مجلة الرسالة/العدد 119/من تراثنا الأدبي
→ يوم افتتاح المدارس | مجلة الرسالة - العدد 119 من تراثنا الأدبي [[مؤلف:|]] |
في الأدب الإنجليزي ← |
بتاريخ: 14 - 10 - 1935 |
1 - أبو العيناء
بقلم محمود محمود خليل
أبو العيناء ونسبه
أبو العيناء كاتب منشئ من كتاب القرن الثالث الهجري الحافل بأساطين الأدب وجلة العلماء، ولكنه كاتب ضرير البصر من العباقرة الذين سجل لهم التاريخ الذكر الحسن، أمثال أبي العلاء المعري وبشار بن برد وأضرابهما، وكأن سنة الله قد جرت في الخلق أن يقترن فقد البصر بالنبوغ غالبا والعبقرية، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وإذا كان القدر قد أتاح لشاعر المعرة فطاحل الكتاب والأدباء يدرسونه ويمحصونه، ويستخلصون فلسفته من شعره، فلا أقل من أن يدرس أبا العيناء الضرير شخص مثلي، وفي اعتقادي أن شخصية أبي العيناء جذابة فكهة كما سترى، وهي تفضل شاعر المعرة العبوس المتبرمة من هذه الناحية
يحدثنا الرواة أنا أبا العيناء اسمه أبو عبد الله محمد بن القاسم ابن خلاد بن ياسر بن سليمان، وأصل قومه من بني حنيفة من أهل اليمامة، ولحقهم سباء في خلافة المنصور العباسي، فلما صار ياسر في يد المنصور أعتقه، فهم موالي بني هاشم
مولده ونشأته
ولد أبو العيناء بالأهواز في آخر المائة الثانية للهجرة، ونشأ بالبصرة، وبها طلب الحديث وكسب الأدب؛ وكان على استعداد تام للحرص على كل ما يلقي عليه فأثمرت فيه تربيته بالبصرة الثمر الطيب، وأخرجته رجلا فذا في الحياة، مثقفا إلى درجة حسنة، ولقد هيأته تلك الثقافة إلى رواية الأخبار الطريفة، والملح اللطيفة، والأشعار الجيدة، حتى لقد بلغ الأمر أن يعرض عليه المتوكل العباسي أن يكون نديمه على شرابه، ويتمنى عليه لو يجيبه، فيمنعه عمى بصره عن الوصول إلى تلك المرتبة السنية، وإن كان قد حاز منزلة سامية من قلب المتوكل. ونرى الأصفهاني في كتابه الأغاني يجعله من رجال سنده في جملة أخبار أتى بها في كتابه، يقول في سند له: أخبرني قدامة عن أبي العيناء عن الع ويمضي أبو الفرج فيروي لنا حديثا طويلا بهذا السند في أمر زواج ليلى العامرية برجل من ثقيف وشعر مجنون بني عامر حين بلغه ذلك، وسند آخر أتى به أبو الفرج. قال أخبرني محمد بن خلف، قال حدثنا أبو العيناء عن القحذمي عن أبي صالح السعدي، ثم يمضي في رواية خبر طويل يتعلق بعمر بن أبي ربيعة، وكذلك ينقل عنه الأبشيهي صاحب كتاب المستطرف، وغير هذين المؤلفين كثير، وعد المؤلفين لأبي العيناء من الرجال الذين يعتمد عليهم في رواية الأخبار والأشعار ما هيأه لذلك إلا نشأته بين أولئك الفطاحل من البصريين الذين تغذى بلب علومهم، واستصفى ثمار عقولهم
كان أبو العيناء إذا يتردد على علماء البصرة يأخذ عنهم. فهل كان في هذا الوقت أعمى أم بصيراً؟ يقول الرواة إنه ما عمى إلا بعد أربعين عاما من عمره، وهو زمن ليس بالقليل يكون أبو العيناء قد أخذ فيه بحظ وافر من متعته ببصره، والغريب في هذا حقا أن الرواة يسيطرون لنا أسطورة عن سبب عماه؛ وهي أن جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب (ض) فأساء مخاطبته. فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكل من عمى منهم فهو صحيح النسب، فهذا الخبر إن صح ينبثق منه شعاع من الحقيقة يتحكم فيه قانون الوراثة، فقد ورث عن آبائه سلاطة اللسان
قال أبو العيناء حاكيا عن نفسه: أنا أول من أظهر العقوق لوالديه بالبصرة، قال لي أبي إن الله قد قرن طاعته بطاعتي، فقال تعالى: (أن أشكر لي ولوالديك) فقلت يا أبت إن الله تعالى قد أمنني عليك ولم يأمنك علي. فقال: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم)، ولم يقف بسلاطته تلك على أهله وذويه، فان الناس كلهم كانوا يخافون معرة لسانه، والسهام التي يقذفها في كلامه، وتستطيع أن تجد له أخبارا كثيرة في كتب الأدب تؤيد ما ذهبنا إليه، فهذا موقفه مع فتى ماجن أراد العبث به مرة. فقال له يا أبا العيناء متى أسلمت؟ قال حين أسلم أهلك وأبوك الذين لم يؤدبوك. . . الخ ذلك الخبر، وموقف آخر مع عيسى بن فرخان شاه الذي يتولى الوزارة ويتيه فيها على أبي العيناء، فلما عزل لقيه أبو العيناء في الطريق فسلم عليه وأحفى فقال له: والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمد لله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة، فلقد أصابت فيك النقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، فلقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك، ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزهنا عن قول الزور فيك، فقد والله أسأت حمل النعم، وما شكرت حق المنعم
وموقف ثالث يقفه أبو العيناء مع بعض الوزراء في مجلسه إذ يمدح البرامكة ويذكر سخاءهم وجودهم فيقول الوزير إنما هذا من تصنيف الوراقين، وكذب المؤلفين، فقال أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فأسكته وعجب الحاضرون من إقدامه عليه
فهذه الأخبار وغيرها كثير تعطينا فكرة صحيحة عن سلاطة لسانه التي امتاز بها بين الأدباء المعاصرين له، حتى كان الوزراء وأرباب المناصب وغيرهم يخافونه ويتقون لسانه بل يدارونه، وتلك اللسانة كما قلت كانت موروثة عن آبائه، فقد علمنا كيف أقدم جده الأكبر على علي بن أبي طالب (ض)، وأساء مخاطبته حتى دعا عليه، وحتى أستجيبت دعوته فيه وفي أحفاده من بعده. ولكن أبا العيناء يعتذر عن بذاءة لسانه حين سأله المتوكل على الله بقوله بلغني عنك شر. فقال يا أمير المؤمنين إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله وذم، فقال في التزكية: (نعم العبد إنه أواب)، وقال في الذم: (هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم) وقال الشاعر:
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم اذمم الجبْس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشقّ لي الله المسامعَ والفما
وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع السني والدنيء بطبع لا يتميز فقد صان الله عبدك عن ذلك
وفي الحق إن أبا العيناء لم يكن يسفه على أحد من الناس إلا على من يتعرض له بإساءة، فإذا تجرأ على هذا شخص فويل له من لسانه، ولقد أجاب المتوكل إذ قال له كم تمدح الناس وتذمهم فقال ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء، وغرضه بهذا أنه يعطي كل إنسان ما يستحقه من مدح أو ذم، ولقد مدح أناسا كثيرين ولكنه ذم أكثر ممن مدح، وإنا وإن كنا نعتقد أن أبا العيناء قد أسرف في الذم إسرافا كثيرا، فان من الحق علينا أن نعترف أن هناك عوامل أخرى جعلته يسرف هذا الإسراف، وسنعرف بعد ما هي هذه العوامل
(يتبع) محمود محمود خليل