الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 118/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 118/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 118
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 07 - 10 - 1935

23 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية السلبية من مذهب نيتشه

الإنسان

للأستاذ خليل هنداوي

الرجل ذو الضمير الفاسد يحس في نفسه حاجة مرضية للتألم، وهو لا يشعر بأن الحاجة تبعثها علة حقيقية هي وليدة هذا الضغط القاسي على إرادة قوته، وإنما يدرك فقط أنه متعاقد مع الألوهية على دين لا يمكن أداؤه. ومن الحق أن يبدو له أن هذا الدين شديد تهون في سبيله الآلام. فهو يحتمل الشقاء ليهدي غيظ دائنه العنيف، وليكفر عن خطيئته. وهاهو ذا الآن يلتمس العذاب يتذوقه ألوانا ليفي بدين يزعم أن لا نهاية له. يحمل الألم ولا غاية له إلا الأم ليطفئ في نفسه رغبة التفكير عن ذنبه. وهيهات أن تشبع هذه الرغبة أو تطفأ!

فكرة الخطيئة بعثت مرة ثانية، وأصبحت الآلة التي يتوعد بها الكاهن، وبها يسيطر على الأرواح، وبها انقادت له جموع الأشقياء ووضع يده على النعاج المتألمة التي أبصرها في الطريق. مضى قدما إلى أولئك المنحطين العاملين بشقاء يجهلون علته، يتحرون عن العلة أو الواحد المسئول عن انحطاطهم الغارقين فيه. فيوحي إلى هؤلاء بأنهم هم أنسهم كانوا سبب شقائهم الحقيقي، وأنهم ينبغي لهم أن ينظروا إلى هذه الآلام كتضحية صغيرة عن خطيئاتهم التي اجترحوها، فليتقبلوها - بطرب - كامتحان أراده الله، فآمنوا به وقبلوا بهذا الحل منه، وتلقحوا برضا بهذه الفكرة المسممة عن الإيمان بالخطيئة. وفي أوروبا اليوم مذهب يضم هؤلاء الخاطئين التوابين الذين يمشون بأجساد مريضة وأعصاب ساكنة ونفوس ذاهلة، فرائس لليأس والهذيان. جوعهم دائم للعذاب، تستولي عليهم فكرة الخطيئة والهلاك الأبدي

وفي النهاية يجد نيتشه أن التعاليم المسيحية كديانة وكمثل أعلى، لا تقود إلا إلى العدمية يجد أنها خلقت عالما مفعما بالأوهام المجردة، وتخيلت عللا خيالية وأعمالا خيالية، وروابط بين الأكوان خيالية. أسست علما طبيعيا وهميا مؤسسا على إنكار الأسباب الطبيع والعلاقات الطبيعية بين الأشياء، وأسست علم نفس خيالي يرتكز على تفسير خاطئ للحوادث الطبيعية وعلى فلسفة خيالية، وبينا كان الرجل المسيحي دائبا في بناء وجود خيالي كان يهدم الوجود الحقيقي، يقاوم الطبيعة (أصل كل بلاء) في سبيل الإله (أصل كل خير وهناء)، فولدت الأوهام المسيحية من بغض الحقيقة، فهي نتيجة إنسانية منحطة، تربو فيها كمية الشقاء على كمية الفرح، إنسانية تعبة سائمة، متألمة، تميل إلى التشاؤم وعدم الحياة، ولا تجد راحتها إلا في أحضان العدم

- 4 -

إن عمل التاريخ الأوربي هو ظفر شريعة العبيد على شريعة الأسياد، لأنه قبل تلك الشريعة وعمل على اعتناقها وكفر بهذه الشريعة. . . وإنها لمعركة لا تزال مشبوبة محتدمة عشرين قرنا بين (روما) وارثة الحضارة اليونانية ومثلها الأعلى الأرستقراطي، الذي هو أقوى مثل وأسمى مثل تحت الشمس، واليهودية موطن البغض ومنزل الروح (الكهنوتي)، انتصرت اليهودية والنهضة الحديثة التي شبت في أوروبا قامت في وجهها عثرات وعقبات، كثورة (لوثر) والبروتستانت، وكثورة الباستيل في فرنسا، وانهزام نابليون، هذه نائبات تتالت فحالت بين بلوغ النهضة غايتها، فآلت إلى انتصار شريعة العبيد، فأوروبا الآن غارقة في انحطاط عميق، يقضي على ما تبقى في عروقها من حياة، حتى ليخشى أن يتقهقر النوع الإنساني إلى الوراء، فلا يورث بعد اليوم إلا صورا من الخزي والعار

هذه هي شريعة العبيد التي تسيطر على العالم تحت اسم (ديانة الألم الإنساني)، فلنفصل الآن هذه الديانة وما تنطوي عليه

إن تحليلنا لعاطفة الشفقة التي يتبجح بها اليوم معلمو الجيل الحاضر يثبت لنا أن هذه العاطفة ليست من العدل والجمال على المثال الذي يرون. إن عاطفة الشفقة - في الحقيقة - يتولد منها سرور أناني. إذ نحن نصنع مع الآخرين الخير كما نصنع الشر. غايتنا من ذلك أن نظهر شعورنا بقوتنا، ونخضعهم لسلطتنا. أما الرجل القوي الشريف فهو يفتش عن كفء له ليبادله النضال ويحني هامته بازاء قوته، وتراه يحتقر الفريسة الذليلة السهل انقيادها، وتراه ينحرف عن الخصوم الذين لا يجد فيهم أكفاء وأمثاله. أما الضعيف فهو يميل إلى الظفر السهل، والفريسة الخانعة، وهل كان ضعيف أو شقي يوما مهيبا؟ وإن الإنسان بطبيعته وإرادته يجنح إلى إحسان لا إلى شقاء

إن الشفقة هي فضيلة الأنفس المتوسطة، تتدرب عليها دون وازع ولا مانع، حتى إذا نزلت هذه الشفقة ساحة النبيل أصبحت علامة الانحطاط، وذهاب الكرامة، وخساسة الأصل. إن النبيل يكتم آلامه وهمومه ولا يبوح بها. يصرف عن نفسه الإرادة الحسنة كما يصرف الإرادة السيئة، والإنسان المتألم القبيح قد يكون على حق في كرهه للشهود الذين يبوحون بسر فاقته وقبحه وتعاسته. هؤلاء الشهود الذين لا يستحون من أن ينظروا إلى ما كان ينبغي له أن يظل خفيا عن العيون، فيحملون هذا الشقي منه شفقة ما طلبها وما تمناها

إن الشفقة ليست بعاطفة مفيدة فحسب، بل هي عاطفة منحطة أيضا. لنتصور أن ديانة الألم قد انتشرت بين الناس فما هي النتيجة؟ إن كمية الألم تزيد بدل من أن تنقص، ويصبح الإنسان مجبرا على حمل آلامه الخاصة وجزء من آلام الغير، حملا على حمل، وبهذا تضعف الشفقة من حيوية الحياة، وتجعل من الألم داء ساريا. ناهيك بأن ديانة الشفقة تضاد المذهب الطبيعي السائد حكمه في الأحياء، وهو بقاء الإصلاح والأنسب الذي يقضي بفناء الكائنات التي لا يصلح تركيبها للحياة، وقد أتاها حظ بخروجها ظافرة من معركة الحياة، وكل ديانة ترمي إلى الشفقة هي ديانة تعمل على وقاية العناصر المنحطة، وعملها هذا هو ما يسوق إليها الفوز في كل جيل، لأن الضعفاء والمرضى هم في الحقيقة الفريق الغالب، بينا أن الإنسان الخالص الصافي من كل شائبة هو نادرة من نوادر الوجود؛ وقد ثبت في كل الأنواع الحية العالية أن الأغلبية فيها هي كائنات منحطة التركيب، سيئة الخلق، مستسلمة للألم، والإنسان لا استثناء له من هذا الحكم. والإنسان - بالنظر إلى الحيوانات - هو سلالة عالية راقية، قابلة للتطور، وهو لما يبلغ آخر مرحلة من مراحل التطور في الكمال، وهو لما يزل عرضة للحوادث التي تؤثر فيه وتبدل منه. كما أن معدل الانحطاط في النوع الإنساني هو أبرز وأكثر منه في سائر الأنواع. وديانة الشفقة تغدو عاملا كبيرا في الإبقاء على فريق كبير من الأحياء لا فائدة منه، لأن انتخاب النوع لا يرى غاية له إلا الفناء. هي تحفظ مظاهر الفاقة والبؤس. فتجعل الوجود أكثر قبحا، والحياة أكثر ميلا إلى العدم. إن هذه الديانة هي جزء من العدمية. إنها مهددة للوجود وللنماذج العليا من إنسان الوجود. فان مرأى البؤس والألم والانحطاط والقبح يدعوا الرائي إلى رجاء العدم، إما بعامل اليأس من هذا المرأى أو بعامل الشفقة، حتى ليغدو مذهب الشفقة مرضا شديدا يقضي على طبيعة كريمة، ويقتل منها قوة نضالها ودفاعها، هذا المرض الدائب على تذليل الذرية الأوربية، وتقييد اصطفاء الأنواع السامية، والحيلولة بين الإنسان والسوبرمان

(يتبع)

خليل هنداوي