مجلة الرسالة/العدد 118/القصص
→ فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية | مجلة الرسالة - العدد 118 القصص [[مؤلف:|]] |
من الأدب الأمريكي: ← |
بتاريخ: 07 - 10 - 1935 |
صور من هوميروس
8 - حروب طروادة
من السماء
للأستاذ دريني خشبة
قضى بروتسيلوس نحبه، وعادت روحه الكريمة إلى هيدز مصطحبة روح زوجته البارة، وغرست عرائس الفنون فسائل الدردار فوق قبر الراحلين فنمت وترعرعت، ونعم بفيئها الوارف ماء الهلسبنت ورتعت في ظلها أترابه. . .
ولكن. . .!
لقد كانت روح بروتسيلوس الجذوة التي أججت نيران الحرب فجعلتها ضراما!! فانه ما كاد يرمى بالسهام فيصمى، فيسيل دمه أنهارا، حتى تدفقت جيوش الهيلانيين على الشاطئ الأسيوي، غير مبالين بالموت الأحمر الذي كانت تمطرهم به سهام الطرواديين، والمنية السوداء التي كانت تقطر من سيوفهم، فتحصد صفوف الغازين حصدا. لا. لم يبال الهيلانيون بهذا الهول الأكبر، بل انقضوا على الشاطئ شكاكا في سلاحهم، مقنعين في دروعهم، مرهفين سيوفهم، تفيض عليهم عدة الحرب كأنهم جنة ترقص في زوبعة، أو ظلال من الذعر تجول في معمعة
وتبعهم قادتهم العظماء فانطلقوا يبوئونهم مواقف للقتال، ويلقون عليهم من كلمات الحماسة وخطب الاستبسال، ما أضرموا به جوانحهم شوقا إلى خوض الكريهة، وحنينا إلى اقتحام الوغى، وصبوة إلى تقبيل الرقاق البيض
ودقت الطبول فكانت إيذانا بهجوم الهيلانيين
فانظر الآن إلى البحر يلتطم بالبحر، والموج يساور الموج، والموت يصاول الموت، والحياة الحلوة تأخذ بتلابيب الحياة الحلوة، وصيحات الهيلانيين تردها صيحات الطرواديين؛ وليل الآخرة يغطش نهار الدنيا، وظلام القبور يكشر لهذه الدور، والفزع يمشي في صفوف هؤلاء وهؤلاء، واليتم يجرح هذا الكبد، ويقرح ذلك القلب، والحزن يفيض على هذا السهل، ويجوب ذاك الوادي، ويرف على قلل تلك الجبال، وأنين الجرحى يطن في فضاء الساحة الحمراء، فيملأ الآذان بالهلع، والنفوس بالجزع، والدماء تتفجر هنا، وتتحدر هناك، والرؤوس منتثرة فوق الأديم المضرج، زائغة أبصارها، مفغورة أفواهها، معفرة بالتراب أنوفها التي عزت على العالمين. . .
ثم انظر إلى أخيل يرعد بين الصفوف ويقصف، ومن ورائه الميرميدون يوزعون المنايا ويهدهدون الحتوف ويقربون الآجال!
وأوليسيز المغوار وتلك العجاجة المنعقدة فوق رأسه من خبار الحرب، وهذه الصعدة السمراء بيمينه تنفث الموت في صدور الأعداء!
وأجاكس وجنوده! الكرار الفرار، المذاويد الأحرار!
وبنليوس! قائد العسكر البووطية، القروم البواسل، والليوث الكواسر!
وديوميد! نبعة أرومته، وسيد عشيرته، ووجه قومه، وفارس كتيبته!
وأجابينور! فتى أركاديا، وملاك أمرها، وشمس ضحاها!
وميجيز! النجد الباسل، والبطل الحلاحل!
وإيدومينيز! ملك كريد وقائد جنودها؛ أباة الذل، وكماة الوغى، ومرادي الحروب!
وتليبوليموس بن هرقل بطل المجازفات، المقدم أخو الغمرات! ثم انظر إلى الصيد الصناديد من أبناء طروادة، وجيرانهم الكماة الأباة الحماة!
هاك هكتور العظيم بن بريام الملك، عضد طروادة وسندها وليث عرينها؛ الثبت الصابر المصابر؛ رابط الجأش شديد البطش؛ قوي الشكيمة الفارس المقدام!
هاك هكتور الأسد، يرغى في أسود الشرى ويزبد، ويوقل في بطاح طروادة وينجد!
وهاك إينياس الهائل، يقود (الدردان) الأيطال إلى كرائم الفعال في ساحة القتال!
وهاك بنداروس! تلميذ أبوللو وربيبه، يقود فرسانه الفحول ورجاله البهاليل!
وهاهما ولدا ميروبس الكبير ملك أبيسوس، يصولان في الحومة ويجولان!
وهاك آسيوس بن ملك أبيدوس، يتقدم رعيل فرسانه، ويداعب أعداءه بمرانه!
وهاهم أشبال تراقية، يقودهم يوفيموس المقدام، ويقتحم بهم أيما اقتحام!
وهاهم نسور أميدون البواشق؛ أقبلوا من هناك. . . من جنات سيحون وجيحون ليخوضوا الجحيم، في ذلك اليوم العظيم، وليذودوا عن طروادة، حليفتهم؛ ويدفعوا. . .!
وهاهم أمراء ميديا، أقبلوا في عدة وعديد، وكل جبار مريد!
أنظر إذن إلى الجيشين في مد وجزر، تبسم لأحدهما الآمال، وتعبس للآخر المنايا؛ تدور الدائرة، فيفلذ المنهزم، ويتأخر المتقدم، وهكذا دواليك
وتغيب الشمس وتشرق. . . . .
ويبزغ القمر. . . ويغرب
وتكر الأيام، وتمر السنون!
وكلما لاحت للطرواديين غفلة من أعدائهم خرجوا إليهم وهم ألوف فنالوا منهم، حتى إذا كروا عليهم عادوا إلى معاقلهم فلاذوا بحصونها، واعتصموا بأبراجها، وتلبثوا هناك حتى تتاح لهم فرصة أخرى
أعوام تسعة!!
مليئة بالتعب، مشحونة بالنصب، مفعمة بالخطوب والأهوال
وكان الهيلانيون يرسلون البعوث والسرايا، فتجوب الريف، وتؤب بالغنائم والفيء، والأسلاب والسبي، فيقتسمها القادة، ويفيضون منها على الجند
وهاجموا مرة إحدى القرى، فكان من جملة السبي فتاتان ذواتا رقة وفتون. أما أحدهما فكانت من نصيب أجاممنون، واسمها خريسيز، وهي ابنة كاهن القرية الورع، حبيب أبوللو وخليله وصفيه، القديس خريسز. وكانت فتاة لعوب حلوة الدل رشيقة الروح، وكان أبوها يحبها حبا جما لا تعدل بعضه كل مباهج الحياة!!
أما الأخرى فقد خلصت لأخيل وأخلصت له الود، وصافاها هو المحبة، فكان أحدهما للآخر في هذه المحنة القاسية الصدر الحنون، والقلب النجي، والملاذ الأمين. اسمها بريسيز، وأبوها شريف من أشراف هذه الناحية التي نكبت بتلك الحرب الضروس، فصليت لظاها، وطحنتها رحاها
وعلم كاهن القرية بما كان من أمر ابنته، فازدحمت على قلبه هموم الحياة، وأحس في أعماقه بثقل البلية، وشعر كأنه جرد من كل شيء حتى من نفسه
وبدا له أن يذهب إلى قائد الجند الهيلاني فيفتدي خريسيز، ولو نزل لأجاممنون عن كل ما يملك. وحذره صحبه من المخاطرة بنفسه في هذا الطريق الشائك، ولكنه لم يعرهم التفاتة واحدة، بل دهن نفسه بالطيب الكهنوتي المقدس، ولبس مسوحه، وعقد زناره، وتناول مسبحة أبوللو العظيم، ثم توكأ على عصاه العتيدة، وذهب يتهالك على نفسه، ويتعثر في خطاه، حتى كان تلقاء المعسكر الضخم
وسأل عن خيمة القائد العام، فقيل له إنها هي الفسطاط الأكبر الذي تبدو قبته هناك. . . . هناك عند شاطئ الهلسبنت، بين الجيش وبين الأسطول
وانطلق الكاهن الجليل والدمع ينحدر من قلبه قطرات من الدم. . . عن طريق عينيه، فيعلق بلحيته البيضاء، فيصبغها بأرجوانه، كأنه آية السماء الباكية، نذيرا لهذه القلوب القاسية، والغزاة الأقوياء!!
وبلغ الفسطاط بعد لأي. . .
واستأذن على القائد العام فلم يؤذن له. . . . فاستأذن ثانية فهدد بالضرب وبالعقوبة!. . . ولكنه أب مفئود، وحزين منكود، فتنظر قليلا واستأذن في أدب ولين واستكانة، فأذن له. . . .
ووقف أمام القائد الأكبر واهي الجسم موهن القلب، محزونا متصدعا، وحاول الكلام فكانت العبرات تخنقه، والأسى يعقد لسانه، والنار المندلعة في رأسه تنسيه كل شيء
وثار به أجاممنون!
لأنه على ما يبدو فوت عليه لذة طارئة، وسكرة مواتية، بمجيئه في تلك اللحظة الهانئة القريرة، وإلحافه الشديد بضرورة لقاء القائد. . . .
واحتشد القادة ورؤساء الجند حول فسطاط القائد، وسمعوا إلى الكاهن الكبير يقول:
(مولاي!
سعيت إليك عائذا بكن داعيا أبوللو العظيم لك، أن يفيء عليكم من النصر والفتح المبين، وأن يهبكم من الرعاية والمنن ما تشتهي أنسكم، وتقر به أعينكم، وما تترفعون به عن ظلم الضعفاء، والجور على الملهوفين، فقد يغني القليل الذي ترضى عنه الإلهة، عن الكثير الذي يثير سخطها، ويستنزل غضبها. .
ابنتي يا مولاي! خريسيز العزيزة! ردها علي يبارك لك أبوللو، وينر لك سبيلك، ببركة دعوات قديسه الحزين الواقف أمامك، المبتهل إليك، المستعد لأن يفتديها بكل ما يملك، وبكل ما يقدر عليه مما يرضي الملك!)
لكن الملك أشاح بوجهه، وكبر عليه أن يجرؤ هذا الكاهن على التفوه بهذه الطلبة العزيزة أمامه! خريسيز! أينزل أجاممنون عن خريسيز وقد احتلت من قلبه مكانة زوجه كليتمنسترا؟ واستحوذت على لبه حتى نسي الحرب، وعزف عن الطعن والضرب، واستقر معها في فسطاطه آخذين في لهو وحب، وغناء وشرب!!
أينزل أجاممنون عن خريسيز الجميلة الفاتنة، ولو استحالت عينا الكاهن بئرين تنزفان الدمع، وتفيضان بالدم؟
كلا! لن ينزل أجاممنون عن خريسيز!
(إصغ يا رجل! ليس بي أن تكون قديس أبوللو، وحامل صولجانه، وحامي مسبحته، وعاقد زناره!
ستعود خريسيز معي. . . إلى آرجوس. . . وسيذوي جمالها هناك، وتذبل محاسنها بين ذراعي، وسأكل إليها منزلي تخدم فيه، وتصير أم بنين، وسيكون بها قصري جنة خلد ونعيما لا يفنى. . . اذهب، فاسفح دموعك في صومعة أبوللو، وصعد زفراتك في هيكله، وبين يدي صنمه. . . اذهب، وانج بنفسك من عذاب أليم. . .
خريسيز تعود معك!؟
إنك تثير النقمة في نفسي، فانج بنفسك. . . انج. . .)
وتصدع صدر الرجل، وكاد قلبه يقف، فتقف أنفاسه!!
وانثنى والدنيا المظلمة تحجب ناظريه، وكلمات القائد الظالم تردد في مسمعيه، فما كاد يبلغ قريته حتى خلا إلى أبوللو، وجلس يبكي ويصلي!!
(أبوللو!!
يا إلهي!! أسمعت؟ لقد استهزأ بك أجاممنون، وفجعني في بنتي، وفلذة كبدي، وقطعة قلبي، وحياة روحي!!
أبوللو!! هل سمعت يا رب النور!؟ أرأيت إلى ذلك العاتي المتجبر كيف ثار بقديسك الضعيف المسن الذي أحنت ظهره السنون في عبادتك، والصلاة لك، والتسبيح من أجلك، والهتاف باسمك.!؟
ألا فلتنتقم لعبدك يا أبوللو العظيم، وليحل على الطغاة غضبك، ولتسحتهم بعذاب واصب، ليس له من قدرتك من دافع. . .
أبوللو. . .!
استجب يا رب الهيكل الخالد، وحامي المعبد الأمين!!. . .)
وسقط الكاهن أمام المذبح ينتحب، والشموع الموقدة تذري دموعها معه!
فثار في عليائه أبوللو. . .!
انتفض الإله العظيم انتفاضة رجف من هولها الأولمب، ورف في السماء كأنه سحابة مظلمة في ليل بهيم؛ وفوق كاهله الكبير قوسه الفضي المرنان، وعلى ظهره كنانته الواسعة الشاسعة، يسمع لسهامها صليل أي صليل. . . وأشرف من سمائه المضطربة على سفائن الأسطول المطمئن، وما هو إلا أن تميزها حتى عبس وبسر، ووتر قوسه فانهمرت منها سهام كالمطر، صبها على السفن حاملات الخيل والبغال أولا، ثم لوى فأصلى سفائن الجنود وابلا منها بعد ذلك. . . فلا تسمع إلا أنينا وبكاء، ولا ترى إلا صرعى يضجون ويعولون، ولا تحس إلا زفير جهنم وشهيقها يأخذ القوم من هنا وهنا فيقعون إلى أذقانهم سجدا وبكيا. . .
أمطر يا طعون. . .
ولا حنانيك يا أبوللو. . .
واستمر هذا البلاء تسعة أيام طوال كأنها دهر بأكمله. . .
وفي اليوم العاشر أوحى إلى أخيل أن يدعوا مجلس الجيش ليرى رأيه في هذه النكبة التي دهتهم بها ميازيب السماء. فلما التأم شمل القادة، اجتمع الرأي على أن يذهب كالخاس فيستوحي أربابه لتكشف هذه الغمة، أو ليرى بماذا ترضى من التضحيات والقرابين!
وعاد كالخاس، كعادته كلما حمل أخبار الشؤم من لدن أربابه كاسف الوجه، كالح الجبين، يحبس في صدره شجون الأرض، وهموم السماء!! (خريسيز يا سادة!)
(خريسيز تعود إلى أبيها القديس، وإلا فتلك مقابركم جميعا فوق هذا الشاطئ المظلم، المضرج بدمائكم، ودماء أعدائكم. . .!)
(هكذا تتفق كلمة الإلهة من أجل أبوللو. . . فويل لنا جميعا إن لم نهدئ ثورة صاحب القوس، ورب النور، وسيد الشمس.!)
(اسجدوا لأبوللو، واخشعوا. . .)
ونهض القوم من صلاتهم مشدوهين لا يحيرون، ينظر بعضهم إلى بعض، ولا تنفرج شفة بكلمة، ولا يتحرك لسان بقول!
ولكن أخيل شعر في صميمه أن القدر يسخره هذه المرة أيضا لتفريج الأزمة، وكشف البلاء، فنهض غير هباب، وأرسل قوله الحق في غير وجل، وصرح بضرورة إرسال خريسيز إلى والدها القديس معززة مكرمة، ثم تقديم القرابين من لحم العجول وشحم الأوعال إلى معبد أبوللو، وإطعام الحاضر من شوائها والباد
وزلزلت الأرض زلزالها، وهوت السماء فوق رأس أجاممنون!
ونشبت ملحمة هائلة بينه وبين أخيل، أوشك البطل أن يغمد سيفه من جرائها في صدر القائد العام، الذي طلب بكل صفاقة أن ينزل له أخيل عن غادته بريسيز: (إذا كان لابد من نزولي عن خريسيز ليسلم الجند من هذا الوباء!! وليسكن غضب أبوللو، وترضى السماء!)
وتأججت نيران العداوة بينهما، ذاك يحرص على فتاته الهيفاء وذاك يحض على إنقاذ الجنود بتضحية الذات وإنكارها في سبيل ما هو أسمى وأرفع، ولكن أجاممنون عمى عن هذا المثل العالي، فتشبث وأصر إلا ما نزل له أخيل عن بريسيز، لينزل هو عن خريسيز!!
وهنا تتننزل الإلهة لتحكم بين الخصمين!
تبدو مينرفا، ربة الحكمة والموعظة الحسنة، رسولا من لدن حيرا، سيدة ربات الأولمب، للبطل أخيل، بحيث لا يراها غيره، فتعظه أن يضحي بفتاته، ما دام هذا الفظ يتأبى إلا أن يكون ذلك. . .
ويصدع أخيل بأمر السماء. . .
ويذهب أوليسيز بابنة القديس إلى أبيها حيث يلقاه في معبده يبكي. . . ويصلي! فيبشره بها، ويسأله الصفح والمغفرة فيهش الكاهن ويبش، وتنهمر من عينيه دموع الفرح
وتقدم القرابين باسم الجيش الهيلاني إلى معبد أبوللو
فينكشف البلاء. . . . . . وترضى السماء. . . ويدفن الهيلانيون موتاهم!
أما أخيل. . .
فينقطع عن المعركة، وينعزل في معسكره، لا يشترك في الحرب، ولا يشترك فيها جنوده الميرميدون!
وتحس أمه بما يلم به من الحزن، فتزوره، وتعده خيرا على يد الإله الأكبر، زيوس، سيد أرباب الأولمب!
(لها بقية)
دريني خشبة