مجلة الرسالة/العدد 117/الباقي على قيد الحياة
→ القصص | الباقي على قيد الحياة El Verdugo الباقي على قيد الحياة المؤلف: أونوريه دي بلزاك المترجم: حسن محمد حبشي |
البريد الأدبي ← |
الباقي على قيد الحياة هي قصة قصيرة بقلم أونوريه دي بلزاك نشرت عام 1830. نشرت هذه الترجمة في العدد 117 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 30 سبتمبر 1935 |
للقصصي الفرنسي بلزاك
ترجمة حسن محمد حبشي
حين دقت ساعة مدينة (مندا) الصغيرة مؤذنة بانتصاف الليل، كان ضابط فرنسي شاب متكئاً على حافة سياج طويل يحيط بالقلعة، غارقاً في لجة التفكير العميق، وذلك أمر غير مألوف بالنسبة لما يحيط به، ولكنه كان منصرفاً عن كل ما هو فيه من وقت وليل ومكان إلى التفكير القوي، وكانت سماء أسبانيا الجميلة تمتد في زرقة صافية فوق رأسه، وقد رصعت بالنجوم الألاءة، وضوء القمر الساطع ينير هذا الوادي الجميل الممتد تحت قدميه، وهو يشرف على مدينة (مندا) ويعلوها بمائة قدم؛ وكأن الطبيعة قد هيأتها هكذا لتكون في مأمن من رياح الشمال الآتية من هذه الصخرة الكبيرة التي تقوم عليها القلعة، وإذ أدار الضابط رأسه، أبصر البحر يكتنف البلدة بأمواهه الفضية، وكأنه قد استحال إلى قطعة من اللجين الذائب، وكأن القلعة كوكب أو جوهرة ضوء وهاج، وكان وهو في مكانه، يسمع صدى رنات الموسيقى، وعربدة الضباط في الحفلة الراقصة، وقد اختلط ذلك بهمهمة الأمواج الآتية من بعد، وكأن نسيم البحر والليل جددا نشاطه المنهوك، زد على ذلك ما حوله من حدائق فيحاء، وزهور عطرية الشذا، نفاحة الأريج، فكأنه مغموس في حمام من العطر الزكي
وكانت قلعة (مندا) في حوزة شريف أسباني، اتخذها وأسرته دار إقامة، وكانت ابنته الكبرى (كلارا) الجميلة ترمق الضابط الفرنسي الشاب بنظرات مبهمة، وإن كانت تنم عن حزن عميق
وكانت كلارا هذه فتانة رائعة الحسن، فوقع جمالها في قلب الضابط الفرنسي موقع الماء من ذي الغلة الصادى، فوقف واجماً يفكر في هذا الجمال، وبالرغم من أن ثروة أبيها كانت طائلة، وموزعة بينها وبين أخواتها الثلاثة وأختيها، فقد رأى فكتور مارشاند (الضابط) أن فيها الكفاية لأن تكون الدوطة كبيرة، ولكن كيف يتسنى له أن يخطب يد (كلارا) ابنة الشريف الأسباني، وهو ابن تاجر صغير في باريس، أضف إلى ذلك ما بين الأسبان والفرنسيس من إحن وكان الجنرال (ج) قد علم من مصدر سري أن المركيز يحاول أن يوقد مشعل الثورة لنصرة فرناند السابع، ولذا أرسل مرشاند ليعسكر في مدينة (مندا) حتى يكون على علم تام بما ينويه الثوار، ولكي يخمد أي حركة يقومون بها ضد الفرنسيس، وفي ذلك الوقت وصلت إشارة بأن المركيز يتصل سراً بالإدارة الإنكليزية في لندن، وليس من البعيد أن يرسل الإنكليز مدداً؛ ومما حير لب فكتور مارشاند أن المركيز قد استقبله وعائلته استقبالاً لا يدل إلا على منتهى الهدوء؛ ووقع بين أمرين، إذ كيف يوفق بين هذا الهدوء الذي يتجلى في المركيز وأعماله، وبين إشارة الجنرال من وجود مفاوضات سرية؟ ولكن سرعان ما تلاشت هذه الخواطر من ذاكرته، حينما مد بصره إلى الأمام، فأبصر عدة مصابيح مضاءة في المدينة، مع أنه أصدر أمره، بأن تطفأ الأنوار كلها في ساعة معينة، على رغم أن الليلة ليلة عيد ميلاد القديس سنت جون، ولم يسمح بالإنارة إلا للقصر فحسب، ومما أحال الشك يقيناً عنده، وبأن هناك يداً تعمل في الخفاء أن رأى ساريات عدة مراكب وسط مياه البحر، تحت أضواء القمر الفضية. وبينما هو سابح في تيار التفكير العميق إذ سمع وقع أقدام خلفه، ولما تبينه وجده أحد رجاله يلهث، وحين رآه قال له:
- أهو أنت يا سيدي الضابط؟
- نعم هو أنا. . . ماذا تريد؟
- إن هؤلاء الوحوش يزحفون زحف الديدان
- ثم ماذا؟
- لقد رأيت رجلاً يخرج من القصر وفي يده مصباح مضاء، وهذا مما أثار الشك في نفسي، وبعثني على أن أقتفي آثاره، وأظل قريباً منه جهد ما أمكنني؛ أجل! قد يكون مسيحياً محافظاً على التقاليد، غير أن الحالة التي هو فيها، ومخالفة أمرك، كل ذلك مما يجعل الشك يحوك في نفسي. وثم أمر آخر يا سيدي الضابط، ذلك أني اكتشفت على قيد خطوات منك، عرمة من الحطب
ولم يكد الجندي يصل إلى هذا الحد من الكلام حتى دوت في المكان صرخة صدعت السكون العميق، وانفجرت قنبلة أودت شظية منها بالجندي لساعته، واندلع لهيب النيران على بعد عشر خطوات فحسب، من الضابط الذي أسقط في يده، وتبين له أن في الأمر دسيسة، وأن الثوار قد تأهبوا للفتك بالأعداء، واضطرب في مكانه، إذ لم يكن معه حسامه؛ وهاهو ذا يرى رجاله وقد تردوا في ساحة المدينة، وصمتت الموسيقى، وتلاشت ضحكات الضباط، ومر على مخيلته ما سيلاقيه - إذا هو ظل حياً - من محاكمة وإهانة، فلم يجد أمامه من وسيلة للنجاة إلا أن يلقي بنفسه في سفح هذا الوادي، حيث يتحطم جسمه على صخوره الجاثمة هناك:
وإذ كان على أهبة تنفيذ ما اعتزم، أحس يداً أعاقته عما هو قادم عليه، فاشرأب إلى صاحبها، فإذا به (كلارا) تهيب به، أم أسرع فان أخوتي على آثاري قادمون. . . . للفتك. . . بك؛ وامض إلى الصخرة القائمة عند سفح التل، وستجد حصان أخي (جوانيتو) فامتطه ولا تتريث لحظة، وإلا فقدت حياتك
فحدق الفتى فيها دقيقة، وقد فاضت نفسه بالدهشة، ولكنه تنبه أخيراً، إذ ثارت في نفسه غريزة حب الحياة، تلك الغريزة التي تتمثل في الجميع على السواء، في حيوان أو إنسان، وحمل إليه الريح صدى صوت (كلارا) تهيب بأخوتها، ألا يتريثوا في اقتفاء آثاره، كما سمع وقع حوافر دوابهم تسابق الريح، وهم على صهواتها يرسلون عليه وابلاً من الرصاص الذي يمر بجانب رأسه، ولم يتمهل هو الآخر لحظة في الطريق بل أسرع بالجواد، وبعد بضع ساعات كان في حضرة الجنرال، كان في ثلة من إخوانه يتناولون طعامهم، فارتمى أمامه قائلاً:
- (مولاي. إن حياتي بين يديك، افعل بها ما تشاء؟)
ثم أخذ يقص على الجنرال قصته، فإذا الجميع ينصتون إليه وكأن على رؤوسهم الطير، وعلى وجوههم غبرة، ترهقها قترة، وألجم الخبر أفواههم، وجعلهم آذاناً فحسب، فلما أتمها قال له القائد العام:
- (يا هذا إني أراك سيئ الحظ، أكثر من أن تكون مذنباً، لا تثريب عليك، وإني لأبرئ ساحتك، إلا إذا رأى المرشال غير هذا)
فسأله الضابط: (وإذا سمع الإمبراطور بالحادثة!؟)
فأجابه الجنرال: (سيكون القتل نصيبك، ولكن دعنا الآن من هذا، وهيا ندبر خطة ننتقم بها من هؤلاء الأوغاد، أوشاب الإنسانية، لابد أن يكون الثأر شديداً، حتى تخمد في نفوسهم الوحشية والدناءة)
وفي ساعة من الزمن، شدت فرقة من الجند رحالها، على رأسها الجنرال، بصحبة الضابط فكتور، وإذا الجنود بمصير زملائهم الذين أخذوا على غرة، ثارت في عروقهم دماء الانتقام واستحلوا شعلة تتأجج لحرق الأسبان، وأقسموا أن ينتقموا لإخوانهم أشد انتقام، وسرعان ما قطعوا المسافة بين مدينة مندا، وبين مركز القيادة العليا
ورأى الأسبان أنفسهم محاصرين، وعلموا أن الجنرال لا يتردد لحظة في الفتك بأهل المدينة، لا تأخذه في ذلك شفقة ولا رحمة، فبعثوا إليه رسل المهادنة، ورضى هو أن يسلم كل من في القصر أنفسهم إليه، من أحقر الخدم إلى المركيز نفسه، واتخذ القصر مركزاً للقيادة؛ وأمر كل فرد من أفراد الأسرة الحاكمة، وخدمها أن يقيد، ونكل بالثوار أشد تنكيل، ولم يرحم رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً، بل ثارت فيه غريزته الوحشية، وبينما هو في مجلس من رجاله إذ أقبل عليه فكتور ماشاند، وقال له:
- أسألك يا مولاي أن تجيب لي طلباً، هو أن المركيز يرجوك أن تفرق بين الأشراف والعامة، وذلك بأن تطيح رقابهم بيد الجلاد لا بالمشنقة، وأن تفك قيودهم التي كبلوا بها، ولن يحاولوا الهرب، وذلك عهد قد قطعوه على أنفسهم، وإنه ليتخلى لك عن جميع أملاكه وأمواله إذا عفوت عن أحد أبنائه ووهبته الحياة
فقال الجنرال: إن أمواله قد أصبحت تبعاً للملك جوزيف، ولكني سأهبه ما طلب، وإن كنت أعرف علة رجائه، في أن يبقى اسم الأسرة، ببقاء أحد أفرادها؛ سأهبه ذلك، لمن يرضى أن يكون جلادهم، ويطيح برقابهم، والآن لا تذكر لي شيئاً عنهم البتة
اجتمع الضباط في الغرفة التالية يتناولون غداءهم، وكانوا في نهم شديد إثر ما كابدوه من نصب وتعب، فأقبلوا على الطعام كالوحوش الضارية قد أنشبت مخالبها في فريسة دسمة بعد طول سغب، وتفقدوا الضابط فكتور، فلم يجدوه بينهم، ذلك لأنه مضى إلى الحجرة التي فيها عائلة المركيز وآلمه أن يرى سادة الأمس مقيدين كالعبيد، قد ارتسمت على وجوههم دلائل الأسى الشديد، واللوعة المرة؛ وأي لوعة أشد على النفس من أن المرء أن يرى عبدا حقيرا يتحكم فيه وهو السيد الحاكم؟ وسرت رعشة في جسد الضابط حين فكر في هذه الرؤوس الجميلة، وأنها ستهوي على أقدام الجلاد مصبوغة بالدماء، وكأنما هم كانوا يفكرون في هذا الأمر نفسه، فقد بعثروا حولهم تنهدات الألم والحزن التي ملأت جو الغرفة، وإذ أبصروا فكتور يدخل حجرتهم اشرأبت أعناقهم، طمعاً في أن يكون حاملا إليهم بشرى العفو، فأمر الجند أن يفكوا قيود السادة، ومضى هو بنفسه يحل وثاق (كلارا) فقابلته على صنيعه هذا بابتسامة اغتصبتها اغتصاباً، ومس في رفق ذراعها البضة الناعمة، وأعجبته خصلات شعرها الفاحم، المتهدل على جبينها الوضاء، وفتنة قدها الممشوق الجميل، وخصرها الأهيف، فسألته هل نجح في مهمته، فهمهم همهمة حزينة، وجال ببصره في وجهها ووجه أخوتها الثلاثة، وكان (جوانيتو) أكبر الأبناء يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، وأخوه (فيليب) عشرين ربيعاً، وكان (عمانويل) يبلغ ثمانية أعوام، ذا أنف روماني وطلعة جميلة؛ ثم جمع أطراف شجاعته، وأخبرها برأي الجنرال، فسرت رعدة الرهبة في أوصالها، ولكنها تشجعت ومضت تخبر أباها بما أسره إليها فكتور، وزادت عليه قولها: - أبى عليك أن تأمر (جوانيتو) وعليه أن يصدع بأمرك إذا كان مخلصاً لك، ففي طاعته إياك، وتلبيته لرغبتك إسعادنا! فلما سمعت الأم ذلك، أحست بالأمل يعاودها، وظنت أن نجاتهم أصبحت قوسين، وما علمت أن المركيز إذ ذاك يطلب من ولده أمراً، تنهد له الجبال هدا، وإذ تبينت حقيقة الأمر واطلب ارتدت إلى الوراء، تعلوها صفرة اليأس، وعرف جوانيتو السر فثارت دماء الغضب حارة في عروقه، وهب ثائراً كالأسد، قد ألفى نفسه أسير قفص من الحديد، بعد أن كان يطأ الثرى، في زهو الأمير، ويرى الغابة كلها تكاد تضيق عن خطى أقدامه، ولكن الأب هدأ كل ذلك، بأن قال: (جوانيتو)
فكانت إجابة جوانيتو هزة الرفض من رأسه، وارتمى خائراً على مقعده، يصعد ناظريه في أبويه، وقد تجلت الدهشة والأسى والغضب في عينيه الحائرتين، فلما رأت (كلارا) إصرار أخيها على الرفض، تركت مكانها إلى حيث جوانيتو، وطوقت عنقه بذراعيها الغضتين، وجثت أمامه وقبلته في عينيه قائلة:
- (أي جوانيتو: يا أعز ما أملك، آه!. . . ما ألذ الموت إذا كان من يدك!. . . إنك لا تدري حلاوته. . . كما أشعر بها الآن. . . أنقذني. . يا جوانيتو. . من يدي السفاح. . الملوث اليدين. . . حتى لا يقال. . . إن جلاداً حقيراً. . . أطاح رقاب العائلة الحاكمة. . وأنقذني من بين براثنه. . وبراثن رجل آخر) ثم نظرت شزرا إلى فكتور، نظرت إليه نظرة تفيض حقداً وكراهية واحتقاراً، وكأنها بذلك تثير في نفس أخيها الحقارة للفرنسيس، وتشعل الضغينة في نفسه عليهم،. . . ثم قال له أخوه فيليب متوسلاً: (كن شجاعاً صنديداً وإلا محوت عائلتنا الشريفة من العالم)
وأمره الأب، فلم يلب طلبه، فجثا أمامه، هو وأخوته جميعاً ورفعوا أكفهم متوسلين إليه أن يضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، وأن ينقذ اسم العائلة من أن يدنس، وعرف الأب من أين تؤكل الكتف، فأهاب به قائلاً: (أي بني. أغادرتك شجاعة الإسباني، وإحساسه الشريف؟ أأجثو أمامك. . . وأتوسل إليك. . . ولا ترد طلبي إلا خائباً؟ أتفكر في ألمك فحسب. . ولا تزنه بآلامنا جميعا. . إذا أصررت على المكابرة) ثم التفت إلى زوجته قائلا: أهذا ولدي يا زوجتي؟
فصاحت به الأم في يأس: (سيلبي طلبك. . أيها المركيز!!) ولمحت جبين جوانيتو ينعقد أكثر، وتبينت أنه يألم لها أكثر من الجميع وحينذاك كانت الثانية (ماركينا) قد تعلقت بأطراف ذيل أمها، بقبضتيها الضعيفتين، وأخذت تذرف الدموع، فلما شاهدها (فيليب) انتهرها ولامها، وإذ ذاك دخل الحجرة كاهن المدينة، فالتفوا حوله كصغار الطير، ومضوا به إلى جوانيتو الصامت، فلم يستطع مرشاند، أن يرى هذا المنظر الأليم، فبارح الغرفة إلى حيث اجتمع الجنرال مع بعض قواده يجرعون الخمر، وقد أصدر أمره بإحضار فرقة من الجند تذب الناس عن أن يقربوا من جثث الخدم المشنوقين، مدلاة أمام أعين السابلة، ووقف الجلاد بهيئته المفزعة ليحل مكان جوانيتو إذا خانته شجاعته، ولم يستطع أن يقوم بتنفيذ ما عهد إليه، وصدع هذا السكون الضارب أطنابه على المكان وقع أقدام عائلة المركيز، يحيط بهم الجند مشهرين سيوفهم، يلمع في ظباها الردى، ولم تفارق الهيبة أفراد الأسرة، وكانوا يتقدمون إلى حيث النطع ممدود في خطوات هادئة، لا أثر للخوف أو الاضطراب فيها، غير أن أحدهم قد علته صفرة الأموات، متكئاً على ذراع الكاهن الذي أخذ يهدئ روعه المضطرب، بترانيم دينية، فعرف الجميع حينئذ أن (جوانيتو) سيقوم بمهمة الجلاد في إطاحة الرقاب، وجثا الجميع قريبين من المقصلة، وأي مشهد آلم للنفس من أن ترى عزيز قوم ذل؟ لقد كان المركيز وزوجته وابنتاه، وولداه أمام جوانيتو، الذي أسر إليه الجلاد بعض الكلمات حينذاك اقتربت (كلارا) من أخيها، وصاحت به: جوانيتو، ابدأ بي إذا أردت أن ترفق. . . بشجاعتي المنهوكة. . . هيا. . أطح رأسي أولاً!!
وساعتئذ أبصر الناس الضابط (فيكتور مارشاند) مسرعاً نحو (كلارا) التي جثت على ركبيتها تتأهب للأمر الواقع، وتستعد لأن يطاح رأسها، فلما حاذاها تماماً قال لها في أذنها: (إن الجنرال ليعفو عنك ويهبك الحياة إذا رضيت بي زوجاً!)
فصوبت إليه نظرة ملؤها الكبرياء بنفسها، والازدراء له، ثم صاحت بأخيها، كأنها اللبؤة الضارية: (هيا، يا جوانيتو. . فإني. . . على أتم الاستعداد. . . .) وإذ ذاك أبصر الناس رأسها الجميل يتدحرج تحت قدمي أخيها، وقد انفصل عن جسدها، وسرت الرعشة في جسد أمها، ولكنها ملكت عواطفها، وتقدم أخوه عمانويل وسأله: (أتراني في مكاني تماماً. . أيها العزيز جوانيتو؟)
ثم أقبلت إليه أخته الصغيرة (ماركينا) والدموع تنهمر من عينيها، فسألها: (أتبكين يا أختاه؟)
فقالت: نعم يا حبيبي جوانيتو، إني أبكي من أجلك. . . . لشد ما يؤلمني أن تظل وحيداً حين تتفقدنا جميعاً فلا تجدنا معك)
ولكنه رفع السيف وأهوى به على رقبته الصغيرة، وإذ ذاك تقدم منه أبوه المركيز، فصوب ناظريه، وصعدهما، في دماء أبنائه الجارية تحت قدميه، كأنها المياه المتدفقة شاهدة على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ثم التفت ناحية الجماهير الذين عقدت الدهشة ألسنتهم، فكانوا أصناماً لا تتكلم، أو تتحرك تأثراً من هذا المشهد المروع، ثم مد يده إلى جوانيتو، وصاح في صوت قوي النبرات حادها، وقال:
(أيها الإسبانيون! إني أبارك ولدي، وأهبه دعوات الأبوة والآن هيا أيها المركيز. أطح رأسي، ولا يأخذك الخوف أو الرعب، هيا. لا تثريب عليك)
فلبى نداء أبيه صامتاً حزيناً، وإذ ذاك أقبلت أمه، منهوكة القوى، خائرة الأوصال، كيف لا وقد رأت أبناءها جميعاً، وزوجها المركيز، تطاح رقابهم، كأنهم الماشية بل أحقر، ذلك قلب الأم الذي:
لا ربة النسيان تر ... حم حزنه وترى بكاء كلا ولا الأيام تب ... لى في أناملها أساه
إلا إذا ضفرت له ال ... أقدار إكليل الجنون
وغدا شقياً ضاحكاً ... تلهو بمرآه السنون
أقبلت أمه متكئة على ذراع الكاهن، ونظرت إليه نظرة الوداع ممزوجة بأحر الألم، فما رآها حتى تنبهت حواسه الخامدة وثار غاضباً، وقال:
- (إن ثدييها هذين قد أرضعاني صغيراً)
فانتفض الجميع، حين سماعهم هذا، وانتزعت تلك الكلمات صرخة الفزع من قلوبهم جميعاً، وسكنت ضحكات الضباط، وعرفت المركيزة وقتئذ أن شجاعة جوانيتو ولت، ولم يعد ذلك القوي، فجمعت ما تبقى من شجاعتها المبعثرة، ثم قفزت من فوق قمة المنحدر فهوت إلى القاع، وقد مزقتها الصخور الجاثمة في أسفله شر ممزق، فهتف الجمهور المشاهد هتاف الإعجاب، أما جوانيتو فقد رقد مسجى مغمى عليه، فحملوه إلى الخارج حيث عاش وقد أسموه (الجلاد)
حسن محمد حبشي