الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 125/القصص

مجلة الرسالة/العدد 125/القصص

بتاريخ: 25 - 11 - 1935


صور من هوميروس

15 - حُروب طَرْوَادَة

صلح. . .

للأستاذ دريني خشبة

أشرقت الشمس أو كادت، وبدت ذيتيس تتهاوى في الأفق الغربي فوق الشبح، وهرعت عرائس الماء وعذارى البحر تحييها وتنشد لها الحان الفجر، ظلّها الندى. . .

وكانت تتأوّد تحت حملها الثقيل، فما إن بلغت سفينة أخيل حتى ألقت بالدرع المسرودة، وحتى هب ولدها يحييها بعين شَكْري، ومهجة حَري، وقلبٍ مُوجع حزين.

ما يزال جالساً أمام جثة بتروكلوس يبكيها، ويكلم فيها الإخاء والوفاء، ويناجي في لفائفها الود والولاء، وكان ما يزداد إلا لوعة، وكان ما يزداد إلا أنيناً!

وحنت عليه أمه تواسيه؛ ثم لفتته إلى الدرع والخوْذة، فحدجهما بنظرة قاتمة، وشكر لها هدية فلكان، ثم أوصاها بالجثة خير ما يوصى به الصديق. . . (ذودي الذباب فلا يمسها يا أماه، وارفعي عنها أذى أسرابه، واسقيها من المعتقة الصفراء، حتى تأذن الآهة فأعود إلي بتروكلوس بثأره. . . . . .)

وانطلق في غبشة الصبح يطوف بمعسكر الهيلانيين، داعياً إلى مجلس حربي.

وكان يهتف بالجند النائم هُتافاً عالياً، فينتفض المقاتلون وقد خفقت قلوبهم، واهتزت جوانحهم، وفاضت عبراتهم من الفرح للقاء أخيل!

وكان أجمل ذلك جميعاً أن ينهض اوليسيز متهالكا إلى نفسه، وديوميد مترنحاً في عطفه، ونسطور مرتجفاً كأنه في يوم حشر،. . . و. . . اجممنون، كان الحياء والحجل يصبغانه بحمرة الجحيم!!. . . . . . .

لقد كانت جروح القادة انطق برهان على ما جرّت تلك الخصومة الوضيعة بين اجاممنون وأخيل من هزيمة للجيش، وضياع للجهود، وعبث بآمال أمة ترقب أبناءها من وراء البحار! وانتظم عقد القادة، ووقف أخيل يتكلم، فأرهفت الآذان، وصغت القلوب، وتحركت الألسن تبحث عن بلل من الريق تبتلعه:

(أين أتريوس العظيم)

(أخي في الوطن)

(يا أمير هذه الجيوش الغازية)

أرأيت؟! أي جدوى عادت عليّ أو عليك من هذه القطيعة التي أججت نارها، واندلع بيني وبينك أوارها، وأي غنم أفدت من شحناء لم تكن بعظيم بن عظيم، بل سليل آلهة عظماء؟!

ألا ليتها أودت تلك الفتاة التي أثارت كل تلك العداوة، وأغرت جميع تلك البغضاء بيننا! أي وأرباب الأولمب، ليتها أودت يوم غنمناها من مدينة ليرناسوس، حتى لا تفرح طروادة بما تم لها من نصر، وما حاق بجحافلنا من خذلان، لم يكن شئ منه يقع لولا ما أثارته بريسيز بيننا!

ولكن لا! فالفتاة نقية وطاهرة وبريئة، لأنها لا تزر وازرة وزر أخرى؛ ولكننا، معشر الهيلانيين، ينبغي أن نذكر أبداً أن لنا ثأراً عند هؤلاء الطرواديين، لا محيص لهم من أن نأخذهم به، وان نطلبه عندهم، فلا نرتد عينهم حتى يُدال لنا منهم، وتكون لنا الكرة عليهم حين يظفرنا اتحادنا بهم. . .

لنكبح جماح نفوسنا إذن! وليطفئ كل من غيظه في سبيل هيلاس؛ ولتندمل تلك الجراح التي تفثأ قلوبنا فتكاد تقضي على آمال أمة؛ وتطيح بأماني الوطن!

اجاممنون! بن أتريوس العظيم!

تلك يدي أضعها في يدك، عهداً مخفوراً وذمةً وفيةً، ألا ندع أهواءنا تهدم ما طمحت إليه نفوسنا من قبل، وان نكون من الساعة يدا على عدونا، وإلباً واحداً. . . . . . . . . . . . . . .

والويل بعدها لمن يجرؤ من جند طروادة أن يتصدى لنا، أو يجازف بنفسه أمامنا. . . . . هذا رمحي! وتلك قناتي! ويا طالما قد ظمئت آلي الدماء. . . . . . . . . .!)

وتدفقت الدماء في عروق القادة، وشعروا كأن السماء ترفعهم إليها فتطهرهم وتزكيهم، وتعود بهم إلى الثرى قوماً آخرين!

ونهض أجاممنون من مكانه، ولم يستطع أن يتقدم إلي مكان الخطابة، فقال: (أيها الأصدقاء! يا أبطال هيلاس! يا وزراء مارس!

لست ادري ما أقول ردّاً على أخيل العظيم، بيد أنني سأفتح له قلبي، واكشف لكم أمامه عن سريرتي، وسيد الأولمب على ما أقول وكيل!

أبداً والله ما كنت سبب هذه المأساة التي أغرت بيننا العداوة، وأججت نيران هذه البغضاء! وأبداً والله ما آثرت أن يكون بيننا ونحن في هذا الأمر ما نحن، شئ من تلك القطيعة التي دفعنا ثمنها غاليا: أرواحاً مطهرة ودما زكياً وشبابا أنظر الشباب!!

أبداً والله ما أثرت من ذلك شيئاً قط؛ ولكنها المقادير، ومشيئة سيد الأولمب، وهذه الربات الغالبات (ارينيس) اللائي تحالفن علي، فغشّين بصيرتي، وأذهلنني عن نفسي، فأتيت ما أتيت على غير وعي مني، ولا هدى ولا برهان مبين!. . . ولقد ثاب إلى رشدي، وارتفع الحجاب عن بصيرتي، ساعة إذ أبصرت هكتور يأخذ جموعنا فيحصرهم بينه وبين البحر، كأشد ما يكون حصار بين موتين! عندها، ذكرت أخيل! وذكرت أنني آثم في حق أخيل، وان أخيل لو كان في هذه الحلبة لما ملك هكتور رشاده، وما ملكت رجلاه أن تحملاه! فزاغت عيناي، واستبنت ضلالتي، واستغفرت الآهة من أجل آثامى!

أخيل:

ما أعظمك حين نسيت غضبتك، وسعيت إلى خصمك، ومددت إليه بيمينك من اجل الوطن! مرحبا بك يا أخي؟ ومرحبا بصلح يغسل الضغن، ويذهب بالجفوة، ويرأب ما أنصدع من شملنا جميعا!

على أنى أرى أن أمهر صلحي وأؤكد محبتي، ياللهي الغالية، والهدايا العالية، وبكل مذخور ثمين؛ فهلم يا ابن بليوس هلم؛ هيئ الصفوف وجيّش الفرق، حتى أعود إليك بتذكاراتي. . .)

وأبى أخيل أن يلهو أحد في تلك الساعة، أو يشتغل إلا بالحرب. والاستعداد ليوم الفصل؛ فشكر اجاممنون، ورجاه أن يلبث معه حتى يأخذ كل عدته؛ ولكن اوليسيز الجريح يتدخل، ويرجو أن ينطلق اجاممنون فيأتي بالعطايا واللهى،. . . وبالغادة المفتان، بريسيز، فتنة الفتن، ونادرة الجمال؛ نقية كما هي، أخيلية كما فَصَلت من خِدْر مولاها يوم الخصام الأكبر. وأنا اقسم لأخي على ذلك ويقسم عليه ويؤكده اجاممنون).

ويقسم عليه ويؤكده اجاممنون، ويغسل أقسامه بالدمع السخين؛ ثم يأمر خادمه (تلثبيوس) فينطلق إلى حيث يأتي بخنزير سمين يذبحه ويطعم القادة منه. . . ويحلف أخيل لا يذوقن من طعام حتى يعود بثأر صديقه واعز الناس عليه: (بتروكلوس!).

ويلح عليه اوليسيز في أن يأكل: (لان الحرب شاقة، ويومها دهر بأكمله، ومقارعة الأقران مجهدة للأبدان. . .) وما يزيد أخيل إلا إباء!

وعاد اجاممنون

وكان اوليسيز نفسه يتقدم الراكب الذي اقبل من سفينة القائد العام يحمل هداياه لأخيل. ونهض اجاممنون فأشهد الآهة على نقاء القلب وصفاء النفس، ورضاء الضمير، ثم قدم الهدايا إلى ابن بليوس الذي كان يشهدها ويبكي!

وفي الحق، لقد كانت لُهىً أحسن اللُّهى، وهدايا على قدر مُهديها!

فهذه صناديق سبعة مقفلة، ملئت بالدر واليواقيت والزبرجد وبكل ما غلت قيمته من كتان مصر، وخز الهند، وحبر الشام. . . وهذه اثنا عشر من صافنات الجياد كأنما ولدت في ليلة واحدة ولوَّنتها الآلهة بألوان واحدة، وأضفت عليها عرائس الفنون من سحرها، فكانت كخيل أورورا!

وهذه أيضا عشرون دستاَ من النحاس المزركش، حليت سطوحها بالميناء والفُسيْفِسَاء، وتبارت في حفرها كل يد صناع وفكر عتيد. وفيها من أصناف الجوهر ما يبهر اللب ويشده القلب، ويذهب سنا برقه بالأبصار!

وهذه بدَرٌ عَشْر من الذهب الخالص يحملها اوليسيز ويتقدم بها أبكاراً سبعاً من جملة اللَّهى، كل منهن كأنها فينوس حقيقة، تميس كأنها بانة، وتبسم كأنها أقحوانة، وتبدي عن الدر النضيد!!

ثم. . .

هذه بريسيز! بريسيز الهيفاء، واصل هذا البلاء؛ الدمية التي أترعت بالمفاتن، وفاضت عيناها بسحر الهوى!

هذه بريسيز تبرز فتخطف الأبصار، وتتقدم فثب القلوب، تود لو تغمرها لمحة من جمالها النضر، وشبابها الفينان! فهل رأيت إلى العاصفة تقتلع الدوح، وتطيح بالأيك، وتهب على اليم النائم فيصطخب، والبحر الوادع فيضطرب. . . و. . . على الغدير ذي الخرير فيرقص من رعشة كان به مسّاً من الخَدَر!!

تلك هي بريسيز حين تبدت للقوم!

لقد هتف اوليسيز هتفةً ضاعت في إنذهال الملأ بما يرى، على ما تعرف من جبروت اوليسيز، وشدة أيده. . . . . . ثم هتف فتلفَّت الناس، وراح الرجل يكرر ما قيل من نقاء بريسيز وتمام طهرها؛ أخيل مطرق ساهم، لا يكاد يعي مما يقال شيئا!. . .

واستل اتريديس خنجره، وأهوى به على عنق الخنزير يذبحه، وهو في ذلك كله يصلي لأربابه، ويسبح بحمد السماء، ويشكر لسيد الأولمب ما أتم من صلح شريف بين سليلي الآهة. . . ونهض اجاممنون فقدم بريسيز إلى سيدها، وعقَّب بكلمة طيبة، ثم أشار أخيل إلى المرميدون فحملوا الهدايا، وانطلقوا إلى أسطولهم بها، ومعهم فتاة مولاهم في صفوف موسيقية، وفي موكب رهيب!

وانصرف القادة إلى زادهم، والجنود إلى ميرتهم، ولا حديث لهم إلا أخيل وفتاة أخيل، والصلح الذي باركته السماء، وكسبوا منه أن يكون فيهم أخيل!

أما بريسيز فقد وصلت إلى سفينة مولاها؛ فشدها أن ترى إلى جثة بتروكلوس في لفائفها وأكفانها، والى هذه الأم البارة، ذيتيس، جالسة عندها تبكي، وتدفع أسراب الذباب، وتسقي القتيل خمراً!!

لقد كانت بريسيز تعجب بالبطل منذ قريب، ولقد تركته ممتلئاً صحة، موفوراً شباباً؛ نضر الصبى، ريّانَ الأهداب! ثم عادت فكان اشق عليها أن تراه مُسَجَّى هكذا! لا نأمة! لا حركة! لا نَفَس! قتيلاً كأدنى من كان يقتل كل يوم روع، طعيناً كأقل من كان يطعن كل يوم نزال!!

ودارت الدنيا بالفتاة، فراحت تملؤها ندبة وبكاء!. . . واجتمع لديها الفتيات الأخريات يندبن ويبكين. . .

فما كان أروعه منظراً، وما كان أحره إخلاصاً!!

واقبل فونيكس على أخيل يواسيه

ولكن أخيل ما يرقأ له دمع، ولا ينقطع له نحيب. . . واطلعت أرباب الأولمب، فشهدت ما يأخذ البطل مت ن رُحَضَاء الحزن، وبُرَحاء الأسى، فأشار زيوس إلى مينرفا، فهبت إلى أخيل ترعاه، وتخفف عنه من بلواه. فلما كانت قاب قوسين من ابن بليوس، هالها أن ترى إليه يعصف به الحزن، ويوهنه الجزع، والجند مع ذاك قد بُوَّئُوا مواقف للقتال! فما هي إلا أن أمرت فونيكس بأن يصب الخمر المعتقة على صدر صديقه لينقذه من ضيقه، وليخفف عنه من وطأة الجوع. ويصدع فونيكس، فيتقدم إلى أخيل كاشفاً عن صدره، وصب السلافة الأولمبية فيشربها الجسم الضاوي، ويسترجع بها ما فقد من قوة. . . وما يفتأ فونيكس فوينكس يصب الخمر، وما يفتأ أخيل ينظر إليه مشدوها، حتى يكون في كل قوته من اثر الخمر، فيصيح صيحة الحرب. . . التي تهتز لها أبراج طروادة!. . .

فانظر إليه مُقَنَّعاً في حديد فلكان، وانظر إليه تحت تلك الخوذة التي لم تصنع مثلها يد الإله الحداد، وانظر إليه يداعب حربة شيرون، أستاذه السنتور العظيم؛ ثم انظر إليه كالبركان المضطرب يقذف النار من عينيه المغْضَبَتيْن، ومن حوله الميرميدون يملؤون الرحب ويسدون الشَّعاب. . .

ويل لك يا هكتور!

(لها بقية)

دريني خشبة