الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 116/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 116/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 116
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 09 - 1935

21 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية السلبية من مذهب نيتشه

الإنسان

للأستاذ خليل هنداوي

يقول نيتشه مبيناً نظرته في مجموعة القيم الاجتماعية: أنا لا أدري إذا كانت الحياة بذاتها جميلة أو قبيحة. لا شيء عندي باطل إلا هذا النزاع المستمر بين المتفائلين والمتشائمين. وأي إنسان في الوجود يحق له أن يقدر قيمة الحياة؟ أما الأحياء فلا يقدرون لأنهم فريق من المتجادلين المتخاصمين. والأموات - وإنهم لأجدر بألا يجيبوا - لأنهم أموات. فلا أحد بقادر على إبداء قيمة الحياة، وإنني لأجهل كل الجهل إذا كان وجودي خيراً أو عدمي؟ ولكني في اللحظة التي أحيا فيها الآن أريد بأن تكون الحياة فياضة مضيئة لامعة في نفسي وخارج نفسي. فأقول إذ ذاك - نعم - لكل ما يجمل الحياة ويجعلها جديرة بأن تحيى. وإذا تبين لي أن الضلال والوهم يساعدانني على تذوق الحياة أقول - نعم - للضلال والأوهام. وإذا بدا لي أن الصفات السيئة مهما كانت ألوانها تساعدني على انتصار حيوية الإنسان أقول - نعم - للخطيئة والشر، وإذا اتضح لي أن الألم هو أنجع من السرور في تهذيب النوع الإنساني أقول - نعم - للألم وأقول - لا - لكل ما يمسخ حيوية الشجرة الإنسانية، وإذا اكتشفت أن الحقيقة والفضيلة والخير وكل ما اصطلح البشر على احترامه من تقاليد وشرائع تضر بالحياة أقول - لا - للعلم والمعرفة والخير

- 2 -

يبحث الآن نيتشه كيف نشأت بين الناس هذه القيم الاجتماعية ويصور التأثير الذي تركته في روح الرجل الغربي الحديث، نقب نيتشه في أصول المذاهب الخلقية التي تواضع عليها البشر فألفى أن أصولها المتشابهة تعود إلى فضيلتين اثنتين توزعت عنهما كل الفضائل: فضيلة الأسياد والسلالات القوية الحاكمة، وفضيلة العبيد والضعفاء الأذلاء وإنك لواجد في منشأ الحضارة الأوروبية هذا العمل الذي ولد هذين المذهبين. فهناك طائفة محبة للقتال، وعصابة من الرجال المفترسين الذين يسطون على طائفة جانحة للسلم، نافرة من الحرب كما هو الأمر في الحضارة اليونانية الرومانية، التي تلاشت إزاء هجمات الأقوام الجرمانية. إن الرجل الشديد المعتمد على نفسه، تموج في صدره رغبته بتعيين قيم الناس والأشياء بنفسه. وليست فضيلته إلا بهجته الراقصة بشعوره بقوته وكماله. يدعو (حسناً) من كان يماثله شرفاً وسيادة، ويدعو (رديئاً) من يختلف عنه. الخير عنده ما هو إلا مجموعة تلك الصفات الطيبة والخلقية التي يقدرها في نفسه وفي أقرانه. يبهج نفسه أن يكون قوياً وقديراً. يعرف أن يخضع غيره ويخضع نفسه. يقسو على نفسه كما يقسو على سواه. يقدس هذه الصفات عند الآخرين ويحتقر الضعف والجبن حيث ظهرا، يسخر من عاطفة الشفقة والنزاهة؛ ومن كل الفضائل السائدة اليوم، لأنه لا يراها صفات تليق بسيد. يعجب بالقوة والقسوة والخداع، لأن هذه الصفات تحقق له ظفره في النضال، يحترم الميثاق عند أمثاله الأقوياء، ويجد نفسه في حل مع العبيد الضعفاء، ينكل بهم إذا أراد نكالاً، ويسعدهم إذا أراد إسعادهم. له الأمر في أمرهم. يبذل روحه في سبيل قائده وأميره، ويكرم شيخ قبيلته، ويحترم تقاليد أهله

ألا أن الفضيلة الأرستقراطية لفضيلة قاسية متعصبة، ولما كان الشرفاء أقلية ضئيلة في جحافل كثيرة تتمنى الإيقاع بها، فعليهم أن يصونوا صفاتهم الخاصة التي تضمن لهم الفوز. وتقاليدهم التي اصطلحوا عليها في زواجهم وتربية أبنائهم وارتباط بعضهم ببعض هي من التقاليد العاملة على صيانة ذريتهم من الأخطار. لهذه الذرية الأرستقراطية إلهها الذي تتجسد فيه كل فضائلها التي قادتها إلى القوة وإلى هذا المظهر الذي بدت به، إن هذا الإله هو - إرادة القوة - التي ساقت الزعماء إلى السلطة، وجعلت منهم أقوياء سعداء، والعبادة التي يقومون له بها هي تفسير ابتهاجهم بالحياة على النمط الذي يفهمون منه أنهم جميلون أقوياء

هذه الفضيلة تختلف جد الاختلاف عن فضيلة العبيد، والضعفاء الأذلاء، وإذا كانت الكبرياء والبهجة بالحياة، هي العاطفة التي تموج في صدور الأسياد، فلا عجب إذا نما في صدور الضعفاء التشاؤم، ومقت الحياة، وكره الأقوياء. الأقوياء يكيد بعضهم لبعض. أما الضعيف الغريب الذي يتصدى لهم فويل له، لأن غريزتهم في البأس والقوة لا تشبع إلا بسحقه! لأنهم يعتقدون أنهم بما فعلوا أتوا عملاً جليلاً يحق لهم به أن يغدوا على أفواه الشعراء أسماء مرددة، وهم - في ناظر هذا الغريب المغلوب على أمره - شياطين وقردة؛ تحمل الرعب والهول للآمنين. إن جرأة هذه الطائفة وجنونها وقسوتها، واحتقارها للأمان والحياة واغتباطها العميق بالتهديم وظفرها. كل هذه الصفات ينعتها أولئك المقهورون بالبربر والبربرية، وهكذا رجل القوة والبأس والرجولة في مذهب فضيلة الأسياد يصبح رجل اللؤم والرداءة في مذهب فضيلة العبيد. والرديء الشرير - في عرف الضعيف - هو كل من ارتدى رداء القسوة والعنف والرعب، والجميل عنده كل هذه الفضائل التي يحتقرها الأسياد؛ الفضائل التي تخفف من شدة الظلم، وتمنع إرهاق المظلومين، وترأف بالبائسين المتألمين؛ فضائل الشفقة والرقة والصبر والتواضع والإحسان فضائله. إن العظيم الذي كان محارباً مخيفاً قوياً في شريعة الأسياد، يحول في شريعة العبيد هادئاً حليماً، ويصبح جديراً بالصغار، لأنه بالغ في توانيه عن القتال، وبالغ في لبسه ثوب المساكين

- 3 -

والآن لننظر في هذه القيم الاجتماعية التي أنشأها العبيد، فان الشريعة المسيحية وفضائلها تولدت في تلك البيئة. وعصابة العبيد والضعفاء والمنحطين وجدت زعيمها في الكاهن، ومن هو الكائن؟ ينبغي للكاهن أن يكون (منحطاً) ليمكنه تفهم رغائب شعبه المريض، وهو بعد هذا يجب أن يصون سلطته وزعامته لتتجه إليه ثقة المتألمين، ويكون حارسهم الأمين المسيطر عليهم، وإلههم الذي منه يخشون. وهي مهنة تستلزم منه أن يحرس الضعفاء من الأقوياء، ويعلن العداوة بينه وبين الأسياد. عداوة سلاحها سلاح الضعيف: مراوغة وكذب ورياء. فيحول بنفسه حيواناً مفترساً مروعاً كالحيوانات المفترسة التي يحاربها، ولا تقف مهنته عند هذا فحسب، فهو مضطر إلى أن يحرس الشعب من نفسه ومن النوازع السيئة التي تتمشى عادة في الشعوب المريضة، يقاتل بحكمة وقسوة كل ما يخيل إليه فيه فوضى أو تفسخ أو انحلال، يلمس هذه النوازع الملتهبة ويزيدها ضراماً دون أن يعود ضرر منها على القطيع وعلى راعي القطيع. قد تكون هذه المهنة نافعة من وجه، لأنها تهذب بعض الفاسد، وضارة من وجهه لأنها تقف عثرة في سبيل حركة التقدم الطبيعي ألا نجد (المرفأ) المرفأ الأمين الذي تأوي إليه هذه السفن المشحونة بالمرضى والمتألمين، هو الموت. . . الموت الذي يسكن كل الآلام ويذهب بكل الأوجاع؟ وهؤلاء الذين أظلمت في نفوسهم قوة الحياة تبقى قوة الإرادة عندهم متيقظة تعارك الفناء وتناضل العدم، وهي التي شوهت معنى الحياة عندهم، أمست تمدهم بقواعد للحياة جديدة، وحيل تعمل على تسكين آلامهم، تخدعهم عن حقيقة ألمهم، فيحس الكاهن انتفاعاً بهذه الغريزة الطبيعية، فيسوقها ويديرها ويثيرها حتى يجعل منها آلة سلطته وزعامتها، فيصبح زعيم جماعة لا تحصى من المرضى والمنحطين. وما هو الثمن يا ترى؟

(يتبع)

خليل هنداوي