مجلة الرسالة/العدد 116/عرض لإحدى مشاكل الأدب الإنكليزي
→ حب الاستعمار والجشع سيقضيان على الحضارة | مجلة الرسالة - العدد 116 عرض لإحدى مشاكل الأدب الإنكليزي [[مؤلف:|]] |
تبتغي أمها ← |
بتاريخ: 23 - 09 - 1935 |
هل ألف شكسبير رواياته؟
بقلم جريس القسوس
أخي ح. ش.
كتبت إلي تسألني أن أجلو لك حقيقة هذا النابغة، الذي على سعة شهرته وذيوع اسمه في مختلف الأزمان والبلدان، مازال مبهم الشخصية، مجهول الهوية؛ وما فتئ الكثيرون من الأدباء في إنكلترا وفي أمريكا يرتابون في أمر تأليفه الروايات المنسوبة إليه؛ فتراهم في كل حين يكتشفون لهم مؤلفاً جديداً غير شكسبير، مؤيدين آراءهم باقطع البراهين وأقواها
ولقد بلغت هذه المسألة من الأهمية وخطورة الشأن ما جعل الأدباء ينقسمون إلى مدرستين، الأولى تنتصر لشكسبير وتعضده وتعرف هذه بمدرسة مستقيمي الرأي (أورثوذكس) بينما الثانية وهي - نسبة إلى ستراتفورد قرية شكسبير ومسقط رأسه - تجرده من كل صبغة أدبية، وتتهمه بضعف الإرادة والجهل، فهي لا تود أن تنسب هذه المؤلفات الرائعة إلى امرئ كشكسبير وضيع النسب، نشأ نشأة الوضعاء من عامة البشر، فلم يلتحق بمعهد عال أو يتفقه على مدرب كبير
أنه لمن العار بل من الحرام - على رأيهم - أن تنشأ العبقرية في الأكواخ؛ وإنه لمن الشائن المزري إذن أن تعزى هذه الروايات على فيها من روعة وجلال إلى شكسبير العامي القروي. في ذلك يتفق أصحاب هذه المدرسة، غير أنهم يختلفون في أمر مؤلفها
أما أول الأدباء الذي نسب إليهم تأليف روايات شكسبير ففرنسيس (1561 - 1626) الفيلسوف الإنكليزي الشهير، وأول واضع أسس النظرية فهربرت إذ ألف سنة 1769 كتاباً سماه (مجازفات في الذوق السليم) بيد أن هذه الآراء لم تثر اهتمام الأدباء ولم تحرك لهم ساكناً مدة نصف قرن أو أكثر. بعد ذلك لقيت لها أنصاراً عضدوها بالمؤلفات العديدة، منهم ج. س. في كتاب ألفه سنة 1848، وفي مقالة موضوعها (من ألف روايات شكسبير؟) نشرت في التشمبرز ' ومنهم و. هـ. سمث في رسالة بعث بها إلى لورد اليسمير موضوعها (هل ألف بيكون روايات شكسبير؟) ومنهم أيضاً الكاتبة ديليا في كتاب اسمه (كشف القناع عن فلسفة روايات شكسبير) وقد ظهر مؤخراً غير هؤلاء في إنكلترا وفي أمريكا كاللورد بنرانس وسر. ت. مارتن، وج. قرينود وغيرهم من مشاهير الأدباء وكبار النقدة ممن عززوا النظرية البيكونية، وحملوا على شكسبير كادت أن تمحو أسمه محواً؛ وتدحر جيش أنصاره دحراً
ويبني معظم أنصار بيكون حجتهم على النقط التالية:
(1) إن سر توبي ماتيوس سنة 1621 برسالة إلى بيكون يمتدحه فيما ويعده (أنبغ من أنجبت إنكلترا، ومن عاش على هذا الجانب من البحر، في العصر الحاضر)
(2) إن في روايات شكسبير بعض فقرات ومفردات تدل على تبحر مؤلفها في العلم وتعمقه في الفلسفة والقانون مما لا يمكن أن يعزى إلى شكسبير كما يظهر في ترجمة حياته المعروفة
(3) إن في روايات شكسبير مشاهد وأبياتاً تشهد بأن ناظم عقدها أرستقراطي النزعة والنشأة. مثال ذلك أنه: يسخر بالرعاع، ويزدري عامة البشر في كل من (يوليوس قيصر) و (كور يولانس) سخرية وازدراء لا يمكن أن يصدرا من شكسبير القروي الوضيع النسب، إن ذلك إلا مظهر عن مظاهر نبذ الأرستقراطية للعامة وكراهيتها لها، واعتزازها برجالها، وفي مقدمتهم بيكون
(4) أما أخر هذه البراهين، والذي عليه يبني جميع خصوم شكسبير، على اختلاف أشخاصهم، آراءهم واعتقادهم الراسخ في أن شكسبير على ما في نسبه من ضعةٍ، وفي نشأته من حقارة، وفي علمه من نقص، وفي خلقه من مغمز، وفي حياته من غموض وإبهام، لا يمكن أن يكون مؤلف تلك الروايات الخالدة، التي تشهد لصاحبها بعبقرية تفوق كل عبقرية، ونبوغ هو فوق كل نبوغ، كيف يمكن هذا، مادام هناك بيكون الفيلسوف الكبير، والنابغة الفذ الذي شغل أهل زمانه، وملأ أسماعهم وأبصارهم؟
ويأخذ أنصار شكسبير هذه الحجج ويفدونها واحدةً واحدة. فيقولون - مثلاً في الرد على الحجة الأولى إن (سر توبي ماتيوس) لم يعن في رسالته بيكون الفيلسوف، وإنما عني راهباً يسوعياً آخر اسمه طوماس كان يعرف بلقب بيكون. مع كل هذا يرى أنصار شكسبير - مسلمين جدلاً بأني سر توبي يعني الفيلسوف بيكون - أن ليس في هذا ما يدل كل الدلالة على إن بيكون إنما هو مؤلف روايات شكسبير. إن هي إلا العاطفة، عاطفة الصداقة العمياء هذه ذات التعليمات والأحكام الجارفة
أما فيما يخص الأشعار فليس في البقية الباقية من شعر الفيلسوف بيكون ما يدل على أنه شاعر بالمعنى الصحيح؛ ذلك الشاعر الفذ الذي يمكن أن يعزى إليه نظم تلك القطع الرائعة التي تتخلل معظم رواياته وخاصة الأخيرة منها
هذا أما المفردات أو الفقرات العديدة الواردة في روايات شكسبير والدالة على تبصر في العلم وتبحر في الفلسفة والقانون وإلمام بأغلب الفنون فلم تكن مقصورة على شكسبير أو على بيكون وحدهما. فقد كانت بحق ملك جميع المؤلفين في عصر اليصابات وبالأخص الأخير منه. إذ شاع فيه التقليد والنسج على منوال الأولين. فالذي يجوز لنا الارتياب في أمر تأليف شكسبير لهذه الروايات على هذا الأساس الواهي، يجوز لنا أيضاً الاشتباه في غيرهم من الكتاب والشعراء
وعلاوة على هذا يرى أنصار شكسبير أن ليس في هذه الروايات ما يدل على إلمام واسع بالعلوم والفنون أو تعمق في الفلسفة والقانون، إلماماً وتعمقاً يصح معهما أن ينسب تأليفها إلى بيكون صاحب النظريات الفلسفية الخالدة والنثر الأدبي الرائع
أما القول بأن مؤلف هذه الروايات لابد أن يكون أرستقراطي النسب والنزعة كما يظهر من شعوره نحو الرعاع وخصوصاً في (يوليوس قيصر) و (كور يولانوس) فليس بالقول الذي يعتمد عليه بنيان مثل هذه النظرية وتحقيقها. إذ ما روايات شكسبير إلا مملكة كبيرة، فيها الملوك والنبلاء، والرعاع والعلماء، وفيها الجنود والصناع، والأرواح والآلهة، كل منهم يفكر ويقول ويعمل حسب طبيعته ونزعته، وعلى قدر قوته ومعرفته، غير مقيد برأي الشاعر أو عقيدته الخاصة. بذا يمتاز شكسبير عن (بروننج) خاصة وعن باقي الشعراء والكتاب عامة. فما الرعاع في الحقيقة إلا من هذا البشر الذي توخى شكسبير في تصوير طبيعته ونفسيته الصدق والعدل
هذا بعض مما يقوله أنصار شكسبير في الرد على خصومه، غير أنهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يوردون الحجج الإيجابية الدامغة التي تؤيد آراءهم كل التأييد. من ذلك قولهم إن حياة شكسبير ليست محاطة بالإبهام كما يظن خصومه. فلو استعرضنا تراجم معاصريه من الأدباء لألفينا في جميعها - اللهم إلا من اتصل منهم بالسياسة أو القانون وكان له فيها شأن كبير - غموضاً وإبهاماً يساويان، إن لم يزيدا، ما في ترجمة حياة شكسبير من غموض وإبهام
ويرى أنصار شكسبير أيضاً أن لديهم تقارير عديدة تدل على اتصال الشاعر بالمسرح وانشغاله بأموره مدة ليست باليسيرة. وفي بعض رواياته نلمح ما يدل على إلمام الشاعر بفن المسرح ودقائقه. يحضرنا على ذلك - على سبيل التمثيل - ما جاء على لسان هملت في تلقينه الغلمان سبل الإلقاء والتمثيل تلقيناً يشهد له - أي لشكسبير - بطول الباع في هذا الفن. وليس في ترجمة حياة بيكون الضافية، ما يدل على ولوعه بالتمثيل أو كلفه بالمسرح.
أما ادعاء خصوم شكسبير إن ما في رواياته من مفردات في القانون، يكفل لبيكون - وهو بالطبع قانوني - تأليفه الروايات لحجة واهية، من السهل دحضها. فقد كانت لندن في عصر اليصابات تكتظ بالطلاب الحقوق هواة المسرح، فكان لشكسبير في ذلك فرصة سانحة لمجالستهم والاستماع إلى أحاديثهم التي تدور، في أغلب الأحيان، حول القانون. هذا عدا تجاربه واختباراته في هذا الفرع كابن أحد الملاك أو التجار
ومن البيانات الواضحة التي يعتمدها أنصار شكسبير في الرد على خصومه، ورود اسم شكسبير مع التعليق على فنه في بعض النسخ الأولى من رواياته مفردة مجموعة معاصريه، وخاصةً فرنسيس في كتابه (بلادس تيميا وروبرت جرين تهكمه اللاذع على شكسبير، وفي قصيدة بن جونسون التي فيها يخلد (وزة
وقد ظهر مؤخراً غير بيكون مرشحون آخرون لروايات شكسبير، منهم (لورد تلند الخامس عشر ومنهم كونت أحدثهم ظهوراً وأشدهم خطراً على الممثل الستراتفوردي ديفر ايرل اوف اوكسفورد السابع عشر. فقد وضع ج. طوماس سنة 1920 كتاباً في هذا الموضوع سماه (إثبات شخصية شكسبير في دي فير ايرل أوف أوكسفورد)
وآخر كتاب ظهر في هذا الموضوع هو لمونتاجو رئيس جمعية أدبية أخذت على نفسها معاضدة دي فير ودحض آراء أنصار شكسبير. فقد وضع كتاب (ايرل أوف أوكسفورد لشكسبير وهو يجمع باختصار كل ما يمكن أن يقال في هذا الأديب كمؤلف للروايات المنسوبة لشكسبير
أما النظرية الشيخزبيرية فما هي في الحقيقة بنظرية، وإنما هي خرافة أكبر عامل في خلقها التشابه الظاهر بين اسمي الشيخ زبير وشكسبير. ليس هذا فحسب، بل إن علاقة شكسبير الغرامية مع (السيدة السمراء) ويظن بعضهم أنها مصرية - وحبه للخيول وخاصة خيول رواد المسرح وما في رواياتها من امتداح لجزيرة العرب وتغن بسمائها وطيرها (فونكس وزهرها وشجرها، كل هذه بعض من الشواهد التي قد يتخذها هواة النظريات أساساً للنظرية الشيخزبيرية
ولقد غرب عن بالي ن أذكر لك أن من الأدباء من يعزو إلى شكسبير تأليف نحو أربعين رواية أخرى، ومنهم من يرى أن شكسبير لم يؤلف كل رواياته، بل شاركه في ذلك كتاب آخرون كبيمونت وفليتشر، وخاصة في (تيطس ادرونيكس) وثلاثة أجزاء: (هنري السادس)، و (تيمون أثينا)، و (بيركليس)، و (هنري الثامن)
هذا عرض موجز لما يمكن أن أخبرك به في هذا الموضوع، ولا أنكر عليك أنني بعد دراسة حجج الفريقين وتمحيصها بكل دقة - أراني ميالاً كل الميل إلى المدرسة الستراتفوردية. ولا أشك في أن النجاح سيحالفها، مهما وجه إليها من نقد لاذع، ولشكسبير من تهم هو بريء منها
الكرك: شرق الأردن
جريس القسوس