مجلة الرسالة/العدد 119/في الأدب الإنجليزي
→ من تراثنا الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 119 في الأدب الإنجليزي [[مؤلف:|]] |
كتب ابن المقفع ← |
بتاريخ: 14 - 10 - 1935 |
3 - الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
لم يحاول شكسبير إظهار شخصيته من خلال رواياته، ولكن كارليل يقول عنه: (إن روايات شكسبير هي كنوافذ متعددة يظهر من خلالها ما كان يدور في نفسه من الأفكار والخواطر). ومن كل رواية من رواياته يمكننا أن نتبين الحالة العقلية التي كان فيها لما أنشأها وكتبها. ففي هملت لم يكن تفكيره محصورا إلا في البحث في الأشباح، بينما كان في مكبث مشتغلا بالسحر والسحرة
وفي كل من روايتيه تتحقق النبوءات التي تتنبأ بها الأشباح والساحرات. ولكن هناك ثمة فرقا ضئيلا بين كل من الروايتين، وذلك الفرق هو أن نبوءات الشيخ في هملت هي من أمور الماضي بينما هي في مكبث أمور المستقبل
وقد قال جبسن عند كلامه عن العاصفة ما يؤكد هذه النظرية، فهو يقول: (هل كان في استطاعة شكسبير أن يجعل من جميع هذه النبوءات الخيالية حقائق راهنة إن لم يكن يعتقد الاعتقاد كله بهذه الأمور من عالم الخيالات والأشباح؟)
وفي رواية الملك هنري الرابع نرى هتسبر يعارض اعتقاده جلندرو أن في استطاعته أن يسخر الأرواح والشياطين في مهامه الخصوصية، فهو يتحداه بقوله: (إنك تعتقد أن في إمكانك مخاطبة الأرواح ولكن هذا في استطاعتي أنا وفي استطاعة أي رجل آخر. وقد فاتك يا هذا أنها لا تجيبنا عند ما ندعوها أو نخاطبها)
وهذا الشك لا يلبث أن يزول عندما يقدم جلندور البرهان الكافي فتخاطبه الأرواح كأنه فرد من جنسيتها؛ وهذا الاعتقاد بالخرافات كان مستوليا على شكسبير لدرجة عظيمة حتى أنه كان يضع المحبين والمجانين والشعراء في مصاف من يستطيعون الاتصال بالعالم العلوي، وفي رواية هنري السادس نراه يجمع بين ما هو في عالم العقائد وما هو في عالم الخرافة، وقد لخص عقيدته في رواية هملت إذ يقول: إن هناك في السماء أمورا عدة يا هوراثيو مما ليس في استطاعة العالم البشري فهمها أو التفكير فيها)
أو حين يقول في رواية أخرى:
(يقولون إن زمن المعجزات قد انتهى وآن لنا أن نفكر في كياننا الفلسفي فقط فنجعل من الخرافات مسائل عصرية يقبلها العقل ويسيغها المنطق. ولما كنا نستهزئ بالمخاوف والأشباح متسترين برداء من العلم والمعرفة فعلينا ألا نكون عرضة لمخاوف غير مرئية وهذا مما لا يتأتى لنا)
إن في استطاعتنا أن نستنتج من هاتين الفقرتين السابقتين أن شكسبير كان يؤمن بالخرافات والغيبيات، فهناك عدد غير قليل من الأمور التي ليس في استطاعتنا فهمها أو التعبير عنها. فلا يمكن مثلا إنكار وجود عدد من المعجزات التي يكثر حدوثها فوق ظهر هذه البسيطة، وما العالم العلوي إلا محيط لا يمكننا حل ألغازه وتفهم معانيه. فإن من طبيعة البشر أن يكونوا خاضعين لعالم غير عالمهم يجهلونه ويخافونه، وما المحاولات التي يقوم بها العلماء لإسناد كل ظاهرة طبيعية إلى عاملها العلمي إلا محاولات خالية من الإقناع وعن طريق البرهان
قلنا إن شكسبير كان يؤمن بعدد من المخلوقات المغيبة، وقد جمعها في رواياته محاولا إظهارها بصورة رائعة من الخيال والسمو الفكري، وأولى هذه الأنواع وأهمها هي ظاهرة الجنيات
الجنيات
إن هذه الجنيات هي بقايا العبودات والآلهة المحلية التي كانت سائدة على القرى الإنكليزية في عصر من العصور، وما العقيدة الشائعة أن هذه الجنيات قد تسلسلت من الآلهة اليونانية والرومانية القديمة إلا حديث خرافة لا أصل له من الصحة والصدق. وهناك نفر غير قليل من النقاد يرجعونهن إلى أصل بشري، فما هن إلا ذرية سكان بريطانيا الأقدمين الذين طردهم الكلت عند استيلائهم على البلاد، فلم يجدن غير الغابات ملجأ يلجأن إليه ومكانا يستطعن العيش فيه مدة حياتهن القادمة، وأصبحن يعرفن فيما بعد بالجنيات
وهذه المخلوقات العجيبة كانت على أنواع عدة، فمنها ما هو أسود اللون، ومنها ما هو أخضره آو أبيضه أو رماديه، وفي كثير من الروايات يصفهن شكسبير، فهو يقول في موضع من روايته (نساء وندسور المرحات) واصفا إياهن بقوله: إنهن سوداوات اللون أو رمادياته أو خضراوته أو بيضاوته
وكن لا يخرجن إلا في غسق الليل، فيعقدن مجالس الأنس والطرب تحت ظلال الأشجار، بينا أهل الأرض نيام. وفي (العاصفة) نرى بروسبيرو يخاطب إحدى هذه الجنيات قائلا: (ستخرجين الليلة ويصيبك فيها برد شديد، قد يؤدي إلى تشنج في أعصابك فتألمين منه أشد الألم، وستحيط بك الجنيات في الليل فينفذن فيك مالهن من قوة)
تعيش الجنيات في الحقول المغطاة بالأزهار والرياحين، أو في الأماكن الخلوية من اليابسة والماء، سيان عندهن التلال والوديان، الغابات والمروج؛ وكثيرا ما تراهن بجوار الينابيع وضفاف الأنهار؛ أو في أعماق المحيطات والبحار، وقد وصف الشاعر أحد هذه الأمكنة بقوله: (إني لأعرف شاطئا تهب عليه الرياح، وتنبت فيه أزهار الياسمين والزنبق محاطة بالورود الجميلة المنظر) أما الملكة فهي تود الاجتماع في جميع الأماكن التي اعتدن فيها اللقيا، فهي تلقي الأوامر على أفراد رعيتها قائلة: (لنلتقي على التلال أو في الوديان، بجانب الينابيع المرصوفة، وعلى شواطئ الأنهار الذهبية، أو في أعماق البحار الرملية، وهناك نحتفل برقصنا على موسيقى الرياح الهائجة)
إن أشهر أسماء هذه الجنيات التي ذكرها شكسبير في رواياته ثلاثة أولها أبيرون الذي يعتبر ملكا على هذه الطائفة من المخلوقات؛ أما تيتانيا فكثيرا ما يطلق عليها اسم الملكة ماب وهي تعتبر باعثة للأحلام كما يظهر في رواية روميو وجوليت: (أني لأعتقد أن الملكة ماب كانت معك فهي وسيطة الجنيات وملكتهن لا يزيد حجمها على حجر صغير أو إصبع من أصابع الرجال، وكثيرا ما تصبح بشكل ذرة ترتكز على أنوف الناس عند نومهم) فهي تبعث الأحلام والأخيلة اللذيذة، ولكنها لسوء حظ البشر في صراع دائم مع زوجها الملك أبيرون، ومن هذا الصراع قد يتأتى من الشرور والأضرار لبني البشر. أما آخر هذه الأسماء وهو بك فهو رسول الملك وحامل أوامره
في الفقرة السابقة رأينا الملكة ماب بحجم صغير، ومن هذا يمكننا أن نستنتج أن الجنيات ذوات حجم ضئيل، وقد وصفهن شكسبير في رواية العاصفة بقوله (حيثما تهبط النحل أهبط أنا وفي استطاعتي أن أنام دخل جرس من الأجراس فأتخلص من نعيق الغربان والبوم). وقد يتمكن من الظهور بحجم أصغر فيختفين داخل كؤوس الشراب
ولا ينتظر من هذه المخلوقات الضئيلة إحداث أمر سيئ للبشرية لولا أنها في نزاع دائم مستمر. نعم إن صفاء نيتهن كان سببا في خلق بعض الآلام إلا أنهن كن لا يلبثن أن يزلن ما أحدثن بمهارة وروية. وكثيرا ما نراهن يتعاطين المزاح فيروعن فتيات القرية ويخفنهن فرأينا إيموجن في سمبالين تخاف هذه المخلوقات وتسأل وصيفتها أن تلازمها لتحميها منهن فهي ترجوها قائلة (أرجوك حمايتي من الجنيات ودلاج الليل)
ولكنا نراهن في الغالب يحفزهن حب الخير وعمله فيقمن بأعمال جمة لفائدة البشرية ونفعها ولا يعد روبن هود إلا فاعلا من فعلة الخير ومريده. فهو يتلقى الأوامر من مليكه ويعرضها على أفراد الشعب وهو يستمع إلى أبيرون حين يقول: (على كل جني أن يقف بالباب المعين له، وعليه أن يبارك من في الغرفة ويدعوا لهم بالسلام والطمأنينة). وكثيرا ما دعت الجنيات للأزواج الحديثي العهد بالسرور والبركة وتلقفن أطفالهم بعين الرعاية والعطف حتى يشبوا ولم يعرفوا الألم قط. وهاهو أبيرون يقول (دعنا نذهب إلى فراش كل عروس جديدة فنباركها فتلد غلاما يلازمه السرور وترعاه العناية)
(يتبع)
خيري حماد