مجلة الرسالة/العدد 116/فريزر ودراسة الخرافة
→ مصر وقناة السويس | مجلة الرسالة - العدد 116 فريزر ودراسة الخرافة [[مؤلف:|]] |
الشعر ← |
بتاريخ: 23 - 09 - 1935 |
4 - فريزر ودراسة الخرافة
احترام الحياة الإنسانية
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
المدرس بالجامعة المصرية
أسلفنا القول في بيان أثر الخرافة في تثبيت دعائم الحكومة والملكية الشخصية والزواج. وها نحن أولاء نشرح ما غرسته في النفوس من تقديس للإنسان واحترام لحياته! وبذا نكون قد أتممنا سلسلة النظم الاجتماعية التي شاء فريزر أن يبين مقدار تدخل الخرافة في نشأتها وتكوينها
بديهي أن معيشة البادية المبنية على حب الانتقام، والأخذ بالثأر، وحماية الجار، والدفاع المستميت عن المال والعرض، والمملوءة بالأضغان والأحقاد أدعى لإراقة الدماء واعتداء المرء على أخيه. فالإنسان الأول الذي عاش هذه العيشة المضطربة ما كان ينعم بضمانات كافية لحفظ روحه. فلم يكن له عسس منظم يسهر على حراسته، ولا قانون واضح يهدد بالعقوبة كل من اعتدى عليه، ولا محاكم محترمة تشهر بالجناة وسفاكي الدماء. ولا زلنا نشاهد إلى اليوم أن القتل وإزهاق الأرواح البريئة ينتشر حيث تسود الفوضى والاضطراب وفي الأوساط البدوية والقبائل الهمجية بوجه خاص. بيد أن الجمعية تعالج نفسها بنفسها وتعد لكل داء ما يناسبه من دواء. ولئن فات الإنسان المتوحش شرطتنا المنظمة، وجندنا الشاكي السلاح فانه لم تفته وسائل أخرى من وسائل الدفاع عن نفسه وحقن دمه. ومن بين هذه الوسائل خرافة الأشباح وأرواح الموتى التي تتمثل في صورة شياطين ومردة تنتقم ممن اعتدى عليها
قد لا تكون هناك خرافة سادت العالم سيادة هذه الخرافة. ظهرت مع الإنسان منذ نشأته، ولازمته في مراحل التاريخ المختلفة: تبدو في العصور القديمة والقرون الوسطى والأزمنة الحديثة، بين البدو والهمج ولدى الأمم المتمدينة. ويكفي أن نشير إلى أن كثيرين منا لا يجرؤن على السير ليلا - بل نهاراً - بجوار دار قتل فيها قتيل زعماً منهم بأن روحه الثائرة ستفتك بهم. وعل عادة تغيير المسكن السائدة بيننا على أثر حريق أو وفاة مما ترجع إلى هذه الخرافة، كما هو الشأن لدى بعض القبائل الهمجية. ويقص علينا عامتنا وسكان قرانا أغرب القصص عن المردة الذين لا قوهم في طريقهم ودار بينهم ما دار من حوار ونقاش؛ والماهر منهم من استطاع أن ينجو من المارد الذي اعترضه بجواب لبق أو حيلة ماكرة! وحديث (القرينة) والعفاريت ملأ قرانا ومدننا، وأصبح أشهر من أن يعرف عنه، وله طب خاص وقوامون على أمره يتعهدونه بالبخور (والدقة) وما إلى ذلك من علاج كله ضلال وبطلان
ليس بعسير على الباحث أن يثبت أن خرافة الأشباح هذه جنت على الإنسانية جنايات شنعاء، فبلت بعض الأشخاص بالخوف حتى من ظلهم، وقضت على آخرين بالجنون والصرع وكثير من المصائب والآفات. وقعدت بكثيرين عن السعي وراء أرزاقهم خشية أن يعدو عليهم شبح من الأشباح أو روح من الأرواح. وفي بعض القبائل المتوحشة لا يستطيع شخص أن ينتفع بمال أبيه وأهله وذويه بعد موتهم، لأن أرواحهم تنتقم منه أشد الانتقام غيرة على هذا الحرم المباح والمال المعتدى عليه، فكل يعيش ليومه، ولا يعمل شيئاً لغده؛ وعلى هذا كانت فكرة المستقبل التي هي أساس التقدم الصناعي والتجاري والاقتصادي ضائعة لدى هذه القبائل؛ وفي ضياع هذه الفكرة ما يتنافى وتكوين الثروة والمتاع، وكيف تكون الثروة عند قوم كل همهم من الدنيا عشرات السنين يعيشونها؛ فإذا ماتوا انقرضت أمتعتهم معهم وبددت أموالهم؟ يقول أحد كبار الرحالة: (إنه ليس لدى البتاجون (من سكان أمريكا الجنوبية) أي قانون ولا أية عقوبة ضد المجرمين. كل يعيش على حسب هواه، والسارق الماهر هو الجدير بالتقدير. وليس هناك ما يمنعهم من السرقة وإقامة الأبنية الثابتة إلا العقيدة السائدة من أنه إذا مات أحدهم وجب أن تبدد أملاكه. فكل بتاجوني حصل على ثروة طوال حياته بالسرقة أو الصيد أو التعامل مع القبائل المجاورة لا يفيد ورثته في شيء، ذلك لان كل ما أدخره يبلى معه، وعلى أبنائه أن يكونوا ثروتهم بمجهودهم الخاص. . . وقوم هذه معتقداتهم وتقاليدهم يقنعون بحاجاتهم العاجلة ولا يتعلقون برغبة حقيقية، ولا يصوبون نحو غاية بعيدة؛ وهذا سر كسلهم وتواكلهم ورضاهم بالقليل الذي يتنافى مع التقدم والحضارة، وعلام التعلق بالمستقبل الذي لا يرجى منه خير أو شر؟ الحاضر هو كل شيء في أعينهم، والمنفعة الذاتية مبدؤهم؛ فالابن لا يتعهد قطيع أبيه لعلمه أنه لا يعود عليه بطائل، وإنما يكد ويكدح وحده ليحصل على ثروة شخصية) فخرافة الأشباح والعفاريت والمردة سبب من أسباب الضعف السياسي والاقتصادي لدى بعض الشعوب الناشئة والجاهلة
غير أن هذه الخرافة ليست شراً كلها، بل كانت عاملا من عوامل الخير والدفاع عن الإنسان في الجمعيات التي سادت فيها، فالخوف من الأشباح وعدوانها والأرواح وانتقامها ساعد على حقن دماء كثيرة واحترام الحياة الإنسانية. وذلك أن طائفة من الشعوب تعتقد أن أرواح الموتى والقتلى ذات نفوذ عظيم وقوة هائلة تستطيع بها أن تعكر على الأحياء صفوهم وتعترضهم في طريقهم وتتقمص أجسامهم. وأرواح القتلى بوجه خاص مفطورة على الثأر ممن اعتدى عليها في شخصه أو في أهله وعشيرته. لهذا يضطر الأفراد والجماعات لترضيتها بالهدايا والقرابين، فيذبحون المعز والضأن والديكة والخنازير التي يغسل القاتل بدمها أقذار خطيئته. وأحياناً يحاربون هذه الأرواح ويطاردونها بمختلف الوسائل ويهجرون القرى والمساكن من جرائها. وكم من قرية كانت آهلة بالسكان صباحاً، ثم قتل فيها قتيل ظهراً فأضحت في المساء خراباً يباباً! وقد يمثل بالمقتول أشنع تمثيل لتبقى روحه كامنة في جسمه وعاجزة عن الثأر له
فالإغريق الأول كانوا يعتقدون أن روح القتيل تتأجج غيظاً ممن اعتدى عليها وتتابعه في حقله ومسكنه ولا ينجيه منها إلا فراره خارج الديار عاماً كاملاً يرجى فيه أن تهدأ هذه الروح من ثورتها. وإذا عاد إلى وطنه سارع إلى التقديم الضحايا والقرابين تكفيراً عن أثمه. وقاتل هذا شأنه يعد شراً يتقي وخطراً تخشاه الجمعية لما يحيط به من أرواح ثائرة قد تؤذي كل من حام حوله، فكان طبيعياً أن تحكم القبيلة على القاتل بمفارقة البلاد الزمن اللازم لتكفير خطيئته وإرضاء الروح التي جنى عليها والصينيون كانوا ولا يزالون يؤمنون ببقاء الأرواح وقدرتها على مكافأة المحسنين والانتقام من المسيئين؛ فهي تتدخل من غير انقطاع في عالم الأحياء وتتصرف فيه تمام التصرف. نعم إن هناك فرقاً بين الأشخاص والأرواح، بين الأحياء والأموات، بيد أن هذا الفرق طفيف والمسافة بين هذه الأطراف قصيرة للغاية. وما الديانة الصينية إلا مجموعة أفكار تدور حول الأرواح وما يتصل بها. وقوم يذعنون للأرواح هذا الإذعان لا يجرئون على الاعتداء عليها ويقدسون الحياة الإنسانية تمام التقديس ويعتقد سكان أفريقية الوسطى أن القاتل إذا قاسم قوماً في طعامهم أو بات في كوخهم أحل بهم غضب الله وربما كان سبباً في هلاكهم، اللهم إلا إن تداركهم القسس والكهنة بأدعيتهم وتضرعاتهم، ويزعم بعض القبائل الهندية أن الرجل إذا قتل عدوه لا يسلم من شر روحه إلا أن أراق دم خنزير أو جدي صغير، ومع أن البانتو يعدون الفوز في المعارك الحربية مفخرة عظيمة وشرفاً لا يعدله شرف فأنهم يخشون أرواح القتلى خشية تصل بهم أحياناً إلى الجنون والصرع. ولدرء هذا الخطر يبقى المحارب الظافر في العاصمة بضعة أيام لابساً خرقاً بالية آكلاً في أواني وبملاعق خاصة، وحرام عليه أن يشرب الماء وان يقرب النساء وأن يتناول أي طعام دافئ. وإذا قتل أحد سكان الكونغو قتيلاً حمل على رأسه بعض أرياش الببغاء وغطى جبهته بلون أحمر، وكأنما يريد ذلك أن يستتر عن أعين الروح التي تطارده. وفي غانا الجديدة تسارع القبيلة المحاربة بعد إنجازها هجوماً أو معركة ما بالعودة إلى مساكنها أو إلى قرية محالفة قبل أن يدخل الليل الذي تهيج فيه الأرواح وتتشبث بالقتلة والمحاربين. وفي مقدور الروح أن تتعرف من اعتدى عليها بما لصق بجسمه من دم القتيل أو أي أثر من آثاره. لذلك يطهر المحارب جسمه وحريته بعد أن يتم مهمته، وإذا وصل إلى قريته حيل بينه وبين أهله وذويه وبقى منعزلاً فترة من الزمن، وفي اليوم الثالث من وصوله يحتفل به أصدقاؤه احتفالاً مناسباً، وفي اليوم الرابع يلبس أجمل ثيابه وعدة حربه ويخرج شاكي السلاح مخترقاً شوارع القرية؛ وعله يرمي بهذا إلى استرداد قوته وشجاعته. وإذا شكا أحد أبناء القرية ألماً في معدته ظن أن ذلك راجع إلى أنه جلس في مكان شغله محارب من قبل؛ وإذا أصيب بأذى في أسنانه عزا هذا إلى أنه أكل فاكهة لمسها محارب
وأرواح الآباء والأقارب القتلى بوجه خاص شديدة الهول وعظيمة الخطر، لأنها تجد وسائل كثيرة للثأر لنفسها وأعرف بدخائل القاتل من الأرواح الأخرى. وقد يكون في هذا ما يفسر قسوة الجمهور إلى اليوم على قاتل أبيه أو أمه أو أخيه. والقوانين الجنائية نفسها مشربة بهذا المعنى في مختلف الأمم والشرائع، ولأبناء القرية الواحدة من الجلال والحرمة ما للأهل والأقارب، فلئن استساغ همجي إزهاق روح أجنبية لا يستطيع أن يخفي ذعره من اعتدائه على روح جاره ومواطنه. فسكان الكونغو مثلاً لا يرون غضاضة عليهم في العدوان على القرى المجاورة في حين أن عدوانهم على أبناء قبيلتهم وقريتهم يملؤهم خوفاً ورعباً، ولا يتردد القاتل في أن يلبس السواد على من قتله ويحزن عليه حزناً شديداً كأنه أحد أقاربه أو أصدقائه ولا يشرب ولا يأكل ويبكي بكاء مراً
وليس خطر الأرواح والأشباح بمقصور على الأفراد وحدهم بل يتعداهم إلى الجمعية بأسرها، لأن الأرواح الثائرة ربما تعدو على من صادفها دون أن تميز الجاني من غيره. لذلك تضطر الجمعية إلى تهدئة ثورة هذه الأرواح بشتى الوسائل أو إلى محاربتها والفرار منها. ومن الأمثلة على ذلك أن أهل برمانيا يزعمون أن أرواح القتلى لا تصعد إلى عالم السعادة ولا تنزل إلى عالم الشقاء، وإنما تبقى دائماً حائرة في الأرض تفزع من تلقى، ولترضية هذه الأرواح تقدم لها في الغابات المجاورة قرابين من الأرز مصحوبة بالأدعية الآتية: (أرواح من سقطوا من شجرة، أو من ماتوا جوعا وعطشاً، أو من أكلهم النمر والثعبان، أو من عدا عليهم الإنسان، أو من أهلكهم الطاعون والجرب، لا تسيئوا معاملتنا، ولا تؤذونا ولا تثوروا علينا، امكثوا هنا في هذه الغابة حيث الأرز اللازم لطعامكم) وقد لا تقف الجمعية عند القرابين والهدايا للتكفير عن خطيئة القتل وتهدئة الأرواح المضطربة، بل تعمل على مطاردة هذه الأرواح بطرق أخرى. فهنود أمريكا الشمالية إذا عادوا من معركة صاحوا صيحات عالية وأحدثوا جلبة وضوضاء يراد بها منع الأرواح من أن تدخل قراهم، ومن الغريب أنا نجد نفس هذه التقاليد لدى سكان غانا الجديدة الهولندية والألمانية، وفي استراليا. ويقطع جماعة الإسكيمو المقيمون في مضيق بيرنج عضلات ذراع وجنب القتيل ليحول ذلك دون سيره إن عادت روحه إلى جسمه طلباً للثأر. وفي أفريقية الجنوبية يهشم العمود الفقري تهشيماً منعاً للقتيل من الحركة. وتملأ طائفة أخرى عين القتيل بالفلفل كي تضل روحه السبيل
فخرافة الأرواح والأشباح ملأت الناس أفراداً وجماعات ذعراً وهولاً، ودفعتهم إلى احترام الحياة الإنسانية وتقديسها. وما القوانين الجنائية المنظمة؛ والمحاكم القائمة بين الناس بالعدل والإنصاف إلا أثر صالح من آثار هذه الخرافة. خشي الفرد القاتل الأرواح وعدوانها فلم يسرف في القتل حباً لذاته وتعلقاً بشخصه، ورأت الجماعة في هذه الأرواح خطراً يهدد كيانها فأنزلت بالقتلة صارم العقاب، وسنت ما سنت من حدود تروع الجناة وسفاكي الدماء، وبذا أضحت الحياة الإنسانية محفوظة بعاملين: داخلي وخارجي، فردي وجمعي، ومحمية بسلاح الأخلاق والقانون
يجهد الفقهاء والمشرعون أنفسهم اليوم في مناقشة النظرية القائلة بأن الحدود جوابر أو زواجر. ويختلف علماء القانون الجنائي في أثر العقوبة: فطائفة تقول إن الغرض منها إصلاح المجرم، وأخرى ترى فيها القصاص الملائم للمجني عليه، وثالثة تعدها ترضية لازمة لعاطفة الجمهور الثائرة والمعتدى عليها. وما هذه الآراء المتباينة والنظريات المختلفة إلا منطق مهذب ندخله في تقاليد القبائل الهمجية وتعليل منمق نصبغ به خرافات الشعوب الأولى. وهكذا تسير الإنسانية من الخيال إلى الحقيقة، ومن بحر الخرافة العميق إلى صخور العقل الثابتة، ومن الخارق للعادة إلى الطبيعي، ومن المسلم به إلى المنطقي
إبراهيم بيومي مدكور
دكتور في الآداب والفلسفة