الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 12/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 12/العلوم

بتاريخ: 01 - 07 - 1933


الاقيانوغرافيا أو تقويم المحيطات

بقلم الدكتور حسين فوزي مدير إدارة أبحاث المصائد

قلما استطاع المرء مهما امتدت ثقافته أو رقّ شعوره أن يدرك وهو على شاطئ البحر مدى ذلك الجزء من الأرض يغطيه الماء. وعبثا يعلم أن البحار تغمر نحو ثلاثة أرباع الكوكب الذي نعيش عليه. وأنى له أن يقدّر معنى هذه الحقيقة ويفهم أثرها في تطور المخلوقات، بل في تاريخ البشرية منذ ظهر الإنسان على سطح البسيطة؟ وماذا يعلم عابر المحيط من أمره إذ يرى سفينته العظيمة تتلقفها الأمواج وسط دائرة الأفق المطبق على سطح زاخر من الماء؟ وهل أدرك في تلك اللحظات أنه رب سابح فوق هوات عميقة، لو أن جبال أيفر ست اقتلعت من رواسيها وغاصت في البحر لابتلعتها تلك الهوات دون أن يظهر أثر لقمّتها الشامخة بتاج جليدها الأبدي؟ وكيف يدري أسرار تلك المياه وحركاتها وما أودعته من مخلوقات كأنها أسرار الجنة مغلقة في قماقمها؟ وأنى له أن يفهم أثر الأفلاك في ذلك المنبسط العظيم من الماء؟ وكيف يطلع على المآسي الدائرة على أساس تنازع البقاء وسط ذلك الخضم الهائل؟

أدرك الشعر عن طريق إحساسه شيئا من تلك العظمة البالغة. ووقف الشعراء يقارنون بين اليابسة وما عليها، فهناك تترك العصور الجيولوجية طابعها في الثلاجات والجبال والكهوف والوديان. والعصور التاريخية آثارها في المعابد والمقابر والمنازل. ولعل الصحراء أشد ما على اليابسة قدرة على الكتمان، ومع ذلك فقد تنجح أو لا تنجح في إخفاء معالم الحضارات في بطون كثبانها، وبين البحر وقد شهد معالم التاريخين، وتنازعته القوى الطبيعية والقوى البشرية، واتصلت بين شواطئه الحضارات. وهو عدا زئير أمواجه صامت لا يفشي سراً من أسراره.

تأمل البحر الأبيض تلك البحيرة الضئيلة وسط المحيطات. در حوله وطالع أثر الحضارات العظيمة التي قامت على شواطئه. هنا فينيقيا ومصر ويونان وروما والبندقية وجنوا وعصر الأسبان (الربنسانس) والقرن التاسع عشر. أنصت إلى صفحته المصقولة لتستخرج حديثاً وحيدا. نثه عن ذلك الماضي، سله عن سفن يونان عائدة من طروادة لعله مخبرك بخبر اوديسيوس أو اينياس. أو عن سفائن الفرس وما أصابها من تمستوكل في سلاميس. أو عن أسطول كليوبطرة لتعلم كيف باع انطونيوس ملك العالم في اكتيوم مطاردا الهاربة الجميلة. سله عن محاربة بونابرت في أبي قير. أو عن أجدادنا الأقربين في نافارين، ذهبوا ليخنقوا حرية يونان وما استطاعوا أن يدافعوا عن حريتنا. سله عن ذلك التاريخ القريب والبعيد، بل سل عن الجاريات المنشآت وكانت منذ لحظة صروحا شامخة يمرح على سطوحها ألوف من الناس. أيّ جواب تتلقى من البحر غير اصطخاب أمواجه أو تلألؤ الشمس فوق صفحته اللازوردية؟

وليس من عجب أن نجد البحر في أساطير الأقدمين ركنا من أركان القوة الهائلة المجهولة المحيطة بالبشر. فقد طغى على البشرية جمعاء ذات يوم فأغرقها إلاّ فرقة صالحة استوت سفينتها على جبل الجودي.

وشطر (مردخ) العملاق (تيامات) فجعل من أشلائه الأرض والسماء. وركّز الأولى وكانت على شكل جبل متوّج بالسحب فوق البحر الذي تبزغ الشمس من شرقه لتغوص في غربه، وأمر جيهوفا الماء أن يغيض في مكان لتظهر اليابسة وسمّاها الأرض أقام صرح السماء كالقبة على سطح البحر.

واقيانوس أبو الآلهة تقمّص بحراً أحاط باويقومينا واتصل بالبحر الأبيض عند أعمدة هرقليس. ونفذ تحت الأرض لينبثق فوق سطحها عيونا وغدرانا وانهارا.

وقصّت عليّ جدتي حكاية ثور معروف يحمل الأرض على قرنه. وينقلها من قرن إلى قرن كما أنقل ثقل جسمي من ساق إلى ساق، حين يعاقبني مدرس الجغرافيا بالوقوف إلى الحائط وقد أردت تحويل خرافات جدتي إلى حقائق جغرافية.

- وأين تنتهي الأرض يا جدتي؟

- عند جبل قاف يا بني.

- وماذا بعد جبل قاف؟

- تنين يحيط بجبل قاف يا بني.

- والتنين يا جدتي؟

- سابح في البحر الذي يحيط بالدنيا والثور واقف على جزيرة من جزر ذلك المحيط. . .

وهكذا.

ولقد حاول اليونانيون أيضا تحويل أمثال هذه الصور الخرافية إلى حقائق جغرافية.

ولكن هيرودوت أنكر وجود بحر يحيط بالأرض من الشرق، وقد عرف في مصر خبر بعثة وجهها نيخو الثاني سنة 600 قبل الميلاد. في البحر الإريتري - بحر البلاد الحمراء أي بلاد العرب، فدارت حول أفريقيا حتى عادت إلى مصر بعد ان اخترقت أعمدة هرقليس (جبل طارق). ولم يصدق هيرودوت ما ذكر عن ملاحي تلك الرحلة من أنهم شاهدوا الشمس تشرق وتغرب عن يمينهم في إحدى مناطق طوافهم.

ورأى ارسططاليس الرأي القائل بأن الإريتري والاطلانطيقي بحر واحد، وتضاءلت الدنيا أمام علمه حتى قال باستطاعة سفينة شراعية ان تسافر في رياح ملائمة من أعمدة هرقليس (جبل طارق) حتى الهند.

وجاء العالم الإسكندري بطليموس في القرن الثاني قبل الميلاد وقال بان أفريقيا تتصل شرقاً اتصالا تاما بآسيا، وأن المحيط الهندي بحر داخلي. وكان يعتقد هو أيضا أن غرب أوربا قريب من شرق آسيا. ويرجع إلى هذا الرأي الذي ارتآه عالم كبير كبطليموس بعض الفضل في اعتزام كولمبوس الوصول إلى الهند من غرب أوربا واكتشافه أميركا.

وهكذا ظلّ العالم يتخبط في تفهم مدى المحيطات حتى بدأ البرتغاليون والإسبانيون رحلاتهم المجيدة في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. واستطاع فاسكو دي جاما تطويق رأس الرجاء الصالح. واكتشف كولمبوس جزر الأنتيل وقد حسب انه وصل إلى آسيا، ولم يدر انه كان في أسبانيا اقرب إلى آسيا منه وهو في دنياه الجديدة.

وسافر ماجلان من إسبانيا مخترقا الاطلانطيق فالمضيق الذي حمل أسمه فيما بعد فالمحيط الهادي. ومع انه قتل في الفلبين فقد عادت بعثته إلى إسبانيا بعد إتمام طوافها حول العالم في ثلاث سنوات.

وهكذا استطاع العالم في أقل من نصف قرن (1492 - 1522) أن يعرف أضعاف ما عرفه الأقدمون عن البحار، وإذا استثنينا رحلات العرب في المحيط الهندي بعد ذلك التاريخ فان الاستكشافات فقدت نشاطها منذ أوائل القرن السادس عشر حتى قام الكابتن كوك برحلته في البحار الجنوبية في أواخر القرن الثامن عشر. حينئذ استطاع الملاّحون أن يتصوروا عن المحيطات صورة اقرب إلى الحقيقة.

وإذا كانت الجغرافيا تشمل وصف المحيطات باعتبارها جزءاً من الكوكب الأرضي فقد اختصت الاقيانوغرافيا بدراسة المحيطات كوحدة كونية تغمر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ومع أن الاقيانوغرافيا تحاول أن تجد لها نسبا عريقا في جميع الاكتشافات السالفة الذكر، فالواقع أنها لم تنشأ كعلم مستقل إلا في النصف الأخير من القرن الماضي.

وعلينا الآن أن نترك التاريخ لحظة إذا أردنا ان نعرف إلى أي حد يحق للايقيانوغرافيا ان تتصل بنسبها إلى الاستكشافات الجغرافية قديما وحديثا، ولا يمكننا معرفة ذلك قبل الإجابة على السؤال التالي: ما هي الاقيانوغرافيا؟

الاقيانوغرافيا هي وصف أحواض المحيطات والظواهر التي تبدو على سطحها والعوامل والتفاعلات الحادثة في بطنها. ودراسة القاع وتكوينه منذ أن ينحدر الشاطئ القارّي تحت الماء حتى أبعد الأعماق، ودراسة المياه التي تملأ أحواض المحيطات وما فيها من مواد عالقة أو ذائبة وأثر الضوء والحرارة على المياه ومحتوياتها.

هذه هي الاقيانوغرافية الاستاتيكية

وفهم أثر الرياح والقوى العالمية (جاذبية القمر) على سطح الماء من أمواج ومد وجزر. ودراسة أثر الثلوج القطبية وما تسببه من تيارات.

تلك هي الاقيانوغرافيا الديناميكية

ودراسة الأحياء التي تغشى القاع أو تعيش في طبقات الماء المختلفة. وتلك هي الاقيانوغرافيا البيولوجية.

يظهر من هذا العرض السريع أن الاقيانوغرافيا تستعين بعلوم مختلفة. فدراسة خصائص الماء وما بها من مواد ذائبة أو عالقة، وأثر الضوء والحرارة عليها وحركة التيارات تقتضي تطبيق علوم الكيمياء والطبيعة. ودراسة القاع وتكوينه ليست الا تطبيقا جيولوجيا. كما أن تحديد مرتفعات هذا القاع ومخفضاته - بطريق قياس الأعماق - هي عملية طبوغرافية. وفهم أثر الرياح على سطح الماء يقتضي فهم الجو نفسه بطريق علم الأرصاد (الميتيورولوجيا) وتقدير ارتفاع المد وانخفاض الجزر وتوقيتهما يحتاج إلى معارف فلكية. وفي كل هذا يلجأ الاقيانوغرافي إلى الرياضيات لحصر تلك الظواهر الطبيعية، في دائرة المعادلات والقوانين. كما أن من البديهي أن ترتكز الاقيانوغرافيا البيولوجية على علمي الحيوان والنبات.

وقد يتساءل نوع من القراء، وقد فرغ من هذا التعداد، وما فائدة كل هذه الدراسات؟ وهذا النوع من التساؤل طبيعي في الناس ولكنه يتخذ في مصر لهجة يشوبها غير قليل من السخرية، ويظهر أننا برغم ما يبدو من مقدار نجاحنا في دوائر العمل (أو فشلنا بالأولى) رجال عمليون بالفطرة.

فإذا حدثتنا عن فينوس ميلو، أو مخلدات ميكلانج، أو بدائع دورر، أو نظرية آينشتاين. أو ناقشتنا في قيمة مؤلف عظيم انتهينا بك إلى (جميل!) (ولكن ما فائدة كل هذا؟) إذ يجب على المؤلف والفيلسوف والمصور والحفار ان يحض على فضيلة أو ينشئ مصنع طرابيش ليكون لعمله قيمة في نظر أبناء: (مصر. . . قطعة من أوربا).

ومن حسن حظ الاقيانوغرافيا أن تجيب السائل عن سؤاله بأكثر من جواب. على أننا قبل أن ننوه (بفوئد) الاقيانوغرافيا لن نتردد في القول بأنه إذا كان الأصل في البحث العلمي هو رغبة الإنسان في استخدام القوى المحيطة به، فانه يرجع في غير قليل إلى رغبة البشرية في فهم تلك القوى لمجرد ألفهم.

وإذا كان الكشف العلمي قد أدى إلى حضارة اليوم فان هذه الحضارة لم تكن لتبلغ هذا المبلغ لو لم يكن من اجل صفات الذهن البشري أن يفكر لمجرد التفكير، محاولاً فهم كنه الظواهر المحيطة به. وإلاّ فما الأديان وما الفلسفة؟

وإذا كان الإنسان قد قام برحلاته في المحيطات لغرض عملي، فليس معنى هذا أن ننسى فضل المفكر الذي يقف بشواطئ المحيط حائراً متسائلا إلى أين تمتد مياهه. ناظراً إلى السماء متسائلا ماذا وراء النجوم. والإنسان الأول قبل أن يعد عدته للانتفاع بمنتجات البحار، وقف بشواطئها يتأمل مياهها لا لشيء إلاّ لأن الإنسان حيوان مفكر. ثم لمح مخلوقا غريبا يلمع في طبقات الماء فغاص وراءه أو فكر في طريقة لصيده، لا لشيء إلاّ للرغبة في تعرف هذا المجهول. ثم أدرك بعد ذلك انه يستطيع الانتفاع بلحم هذا المخلوق في غذائه. رأيت أن لا مناص لي من أن أنتحي هذا الجانب من التفكير في عرض الكلام عن الاقيانوغرافيا. قبل أن أتحدث عن فوائدها، ذلك لأن هذه الفوائد مهما كبر شأنها فلن تستطيع أن تفسر للذهن العادي معنى المجهود الذي بذلته وتبذله الإنسانية لكشف البحار. ولقد سئمت أذني سماع سؤال واحد في الأيام الأخيرة بمناسبة البعثة الأجنبية التي تستعير السفينة الاقيانوغرافية المصرية (مباحث) للكشف العلمي بالمحيط الهندي. (ما فائدة هذه الرحلة؟)

وكان جوابي واحدا في كل مرة: (لا فائدة منها إلاّ أن تضيف كنزاً من المعرفة إلى كنوز العالم)

ما فائدة الاقيانوغرافيا

رأينا في بدء هذا المقال كيف جهد الملاحون جهدهم في تعرّف أنحاء الاقيانوسات. ولا يكفي في معارف الملاح أن يعلم باتجاهات الرياح وكيف يجد الجهات الأصلية في الليل والنهار. فهو إذا رفع نظره دائما إلى النجمة القطبية كان نصيبه من البحر نصيب ملاح (الراين) في أنشودة هايني (لوريلاي) إذ تأسر بصره الجميلة الجالسة عند أعلى الصخرة تمشط شعرها الذهبي، فإذا بقاربه يرتطم بالصخور ويتحطم.

فالملاح يجب أن يعرف من أعماق البحر ما يقيه شر المياه الضحلة لذا كان سبر الأعماق من أقدم ما قام به الإنسان من دراسة اقيانوغرافية. على أنه إذا كان سبر الغور هاما قرب الشواطئ وما إليها من مواضع قريبة القاع، فلم يكن يهم الملاح أن يعرف اعمق ما يصل إليه البحر. ويغلب على الظن أنه كان يعتقد بأن غوره في بعض الجهات لا نهائي كالجو. وأول محاولة سجلها التاريخ لقياس الأعماق البعيدة هي ما قام به ماجلان، إذ دخل المضيق المعروف الآن باسمه وأدلى مقياس أعماقه وهو ثقل معلق بحبل لا يزيد طوله على بضع مئات من الأمتار، فلم يرتكز الثقل على قاع، ولذا اعتقد انه وصل إلى أعمق بقعة في المحيط. والواقع أن العمق في مضيق ماجلان لا يتجاوز 4000 متر في حين انه اكتشفت أعماق أبعد من هذا (نحو 10000 متر).

كذا يهم الملاح معرفة نوع القاع في الأعماق القريبة. وقد روى هيرودوت خبر العلامة التي يعرف بها الملاحون اقترابهم من شاطئ مصر (وهو شاطئ منخفض لا يرى إلاّ عن قرب) فهم إذا عاد ثقل مقياس الغور محاطا بالطين وسجل عمق أحد عشر ذراعا عرفوا انهم على مسيرة يوم من شواطئ مصر.

وإذا كانت الأعماق السحيقة لا تهم الملاح فهو مهتم في جميع أنحاء البحر بالعميق منها وقريب الغور بمعرفة اتجاه التيارات. وقد لاحظ بنيامين فرانكلين في سنة 1770 وكان مديرا للبريد في إنجلترا الجديدة أن البريد المرسل من إنجلترا يصل أميركا على السفن الأميركية أسرع من وصوله على السفن الإنجليزية. فأخبره القبطان الأميركي بخبر تيار بحري يتجه في المحيط الاطلانطيقي إلى الشرق تنتفع به السفن الأميركية في الذهاب وتتجنبه في الإياب. بينما تجهل أمره السفن الإنجليزية. وحينما سافر فرانكلين إلى فرنسا حرص على تدوين ملاحظاته عن هذا التيار (جولفستريم) ورسم خريطة له ظلت سراً حتى طرد الإنجليز من مستعمرتهم الأميركية الكبيرة، وقد كان هذا الاكتشاف بدء عهد الملاحة الترمومترية. إذ كان الملاح يتعرف وجوده في طريق هذا التيار بملاحظة ارتفاع درجة حرارة الماء من معدل معروف للاقيانوس في المناطق التي لا يمر بها التيار. وللملاحة الترمومترية فائدة عظمى في الضباب إذ يدل انخفاض درجة حرارة الماء انخفاضا سريعا وغير عادي على اقتراب السفينة من جبال ثلجية عائمة.

ويعرف الملاح أيضا حركات المد والجزر. إذ بدون معرفتهما تتعرض سفينتهم لأخطار الارتطام بالصخور كما لا يستطيع تعيين وقت دخوله المرافئ.

ويعنى صانعو السفن ومهندسو الموانئ بدراسة خصائص ماء البحر لاختيار المواد التي ينشئون منها قاع السفن وحواجز المياه والأرصفة فلا تؤثر فيها مياه البحر وما بها من أملاح ذائبة وخصوصا كلورور الصوديوم.

وإذا سقنا الملاحة والهندسة البحرية مثلا على الفنون والحرف التي تنتفع بالمعلومات الاقيانوغرافية فان علينا أن نشير إلى حرفة تعد مدينة للاقيانوغرافيا بغير قليل من تقدمها. تلك هي حرفة الصيد. ولقد سبق أن كتبنا عن (بحوث مصائد الأسماك) وهي في البحار فرع من الاقيانوغرافيا محدود بأغراض نفسية محضة. وسنعود في فرص أخرى إلى هذا الموضوع وإنما نكتفي الآن بالإشارة إلى كنوز البحار من أسمك وحيتان ووحوش وسلاحف ولآلئ ومرجان وأعشاب ينتفع بها الإنسان لغذائه وزينته وتدخل في صناعاته إذ يستخرج منها الزيوت والأسمدة واليود الخ.

وأخيراً عرف المتتبعون أخبار العلم بخبر تلك المحاولة الجبارة التي يقوم بها جورج كلود للانتفاع بقوى المحيطات الحرارية. فهذا العالم الفرنسي يبني تجاربه على أساس ظاهرة كشفت عنها الاقيانوغرافيا. وهي أن اختلاف درجة الحرارة بين السطح والقاع في البحار الاستوائية كبير إلى حد إمكان تحويل هذا الاختلاف إلى قوة محركة.

هذا عن الفوائد العملية المباشرة. أما عن فائدة الاقيانوغرافيا للعلم نفسه فقد وجد فيها علم الأرصاد خير معين على تفهم الظواهر الجوية على سطح الأرض. فالجو بحر غازي يتأثر بالحرارة والضغط وجميع العوامل الأخرى التي تؤثر في البحر. ولما كان هذا الأخير بطيء التأثر بالنسبة إلى الجو الأهوج، فأن بطئ الظواهر البحرية خير معوان على تفهم ظواهر الجو السريعة كما يفهم الإنسان حركات العدو، أو القفز العالي عن طريق فيلم سينمائي يدار ببطء، كما أن سطح المحيط هو خير منطقة لدراسة الجو في أبسط مظاهره، فبينما تكثر المرتفعات والمنخفضان على سطح الأرض ويتغير الضغط الجوي تبعا لها، نرى البحر بسطحه المستوي وصفحته المائية يحول دون التغيرات السريعة في الضغط الجوي الناشئة في الأرض عن مرتفعاتها ومخفضاتها. كذا برودة الهواء وسخونته أقل استعداداً للتغير الكبير السريع فوق الماء منها فوق اليابسة.

وكان من الطبيعي أن تنتفع الجيولوجيا من الاقيانوغرافيا، ففي دراسة قاع المحيطات الحالية وتفسير تكوينها ما يعين الجيولوجي على أن يفسر تكوين بحار العهود الجيولوجية المنقرضة.

وتبدو استفادة علم الحيوان من الاقيانوغرافيا بمقارنة مجموع الحيوانات الأرضية والحيوانات البحرية المعروفة. فإذا فتحت أي كتاب حديث في علم الحيوان عند الفهرس وجدت أن فصائل الحيوانات البرية لا تمثل إلاّ نسبة ضئيلة في مجموع الحيوانات المعروفة.

وبعد أليس هذا طبيعياً؟ فمساحة البحار تعادل نصفا وضعفي مساحة اليابسة. وإذا كانت الأحياء الأرضية تعيش فوق السطح أو تغادر هذا السطح قليلاً لتطير في الهواء، فالأحياء المائية تغشى المحيط عند سطحه وفي جميع طبقاته وفوق قاعه. فأي عجب أن تكون أكثر بكثير من الأحياء البرية؟ ونعرف أن عمق المحيط يتراوح بين متر وعشرة آلاف متر، هذا إلى أننا الآن أقرب إلى حصر الأنواع الأرضية منا إلى الإحاطة بجميع الأنواع البحرية.

الآن وقد عرفنا أغراض الاقيانوغرافيا نستطيع الحكم بأنه إذا حق لهذا العلم أن يتصل بنسبه ونشأته إلى رحلات جوّابي البحار حتى أواخر القرن الثامن عشر، فان عهد الاقيانوغرافيا الحقيقي لم يبدأ إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهذا ما ستراه في مقالنا التالي إذ نتابع قصة البحار قاصرين حديثنا على بعثات الاستكشاف الاقيانوغرافي.