الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 116/مصر وقناة السويس

مجلة الرسالة/العدد 116/مصر وقناة السويس

بتاريخ: 23 - 09 - 1935


دستور القناة وحق السيادة المصرية

لباحث دبلوماسي كبير

كان إنشاء قناة السويس في أرض مصر نذير سوء لمصر، كما كان نذير الخير والرخاء لتجارة الغرب وصناعته؛ ولم تجن مصر من إنشاء القناة في أرضها سوى المتاعب الخالدة، وما زالت بسبب هذه القناة عرضة لفروض مؤلمة من الاستعباد الأجنبي، كما أنها ما تزال عرضة لعدوان الاستعمار ووثباته؛ وقد شعرت مصر مرة أخرى بما يمكن أن يجره عليها وجود هذه القناة في أرضها من ضروب الشر والأذى، في الآونة الحاضرة التي يوشك أن يضطرم فيها النضال بين دولتين من دول الاستعمار، هما إيطاليا المتوثبة السابحة في أحلام عظمتها الجديدة، وبريطانيا العظمى التي تسيطر فعلاً على قناة السويس وتدعي عليها لنفسها حقوقاً خاصة ما تزال مصر تنازع فيها

ولما كانت مصر ما تزال ترتبط بحكم الظروف في شؤونها ومصايرها الحيوية بتطورات السياسة الإنكليزية، فإنها تجد نفسها اليوم عرضة لأخطار هذه الحرب الاستعمارية التي تصر إيطاليا على إضرامها في شرق أفريقية؛ وإذا كانت إنكلترا تلمح شبح الخطر من جراء هذه الفورة الفاشستية على إمبراطوريتها الاستعمارية، وعلى سيادتها في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وتزمع على ما يبدو أن تقاوم هذا الخطر، وأن تسحق المطامع الإيطالية إذا اقتضى الأمر بقوة النار والسيف، فان مصر تجد نفسها من جراء ارتباطها بإنكلترا، ومن جراء موقعها الجغرافي وحراستها الاسمية لقناة السويس في أحرج مركز وأدقه. ماذا يكون موقف مصر إذا أصرت إيطاليا على مشروعها الاستعماري وأعلنت الحرب على الحبشة، وماذا يكون مصير قناة السويس طريق إيطاليا الوحيد إلى ميدان القتال؟ بل ماذا يكون موقف مصر إذا تفاقم الأمر، ونشبت الحرب بين إنكلترا وإيطاليا، ومصر تجاور إيطاليا من جهة الغرب، وثغورها لا تبتعد أكثر من سبعين ساعة عن مراكز الأسطول الإيطالي؟ هذه فروض خطيرة مزعجة، ولكنها أضحت تلوح في الجو قوية تكاد تنقض صواعقها بين آونة وأخرى؛ ومن ثم كانت موضع الاهتمام من جانب السياسة الإنكليزية ومن جانب ولاة الأمر ف وأول ما يشغل مصر في الآونة الحاضرة مسألة قناة السويس، ومدى ما يمكن أن يكون لمصر، سواء بمفردها أو بالاتحاد مع إنكلترا من حق في إغلاقها وقت نشوب الحرب الأفريقية، وهذا بفرض أن الحرب لم تتعد طرفي النزاع الأصليين: أعني إيطاليا والحبشة؛ ففي هذه الحالة تعتبر مصر من الوجهة الدولية في حالة حياد بالنسبة للدولتين، ولكنها لن تكون كذلك في الواقع لأن قناة السويس تغدو في هذه الحالة طريقاً حربياً لإيطاليا، وفتحها في وجه السفن والقوات الإيطالية لا يمكن أن يحقق معنى الحيدة، بل يكون وسيلة لمعاونة إيطاليا على افتراس الحبشة التي ترتبط مصر بها بروابط تاريخية ودينية وثيقة، ولمصر كما لإنكلترا مصلحة حيوية في ألا تقع منطقة تانا والنيل الأزرق في يد دولة قوية كإيطاليا يكون وجودها في تلك المنطقة خطراً على ماء النيل

وقد قيل لنا أخيراً إن فقهاء الدولة المصرية بحثوا مسألة قناة السويس ومدى ما لمصر من حق في إغلاقها إذا اقتضت الضرورات الدولية، وقيل لنا انهم انتهوا إلى تقرير حق مصر في إغلاقها في وجه الفريقين المتحاربين إذا نشبت حرب إيطالية حبشية. ونحن ممن يأخذون بحق مصر في إغلاق القناة سواء من الوجهة الدولية أو الوجهة الواقعية كما سنفصل بعد، ولكن الذي لفت نظرنا في مباحث فقهاء الدولة المصرية هو أنهم انتهوا إلى تقرير حق مصر في إغلاق القناة من طريق لا نعتقد أنه خير الطرق ولا خير الأسانيد لتدعيم هذا الحق. ذلك أنهم استندوا على ما قيل لنا في تقريره إلى ميثاق تحريم الحرب الأمريكي أو ميثاق كلوج الذي عقد في باريس في أغسطس سنة 1928 وانضمت مصر إليه إلى جانب الدول الموقعة عليه. وميثاق تحريم الحرب كما نذكر، ينص على استنكار الدول الموقعة للحرب كأداة للسياسة القومية، وعلى تعهدها ألا تلجأ لحل المنازعات الدولية مهما كانت أنواعها وأسبابها إلا للوسائل السلمية. وقد وقع ميثاق تحريم الحرب في باريس في 27 أغسطس سنة 1928، وفي 4 سبتمبر التالي أبلغت مصر حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تقرر انضمامها للميثاق بصيغته الأصلية دون التسليم بأي تحفظ أبدي بشأنه، والمقصود بالتحفظات هنا ما أبدته بعض الدول الاستعمارية مثل بريطانيا من الاحتفاظ في ردودها بحقوق وتحفظات معينة في تسوية علائقها مع الدول التي تعتبرها واقعة تحت سيطرتها أو نفوذها ويلوح لنا أن ميثاق تحريم الحرب لا يمكن أن يعتبر سنداً كافياً لما نراه من حق مصر في إغلاق القناة. وفي رأينا أن هذا الحق يمكن إسناده من جانب مصر إلى حقوق السيادة القومية. ذلك أن مصر قد حلت بمقتضى التطورات الدولية منذ الحرب محل الدولة العثمانية الذاهبة واستعادت سيادتها القومية كاملة بانتهاء التبعية العثمانية الاسمية، وأضحت لها من الوجهة الدولية ما لأية دولة من حقوق السيادة الأرضية. هذا من الوجهة العامة. وأما من حيث مركز القناة الدولي، فقد وضعت معاهدة استانبول التي عقدت في 29 أكتوبر سنة 1888 بين الباب العالي، وبريطانيا العظمى، والنمسا والمجر، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وهولندا، وروسيا، لقناة السويس دستوراً خاصاً من سبع عشرة مادة، أساسه حيدة القناة التامة وحرية الملاحة المطلقة فيها وقت الحرب والسلم. وقد نص في ديباجتها على أن الغرض من عقدها هو (الاتفاق الحر على نظام نهائي يكفل في كل الأوقات ولكل الدول حرية الملاحة في قناة السويس). وكفلت المادتان الأولى والرابعة هذه الحرية فيما يأتي:

المادة الأولى - (تبقى قناة السويس حرة مفتوحة دائماً أيام الحرب والسلم سواء لجميع السفن التجارية أو الحربية دون أي تفريق في جنسياتها

وعلى هذا فالدول الموقعة متفقة فيما بينها على ألا تمس حرية المرور في القناة أثناء الحرب أو السلم

ولا تخضع القناة مطلقاً إلى مزاولة حق الحصار)

المادة الرابعة - (تبقى القناة مفتوحة وقت الحرب ممراً حراً حتى لسفن الدول المتحاربة وفقاً لنص المادة الأولى. وقد اتفق المتعاقدون أعلاه على ألا تعرض القناة لمزاولة أي عمل حربي أو أي عمل من شأنه أن يخل بحرية الملاحة في القناة ذاتها أو في مواني الوصول إليها، أو في قطاع من هذه المواني طوله ثلاثة أميال بحرية، وهذا حتى لو كانت الدولة العثمانية هي إحدى الدول المتحاربة

ولا يجوز لسفن الدول المتحاربة المارة بالقناة وقت الحرب أن تتزود من المؤن في القنال أو موانيه إلا بالقدر الضروري؛ ويجب عليها أن تخترق القناة بسرعة؛ ويجب أن تمضي أربع وعشرون ساعة بين خروج سفينة حربية من أحد ثغور القناة وبين قيام سفينة تابعة سفينة تابعة لدولة معادية)

ففي هاتين المادتين جوهر دستور قناة السويس، وعليهما يستند أنصار الدعاية الإيطالية في القول بأن مصر لا تستطيع إغلاق القناة مطلقاً حتى ولو أعلنت إيطاليا الحرب على الحبشة، واتخذت القناة أثناء الحرب ممراً لأساطيلها وجنودها

بيد أن هنالك في معاهدة استانبول نصاً هاماً تضمنه المادة الثالثة عشرة، وهو أنه (فيما عدا التبعات المنصوص عليها صراحة في مواد هذه المعاهدة، فان ما لجلالة السلطان من حقوق السيادة، وما لسمو الخديو من حقوق بمقتضى الفرمانات لا يمس بأي حال) ففي هذا النص ما يؤيد حقوق السيادة المصرية التي نرجع إليها حق مصر في إغلاق القناة. ذلك أن حقوق السيادة التي كانت للدولة العثمانية على مصر قد آلت إلى مصر ذاتها بمقتضى معاهدة الصلح (معاهدة سيفر) أولا، ثم بمقتضى معاهدة لوزان (سنة 1923)؛ فمصر من الوجهة الدولية هي صاحبة السيادة الأرضية على قناة السويس، ولا يحد من هذه السيادة سوى حقوق الامتياز الممنوح لشركة القناة وهي حقوق استغلال تجارية فقط؛ ولكن يحده من الوجهة الفعلية ما تدعيه إنكلترا لنفسها في تصريح فبراير سنة 1922 من تحفظات يتعلق أحدها بحق إنكلترا في الدفاع عن الموصلات الإمبراطورية، والقناة في نظر إنكلترا شريان من شرايينها الهامة

وفي وسع مصر أن تدعم حقها في إغلاق قناة، باعتباره حقاً من حقوق السيادة القومية، أولاً بميثاق عصبة الأمم حيث ينص في المادة العشرين على ما يأتي: (يعترف أعضاء العصبة بأن الميثاق الحالي يلغي كل التعهدات أو الاتفاقات الخاصة التي تتعارض مع نصوصه، وتتعهد بألا تعقد في المستقبل أية معاهدة تتعارض مع هذه النصوص)، ولما كان دستور العصبة يقوم على فكرة السلام العام بين الأمم، وعلى مبدأ حسم المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، فان هذا الدستور الذي يجعل من قناة السويس وقت الحرب، طريق حرب يزيد في ضرامها وأخطارها، يجب أن يعتبر وثيقة قديمة تنافي روح العصر ونصوص الميثاق. وثانياً بميثاق تحريم الحرب حيث ينص في المادة الثانية منه على أن الدول الموقعة عليه تقرر بأن تسوية المشاكل والمنازعات الدولية أيا كان نوعها وأسبابها يجب ألا يعالج إلا بالوسائل السلمية ومصر طرف في هذا الميثاق مثل إيطاليا ونذكر أن السنيور موسوليني قد أدلى في بعض أحاديثه الأخيرة، أن مصر وإنكلترا لا تستطيعان إغلاق قناة السويس لأن المادة 282 من معاهدة الصلح (معاهدة فرساي)، وهي التي تنص على المعاهدات والاتفاقات التي يبقى مفعولها بين ألمانيا والحلفاء، قد ذكرت معاهدة أكتوبر سنة 1888 الخاصة بدستور القناة ضمن المعاهدات النافذة الباقية (فقرة 11 من المادة المذكورة)؛ وميثاق عصبة الأمم هو جزء من معاهدة فرساي، فليس فيه إذاً ما يمكن أن يتخذ سنداً لإلغاء معاهدة سنة 1888، وهذا اعتراض له قيمته من الوجهة الفقهية لو لم تكن معاهدة سنة 1888 قد غيرت في كثير من أجزائها بفعل التطورات الدولية؛ وليس المقصود هنا إلغاء المعاهدة برمتها، وإنما المقصود نسخ حق حرية الملاحة المطلق الذي قررته المعاهدة، لأنه يغدو في مثل هذه الظروف الحاضرة خطراً على سلام العالم، فضلاً عن أنه خطر على مصر ذاتها

هذا من جهة أخرى فان هنالك حالة فعلية لا يمكن إغفالها، هي أن القناة تقع فعلاً تحت سيطرة القوات الإنكليزية، وإنكلترا تدعي عليها بمقتضى تصريح فبراير سنة 1923 حقوقاً تؤيدها هذه الحالة الفعلية، ومهما كان من اعتراض مصر على المسائل المحتفظ بها في تصريح فبراير، فانه لا شك أن هذه الحالة الفعلية هي لب المسألة كلها، وإذا كانت مصر تفكر حقاً في إغلاق القناة إذا أقدمت إيطاليا على إضرام نار الحرب، فإنها سوف تفعل ذلك بالتفاهم التام مع إنكلترا؛ وقد يؤيد تصرف الدولتين في ذلك قرار يصدر من عصبة الأمم بتوقيع العقوبات الاقتصادية المنصوص عليها في الميثاق ضد إيطاليا، ويكون إغلاق القناة وقتئذ ذات صبغة دولية محضة، ويكون في عرف العالم كله وسيلة من وسائل التي تتذرع بها مصر وإنكلترا لصون السلام العالمي الذي تصر إيطاليا الفاشستية على تكديره تحقيقاً لشهواتها الاستعمارية