الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 11/في الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 11/في الأدب العربي

بتاريخ: 15 - 06 - 1933


مآثر العرب في الفلك

مقدمة

يعيب البعض على العرب انهم لم يكونوا عمليين، ولم يعرفوا من العلوم إلاّ قسمها النظري، وهذا الاعتقاد خطأ، ويظهر فساده جلياً ببعض الإلمام بتأريخ العلوم، إذ يتحقق لدى الباحث المنقب أن للعرب عدا ترجمتهم أهم نتاج قرائح الأمم التي سبقتهم إضافات هامة وابتكارات جمة مبينة على التجربة، على أساسها بنى الغرب حضارته، ولولاها لما تقدمت المدنية تقدمها الحاضر. والآن سأبحث بصورة مجملة عن أهم مآثر العرب في علم الفلك، وطبعاً لا يمكنني في هذه العجالة أن أجول كثيراً في هذا الموضوع فهو أجلّ من أن يوف حقه بمقالة، ولقد سبقنا الغربيون إلى البحث عن التراث العربي في الفلك وغيره من العلوم والفنون، وأظهروا الاكتشافات الفلكية التي للعرب وأثر ذلك في تقدم العلوم الطبيعية، وكان من ذلك أن اعترف المنصفون من علماء الفرنجة بخصب العقل العربي وفضل الحضارة العربية على حضارتهم التي ينعمون بها.

اعتناؤهم بالفلك:

لم يعرف العرب قبل العصر العباسي شيئاً يذكر عن الفلك، اللهمّ إلاّ فيما يتعلق برصد بعض الكواكب والنجوم الزاهرة وحركاتها وأحكامها، بالنظر إلى الخسوف والكسوف، وبعلاقتها بحوادث العالم من حيث الحظ والمستقبل والحرب والسلم والمطر والظواهر الطبيعية، وكانوا يسمون هذا العلم الذي يبحث في مثل هذه الأمور بعلم التنجيم، ومع أن الدين الإسلامي قد بيّن فساد الاعتقاد بالتنجيم وعلاقته بما يجري على الأرض لم يمنع ذلك الخلفاء ولا سيما العباسيون في بادئ الأمر أن يعتنوا به وأن يستشيروا المنجمين في (كثير من أحوالهم الإدارية والسياسية. فإذا خطر لهم عمل وخافوا عاقبته استشاروا المنجمين فينظرون في حال الفلك واقترانات الكواكب ثم يسيرون على مقتضى ذلك) وكانوا يعالجون الأمراض على مقتضى حال الفلك، يراقبون النجوم ويعملون بأحكامها قبل الشروع في أي عمل حتى الطعام والزيارة. ومما لاشك فيه أن علم الفلك تقدم تقدماً كبيراً في العص العباسي كغيره من فروع المعرفة، وقد كانت بعض مسائله مما يطالب بمعرفتها المسلم كأوقات الصلاة ومواقع بعض البلدان المقدسة وقت ظهور هلال رمضان وغيره من الأشهر أضف إلى ذلك شغف الناس بعلم التنجيم، كل هذه ساعدت على الاهتمام بالفلك والتعمق فيه تعمقاً أدى إلى الجمع بين مذاهب اليونان والكلدان والهنود والسريان والفرس، وإلى إضافات هامة لولاها لما أصبح علم الفلك على ما هو عليه الآن.

قد يستغرب القارئ إذا علم أن أول كتاب في الفلك والنجوم ترجم عن اليونانية إلى العربية لم يكن في العهد العباسي بل كان في زمن الأمويين قبل انقراض دولتهم في دمشق بسبع سنين. ويرجح الباحثون أن الكتاب هو ترجمة لكتاب عرض مفتاح النجوم المنسوب إلى هرمس الحكيم، والكتاب المذكور موضوع على تحاويل سني العالم وما فيها من الأحكام النجومية، وأول من اعتنى بالفلك وقرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، وبلغ شغف المنصور بالمشتغلين بالفلك درجة جعلته يصطحب معه دائماً نوبخت الفارسي، ويقال أن هذا لما ضعف عن خدمة الخليفة أمره المنصور بإحضار ولده ليقوم مقامه فسّير إليه ولده أبا سهل بن (نوبخت) وقد ساعد المنصور كثيراً إبراهيم الفزاري المنجم وابنه محمد وعلي بن عيسى الاصطرلابي المنجم وغيرهم، وهو الذي أمر أن يُنقل كتاب في حركات النجوم مع تعاديل معمولة على كردجات محسوبة لنصف نصف درجة مع ضروب من أعمال الفلك من الكسوفين ومطالع البروج وغير ذلك. وهذا الكتاب عرضه عليه رجل قدم سنة 156همن الهند قيّم في حساب السندهنتا، وقد كلف المنصور محمد بن إبراهيم الفزاري بترجمته وبعمل كتاب في العربية يتخذه العرب أصلاً في حركات الكواكب، وقد سمّاه المنجمون كتاب السندهند الكبير الذي بقى معمولاً به إلى أيام المأمون وقد اختصره الخوارزمي وصنع منه زيجه الذي اشتهر في كل بلاد الإسلام (وعول فيه على أوساط السندهند وخالفه في التعاديل والميل فجعل تعاديله على مذهب الفرس وميل الشمس على مذهب بطليموس، واخترع فيه أنواع التقريب أبوابا حسنة، وقد استحسنه أهل ذلك الزمان وطاروا به في الآفاق)، وفي القرن الرابع للهجرة حوَّل مسلمة بن احمد المجريطي الحساب الفارسي إلى الحساب العربي.

بعض فلكييّهم: زاد اهتمام الناس بعلم الفلك وزادت رغبة المنصور فيه، فشجع المترجمين والعلماء، وفي مدة خلافته نقل أبو يحيى البطريق كتاب الأربع مقالات لبطليموس في صناعة أحكام النجوم ونقلت كتب أخرى هندسية وطبيعية أرسل المنصور في طلبها من ملك الروم، واقتدى بالمنصور الخلفاء الذين أتوا بعده في نشر العلوم وتشجيع المشتغلين فيها، فلقد ترجموا إلى العربية ما عثروا عليه من كتب ومخطوطات للأمم التي سبقتهم وصححوا كثيراً من أغلاطها وأضافوا إليها.

وفي زمن المهدي والرشيد أشتهر في الأرصاد علماء كثيرون من أمثال (ما شاء الله) الذيألف في الأسطرلاب ودائرته النحاسية، وأحمد بن محمد النهاوندي. وفي زمن المأمون ألّف يحيى بن أبي منصور زيجاً فلكياً مع سند بن علي، وهذا أيضا عمل أرصاداً مع علي أبن عيسى وعلي أبن البحتري، وفي زمنه أيضا أصلحت غلطات المجسطي لبطليموس، وألّف موسى بن شاكر أزياجه المشهورة، وكذلك عمل أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب، واشتغل بنو موسى في حساب طول درجة من خط نصف النهار بناءً على طلب الخليفة المأمون، وفي ذلك الزمن وبعده ظهر علماء كثيرون لا يتسع المجال لسرد أسمائهم كلها، وهؤلاء ألّفوا في الفلك وعملوا أرصاداً وأزياجاً جليلة أدت إلى تقدم علم الفلك. أمثال: ثابت بن قرّة والمهاني والبلخي وحنين بن إسحاق والعبادي والبتاني الذي عدّه لالاند من العشرين فلكياً المشهورين في العالم كله، وسهل بن بشار ومحمد بن محمد السمرقندي، وأبو الحسنى علي بن إسماعيل الجوهري وأبو جعفر بن أحمد بن عبد الله بن حبش، وقسطه البعلبكي والكندي، والبوزجاني وابن يونس والصاغاني والكوهي والمؤيد العرضي وابنه وأبو الحسن، المغربي ومسلمة المجريطي وأبو الوليد محمد بن رشد وجابر بن الأفلح والبيروني والخازن والطوسي وابن الشاطر والفخر الخلاني وجمشيد والقوشجي والبطروجي والفخر المراغي ونجم الدين بن دبيران وعماد الدين الأنصاري وأولوغ بيك وقاضي زاده رومي والتيزيني والحزري وفتح بن ناجية وأبو الفتح عبد الرحمن والغزالي والتوفيقي وهبة الله والمدني ومبشر بن أحمد ومحمد بن مبشر. . . .

مآثرهم: بعد أن نقل العرب المؤلفات الفلكية للأمم التي سبقتهم صححوا بعضها ونقحوا الآخر وزادوا عليها، ولم يقفوا في علم الفلك عند حد النظريات بل خرجوا إلى العمليات والرصد، فهم أول من أوجد بطريقة علمية طول درجة من خط نصف النهار، وأول من عرف أصول الرسم على سطح الكرة وقالوا باستدارة الأرض وبدورانها على محورها وعملوا الأزياج الكثيرة العظيمة النفع، وهم الذين ضبطوا حركة أوج الشمس وتداخل فلك هذا الكوكب في داخل أفلاك أخر، واختلف علماء الغرب في اكتشاف بعض أنواع الخلل في حركة القمر إلى البوزجاني أو إلى (تيخوبراهي) ولكن ظهر حديثا أن اكتشاف هذا الخلل يرجع إلى أبي الوفاء البوزجاني لا إلى غيره. وزعم الفرنجة أن آلة الإسطرلاب من مخترعات تيخوبراهي المذكور مع ان هذه الآلة والربع ذا الثقب كانا موجودين قبله في مرصد المراغة الذي أنشأه العرب، وهم (أي العرب) الذين حسبوا الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية وحسب البتاني ميل فلك البروج على فلك معدل النهار فوجده 23 درجة و 35 دقيقة وظهر حديثا انه أصاب في رصده إلى حد دقيقة واحدة، ودقق في حساب طول السنة الشمسية وفي حساب إهليليجية فلك الشمس فاستطاع أن يجد بعد الشمس عن مركز الأرض في بعديها الأبعد والأقرب وقد كانت النتائج التي وصل إليها قريبة جدا مما وصل إليه العلماء الآن، والبتاني من الذين حققوا مواقع كثير من النجوم، وقال بعض علماء العرب بانتقال نقطة الرأس والذنب للأرض، ورصدوا الاعتدالين الربيعي والخريفي وكتبوا عن كلف الشمس وعرّقوه قبل أوربا وأنتقد أحدهم وهو أبو محمد جابر بن الأفلح المجسطي في كتابه المعروف بكتاب إصلاح المجسطي وكان جابر يسكن في إشبيليه في أواسط القرن السادس للهجرة. وقد دعم انتقاده عالم آخر، أندلسي وهو نور الدين أبو إسحاق البطروجي الإشبيلي في كتابه الهيئة الذي يشتمل على مذهب حركات الفلك الجديد، ويقول الدكتور سارطون إنه بالرغم من نقص هذه المذاهب الجديدة فإنها مفيدة ومهمة جداً لأنها سهّلت الطريق للنهضة الفلكية الكبيرة التي لم يكمل نموها قبل القرن العاشر وأبحاثهم في الفلك أوحت لكبار (أن يكتشف الحكم الأول من أحكامه الثلاثة الشهيرة وهي إهليليجية أفلاك السيارات) وأخيراً نقول أن العرب عندما تعمقوا في درس علم الهيئة (طهروه من أدران التنجيم والخزعبلات وأرجعوه إلى ما تركه علماء اليونان علماً رياضياً مبني على الرصد والحساب وعلى فروض تفرض لتعليل ما يرى من الحركات والظواهر الفلكية).

المراصد وبعض آلاتها والأزياج:

لم يصل علم الفلك عند العرب إلى ما وصل إليه إلا بفضل المراصد، وقد كانت هذه نادرة جداً قبل النهضة العلمية العباسية، وقد يكون اليونان أول من رصد الكواكب بالآلات وقد يكون مرصد الإسكندرية الذي أنشئ في القرن الثالث قبل الميلاد هو أول مرصد كتب عنه، ويقال إن الأمويين ابتنوا مرصداً في دمشق ولكن الثابت أن المأمون هو أول من أشار باستعمال الآلات في الرصد، وهو الذي ابتنى مرصداً على جبل قيسون في دمشق وفي الشماسية في بغداد، وفي مدة خلافته وبعد وفاته أنشأت عدة مراصد في أنحاء مختلفة من البلاد الإسلامية، فلقد ابتنى بنو موسى مرصدا في بغداد على طرف الجسر، وفيه استخرجوا حساب العرض الأكبر من عروض القمر وبنى شرف الدولة أيضاً مرصداً في بستان دار المملكة، ويقال أن الكوهي رصد فيه الكواكب السبعة. وأنشأ الفاطميون على جبل المقطم مرصدا عرف باسم المرصد الحاكمي، وكذلك أنشأ بنو الأعلم مرصدا عرف باسمهم، ولا ينبغي أن ننسى أن مرصد مراغة الذي بناه نصير الدين الطوسي في القرن السابع للهجرة من أهم المراصد التي قدمت بعلم الفلك تقدما محسوساً، ويوجد عدا هذه مراصد أخرى في مختلف الأنحاء كمرصد ابن الشاطر بالشام ومرصد الدينوري بأصبهان ومرصد البيروني ومرصد أولوغبك بسمرقند ومرصد البتاني بالشام ومراصد غيرها كثيرة خصوصية وعمومية في مصر والأندلس وأصبهان. . .

كان للرصد آلات وهي على أنواع، وتختلف بحسب الغرض منها، وهاك أسماء بعضها: اللبنة، والحلقة الاعتدالية، وذات الأوتار وذات الحلق، وذات السمت والارتفاع والآلة الشاملة، وذات الشعبتين، وذات الجيب، وذات المشتبهة بالناطق، والإسطرلاب وأنواعه المتعددة وقد اعترف الفرنجة بان العرب أتقنوا صنعته. وثبت أن الإسطرلاب وذات السمت والارتفاع والآلة الشاملة والرقاص وذات الأوتار والمشتبهة بالناطق كل هذه من مخترعات العرب عدا ما اخترعوه من المساطر والبراكير وعدا التحسينات التي أدخلوها على كثير من آلات الرصد.

في هذه المراصد عمل المسلمون أرصادا كثيرة، ووضعوا الأزياج القيمة الدقيقة. وعلى ذكر الأزياج نقول أن مفردها زيج وفي معناه قال ابن خلدون (ومن فروعه (علم الهيئة) علم الأزياج وهي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطئ واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة. ولهذه الصناعة قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جداول مرتبة تسهيلاً على المتعلمين وتسمى الأزياج) ومن أشهر الأزياج زيج إبراهيم الفزاري وزيج الخوارزمي وأزياج المأمون وابن السمح وابن الشاطئ وأبى حماد الأندلسي وابن يونس وأبى حنيفة الدينوري وأبى معشر البلخي والأيلخاني وعبد الله المروزي البغدادي والصفاني والشامل (لأبي الوفاء) والشاهي (لنصير الدين الطوسي) وشمس الدين وملكشاهي والمقتبسي (لأبي العباس بن أحمد بن يوسف بن الكمال) وو و. . .

الخلاصة:

وبالجملة فان للعرب فضلاً كبيراً على الفلك.

(أولاً) لأن العرب نقلوا الكتب الفلكية عند اليونان والفرس والهنود والكلدان والسريان وصححوا بعض أغلاطها وتوسعوا فيها وهذا عمل جليل جداً لاسيما إذا عرفنا أن أصول تلك الكتب ضاعت ولم يبق منها غبر ترجماتها في العربية وهذا طبعاً ما جعل الأوربيون أن يأخذون هذا العلم عن العرب فكانوا (أي العرب) بذلك أساتذة العالم فيه.

و (ثانياً) في إضافاتهم الهامة واكتشافاتهم الجليلة التي تقدمت بعلم الفلك شوطا بعيداً.

و (ثالثاً) في جعلهم علم الفلك استقرائياً وفي عدم وقوفهم عند حد النظريات كما فعل اليونان.

و (رابعاً) في تطهير علم الفلك من أدران علم التنجيم.

نابلس - فلسطين - قدري حافظ طوقان - عضو الجمعية الرياضية بلندن