُطقْهُ الناس من زهوه وكبريائه وتنطُّعِه، كأنه واحدُ الدنيا في هذه الفكرة وكأن بينه وبين الله أسراراً؛ ويظن عند نفسه انه اعقلُالناس في أرقى طبقات عقله، وما جنونُه إلا في هذه الطبقة وحدها.
ومثل هذا لا بد له ممن يستجيبُ لهذَيانه كيما يحركَ فيه خفتَه وطيشَه وزهوه وليكونَ عنده الشاهدَ على هذا الوجود الخياليِّ المُبدَع الذي لا يوجد إلا في عقله المختل. فإذا هو ظفر بمن يُحاسنُه، أو يصانعُه، أو يجاريه حَسبَِه مُذْعِناً مؤمناً مصدِّقاً، فلا يَدَعُه من بعدها ويتعلق به اشد التعلق، ويراه كأنه في ملكه. . . فيتخذه صفيَّاً وهو يعتقد انه رقيق؛ وقد يَزُعمُه أستاذَه لِيُفهِمَه من ذلك بحساب عقله. . . أنه تلميذُه.
وخشيتُ أن يكون (نابغة القرن العشرين) لم يُسمِّني أستاذَه إلا بحسابٍ من هذا الحساب، فهو سيُعطى الأستاذيةَ حقَّها، ولكن كما هو حقّها في لغة جنونه. . . فأصبح في رأيه تلميذه وصنيعتَه، ومحدِّثَ هذيانه، وثقتَه وملجأه، والمحاميَ من ورائه؛ قلت في نفسي: إذا أنا تركتَه جالساً كان هذا المجلسُ مَثابَتَه من بعد فلا يعرف له محلاً غيره ويصبح كما يقال في تعبير القانون (محلّه المختار)، فَيتَطَرَّأُّ إليَّ لسبب ولغير سبب، ويقعُ في أوقاتي وقوعَ السَّهوِ لا حسابَ عليه ويضيعُ فيه ما يضيع. فأجمعتُ أن أصرفَه راضياً باليأس وقد انتهت نفسُه من معرفتي وانتهى عقله إلى الرأي أني لا اصلح له أستاذاً، لا بحسابه هو ولا بحساب الناس.
فقلت له: ظني بك انك أستاذ نفسك، ولا يحسن بنابغة القرن العشرين أن يكون له في القرن العشرين أستاذ، واراك قد فرغتَ للأدب، أما أنا فمشغول بأعمال وظيفتي، وقد جاء من العمل ما تراه وتكاد لا تفي به الساعاتُ الباقيةُ من الوقت و. . فقطع عليّ وقال: أن الوقت ليس في الساعة، والدليل أني أعطلها فيتعطل الوقت ولا يكون فيها يوم ولا ساعة ولا ثانية ولا دقيقة.
فقلت: ولكنك إذا عطلتها لم تتعطل الشمسُ التي تعيّن منازلَ النهار، فسيمرُّ الظهر ويحينُ العصر و. . .
قال: ويأتي غد، وإنما أنا معك اليوم فقط. . . ويجب أن تغتبط بأنك أستاذ (نابغة القرن العشرين)، فقد قرأت الكثير في الأدب وقرأتك، فما كان لي رأي إلا رايتّه لك، ولا صحَّت عندي نظرية إلا رايتك قد أبديتَها، وأنا لا اعتقد أدباً في مصر إلا ما توافَيْنا عليه معاً (ولا أسلّم جدَلاً، ولا جدَلاً أسلّم أن في مصر أدباء ينالون مني شيئا، فهو أنا وأنا هو)، ولئن لم يذعنوا (لنابغة القرن العشرين) فلَيعلمُنَّ انهم (وقعوا مني موقعَ نملةٍ على صخرة). هذا من جهة، ومن جهة أريد سجائر وليس معي ثمنها). . .
فتهللْتُ واستبشرتُ، وقلتُ له: هذا قرش فهلمَّ فأشتر به دخانك، وفي رعاية الله. ثم استويت للقيام، ولكنه لم يقم، بل تمكَّن في مجلسه. . .
وكرهتُ أن أتَغَير له وما اشك انه في هذا صحيحُ التمييز؛ فما أسرعَ ما قال: أن (نابغة القرن العشرين) فتى قويُّ الإرادة، فإذا هو لم يصبر عن التدخين ساعاتٍ فما هو بصبور. . . . وإذا لم يُثْبتْ لك هذا الأمرَ عن مُعَايَنَة. . . . فما أعطيتَه حقَّه.
فقلت في نفسي: لقد غرستُ الرجلَ من حيث أردتُ اقتلاعَه، وأيقنت انه من عقلاء المجانين الذين تتغير فيهم العاطفة أحياناً فتُلهمهم آياتٍ من الذكاء لا يتفق مثلها إلا لنوابغ المنطق؛ وذكرت (بهلول) المجنون الذي حكوا عنه أن إبراهيم الشيباني مرَّ به وهو يأكل خبيصاً فقال له: أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته أليَّ لآكله لها. . .
وقالوا: انه مر بسوق البزَّازين فرأى قوماً مجتمعين على باب وكان قد نُقِب، فنظر فيه وقال: أتعلمون من عمل هذا؟ قالوا: لا. قال: فأنا اعلم
فقالوا هذا مجنون يراهم بالليل ولا يتحاشَونه فالْطِفُوا به لعله يخبركم. ثم قالوا: اخبرنا. قال: أنا جائع. فجاءوه بطعام سَنيّ وحلواء، فلما شبع قام فنظر في النقْب وقال: هذا عمل اللصوص. . . . .
وكانت مجلة (الرسالة) في يد (نابغة القرن العشرين)، فصل الكلامَ بها وقال: أنه يقرأ كل مقالاتي وأنه وأنه، وإنها وإنها. قلت: فما استحسنتَ منها؟ قال: (مقالة السيما). . .
فقلت: متى كان آخر عهدك برؤية السيما؟ قال: أمس
قلت: فأنا لم اكتب مقالاً عن السيما، ولكنك أعجبت بما رأيت أمس فتحول ما رأيته حلماً في مقالة
فأعجبه هذا التأويل وقال: بمثل هذا أنا (نابغة القرن العشرين) فاقرأ مقالتك في العيب من قبل أن تكتبها. . . .
قلت: انك تكثر أن تقول عن نفسك (نابغة القرن العشرين) وهذا يحصر نبوغك في قرن بعينه، فلو قطعتَ الكلمة وقلت (نابغة القرن) لصحّ أن تكون نابغة القرن التاسع عشر والثامن عشر وما قبلهما وما بعدهما.
فرأيت به شَدْهَةً كأنه يفكر في جنونه، ثم أفاق وقال: لا. لا. وان هاهنا موضع نظر، فلو رضيت بنابغة القرن فقط، لجاء من يقول إني نابغة قرن خروف. . . .
فقلت في نفسي: حمأةٌ مُدَّتْ بماء. وان هذه الوساوسَ لا تنفك تعرو هذا المسكين ما وجد من يكلمه، والأفكار في ذهنه مجتمعة مختلطةٌ مسترسلةٌ كأنها ثورة من الكلام لا نظام لها، فلأسكت عنه ولأتشاغل بما بين يدي.
وسكتُّ وأعرضت عنه فجعل طائفة يعتريه، وكان السكوت قد سلَّط أفكاره عليه، وكأنها أخذت تصيح به في رأسه كما يصيح غلمانُ الطرق بالمجنون لا يزالون به حتى يُجْردُوه ويفقدوه البقيةَ من صبره وعقله معاً. فغضب (نابغة القرن العشرين) ونقله الغضبُ إلى حالة زَمْهَرَتْ فيها عيناه وكلَحَ وجهه حتى خفتُ أن يثور به الجنون، فأقبلت عليه وتعلّلتُ بسؤاله ألك اخوة؟ ألم ينبغ فيهم نابغة. . .؟ قال: أن له أخاً يعذبه ويُوقِعُ به ضرباً ويغلله بالسلاسل ويشدُّه (بأمراس كَتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدل) وأنه أنزل به من العذاب ما لو أنزله بحجر لتألم
قلت: فأنت في حاجة إلى راحة ويحسن بك أن تأوي إلى مكان تتمدد فيه
قال: أني منصرف وسأجلس في نديّ كذا (هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن القهوة)
قلت: فهذا قرش تدفعه ثمناً لها فاذهب فاستمتع بها وبالتدخين وبالراحة في ذلك الندىّ فالمكان هاهنا كثير الضجيج والحركة.
واستُوفزت للقيام، ولكنه لم يَتَحَلْحَلْ من مجلسه
ثم قال: أراك الآن مُسْتَبْصِرا أني (نابغة القرن العشرين) بعينه
قلت: بل بعينيه اليمنى واليسرى معاً. . .
قال: لا. لا. أنك نسيت أن العرب تقول في التوكيد: عينهُ ونفسهُ وذاتهُ. (أي أنا نابغة القرن العشرين بعينهِ ونفسهِ وذاتهِ، فليس غيري نابغة القرن العشرين)
وكادت نفسي تخرج غيظا ولكني رأيت الحلم على مثل هذا يجري مجرى الصَّدقة، وقلت أن أدباء المجانين كثيرا ما يتفق لهم الإبداع الظريف إذا علَّلوا شيئا كذلك القاصّ الذي كان يقصُّ على العامة سيرة يوسف عليه السلام، فقال لهم فيما قال: إن الذئب الذي أكل يوسف كان اسمه كذا، فردوا عليه: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا هو اسمُ الذئب الذي لم يأكل يوسف. . .
فقلب للمجنون: فما العلةُ عندك في أن العرب لم يقولوا في التوكيد: عينه وأذنه وانفه وفمه ويده ورجله؟
فنظر نظرةً في الفضاء ثم قال: ليسوا مجانين فيخلطوا هذا الخلط، وإلا وجب أن يقولوا مع ذلك: وعمامته وثوبه ونعله وبعيره وشاتهُ ودراهمهُ. (هذا من جهة، ومن جهة ليس معي أجرة السيارة إلى بلدي وهي قرشان).
قلت: هذه هي أجرة السيارة وصَحِبتك السلامة، ونهضتُ واقفا، ولكنه لم يتحرك.
ثم قال: انك لم تعرف بعدُ (أنى أقول الشعر في الغزل والنسيب والمدح والهجاء والفخر، أني في الخطابة قُسُّ بن ساعدة أو أكثم بن صيفي، أني صخر لا ينفجر. . . يابس لا ينعصر، لست كالحجَّاج بل كعمر).
قلت: هذا شئ يطول بيننا ولا حاجة لك بهذه البراهين كلها فقد آمنت انك نابغة القرن العشرين في الأدب والشعر والخطابة والترسُّل.
قال: والفلسفة وكل معقول ومنقول. وقد انتهينا على ذلك
قال: ولكنك تحسبني مجنونا أو ممروراً (كما حسبتني الجرائد التي زعمت أن اختفائي في البيمارستان كان لجنوني الفكريّ أو لذكائي الطبيعي وهو الأصح. . . فبّين لهذه الجرائد أني خرجت أني سأطبع الأدب بطابع جديد).
قلت: ولكني لست مراسل جرائد. قال (فاجعلني رسالةً وراسلها عني أو اكتب لك أنا ما ترسله، وما جئتك إلا لهذا؛ ويجب أن تلحقني بجريدة كبيرة، وهذه الجرائد تعرفني كلها، وقد تناولتني من جميع النواحي الأدبية، فضلا عن أنى كاتب فذ، وخطيب فذ، وشاعر فذ. وهذا قليل من كثير، فهل أعوّل عليك في صلتي بالجرائد أولا؟)
قلت: انك تعرفهم ويعرفونك وقد بَلَوتهم وَبَلَوْا منك فلست في حاجة إلى عندهم.
قال: (انهم يخشون بآسي وقد حسبوني مجنونا استهوته الشياطين، وما علموا أن شيطان الشعر هو الذي استهواني كما أن شيطان الحب هو الذي استهواك. . . هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن الغداء ولا أكلفك شيئا. . .).
قلت: فهذا قرش للغداء في مطعم الشعب. وهم الآن يتعدون ويوشك إذا أبطأتَ أن توافقهم وقد استنفذوا الطعام، وأنت لا تجهل أن القرش في مطعم الشعب هو قرشان في القيمة.
قال: صدقت؛ يوشك أن أوافقهم وقد فرغوا من طعامهم وغسلوا الآنية. فلا بْقِِ هذا للعَشاء وسأطوي إلى الليل. . .
قلت: فمعك الآن ثمن الدخان، والقهوة، والغداء، وأجرة السيارة إلى بلدك. وقد كان نابغة القرن الثالث للهجرة واسمه (طاق البصل) يغني بقيراط ولا يسكت إلا بدانق. هذا من جهة، ومن جهة فخذ هذا القرش ثمناً لسكوتك وانصرف.
فشقَّ ذلك عليه وقام مُغْضَباً، وتنفسَّتُ بعده الصعداء الطويلة. . . . وفتحتُ النافذة واستقبلتُ الهواء النقيَّ أخذت في رياضة التنفس العميق، ثم زاغت عيني إلى الباب فإذا (نابغة القرن العشرين) مقبلٌ مع نابغة قرنٍ آخر. . . . . . .
(لها بقية) (طنطا)
مصطفى صادق الرافعي