مجلة الرسالة/العدد 11/القصص
→ العلوم | مجلة الرسالة - العدد 11 القصص [[مؤلف:|]] |
إلى بئر جندلي ← |
بتاريخ: 15 - 06 - 1933 |
قصة مصرية
سفروت الحاوي
- 2 -
ووقف الجمع برهة ينتظر رجوع الرجال الذين بعثهم صاحب الفندق وعلموا أنهم بحثوا عن بولص خارج الفندق وداخله من غير جدوى. فانفجرت المرأة ثانية بالصياح والتهديد
- أنا بقولَّك أب واغْطس بجوزي دلوقت أهه لحسن اوديك في داهية.
- يا ست يعني أنا حاخذه أعمل بيه ايه، ياريت كنت عارف طريقه وأنا كنت والله أجيبه لك.
- أمال راح فين الراجل؟
- والله يا ستي أنا علمي علمك.
- لأ. أبدا. أنت عارف طريقه! أنت سحرته بالجن الأحمر والأخضر بتوعك
- جن اخضر بتوعي؟!، هو أنت صدقت إني اعرف جن وسحر؟ يا ستي أنا راجل على باب الله وده كلام بس علشان أكل العيش تعالي وأنا أوريك الصندوق علشان تصدقي.
- اصدق؟ أنا ماعرفشي أمور الحوي دي، أنا حاوديك في داهيه. أنت خنقت الرجل علشان تاخذ فلوسه
ولوت المرآة وأمسكت بخناق الرجل بأصابع كأنها (كماشة النجار) فالتف الناس حولهما وأخذوهما إلى نقطة البوليس
ولما لم تكن على سفروت مسؤولية جنائية فقد أطلق سراحه بعد يوم فترك راس البر تتحدث عن هذا الحادث المدهش وسافر إلى غيرها من المصايف.
مر على ذلك الحادث عامان نسي فيهما الحاوي بولص وامرأة بولص إلا في فترات كانت تعاوده الذكرى فكان يتعجب للأمر في نفسه ويود لو عرف ما انتهى إليه أمرهما حتى إذا كان ذات مساء وهو يدخل باب ملهى من ملاهي العاصمة كان وقتئذ يشتغل به لمح بائع سميذ جالسا يعد قروشه على الإفريز وتبين فيه صاحبنا بولص فلما أيقن من صواب زعمه دنا من بائع السميذ هامساً: - أنت بولص بتاع واقعة رأس البر؟
فأنتصب البائع واقفا في رجفة تناثر معها بعض سميذه ونقوده وحاول أن يهرب ولكن سفروت أوقفه وأعاد عليه السؤال فأنكر واشتد في الإنكار وقال إن اسمه محمود وانه لا يعرف ما راس البر ولا من هو سفروت، ورأى الحاوي إن حديثهما وهياج محدثه قد يجمعان عليهما المارة فاخذ البائع إلى حارة باب المسرح الخلفي وهدأ خاطره وأكد انه لا يضمر له كرها ولا ينوي شراً وان كل ما به إنما هي رغبة شديدة في أن يعرف السبب الذي حدا به إلى فعلته الشاذة.
وبعد لأي اعترف البائع بأنه هو بولص ورضي أن يدخل مع الحاوي إلى غرفته الخاصة بالملهى حيث حدثه بخبيئة أمره. قال سفروت فيما تحدث به لبولص:
- طيب يعني مالئتش إلا صندوقي تختفي منه! ما كنت تسيبها وتمشي من غير شوشرة وفضيحة؟
قال بولص:
- ما جدرتش أبداً يا أخي. فكرة الهروب منها دي ما جاتش في دماغي إلا في راس البر، يظهر أنها زي اللي خمنت باللي في نيتي فكانت دائما في رجليهما تسيبيش 10 دجايج لما طهجتني وجطعتني العشم. تعرف بعد ما نزلت بالصندوق وبعته لك فاضي! أنا طرت على الفلوكة اللي كانت تستناني فوج عند الطابية أخذتها ورحت على دمياط ومن دمياط ببجور الفجر على مصر.
- يعني كنت بتكرهها للدرجة دي؟
- اكرهها؟ أنت متعرفشي جدا إيه يمكن الواحد يكره مراته ياسي سفروت، يكرهها ويكفر منها وينجن كمان. يا أخي أجول لها ياحنينة أنا في عرضك طلجيني. أبوس مركوبك يا حنينة تسيبيني. أعطيك 500 جنيه. أعطيك ألف جنيه. مفيش فايدة، يمكن أنت متصدجشي ياسي سفروت لكن أنا كنت راجل غني، أنا كنت بتاجر في 2000 جنيه وكان عندي بيت كويس وعشر فدادين طين ملح وده كله سبته لها. اعمل إيه! مفيش طلاج عندنا ياسي سفروت زي ما عندكم، هجيت وبعت سوداني وجصب وسميط واستحملت اجلام الشاويش وشخطه وعشت في أوده بريال في بولاج، كل ده عشان اهرب من وشها. جيت أغير ديني وأبجه مسلم مطجشي، ما هانش عليه ديني يا سي سفروت. دين الواحد زي ولده.
ولاحظ سفروت ان توتر أعصاب محدثه بلغ اشده ولاحظ دماً قرمزيا يترقرق في وجه الرجل الذي صبغته الشمس والقذارة بلون غرين النيل فحاول ان يهدئه ويواسيه ولكن بولص اندفع يقول:
_ دي ربت لي وجع الجلب والله يا سي سفروت. أنا كل مفتكر المره دي جلبي زي اللي يُجَفْ. لا ولأدهى من كده انها لسه بتعتش عني! الأنكت من كده إنها لا عاوزة فلوس ولا طين عاوزاني أنا بس.
_ يمكن بتحبك يا بولص.
_ بتحبني!! لأ. لأ. دا مش عبارة حب دا جنون. دي تكرهني زي العمى يا سي سفروت.
وانتهى حديث الرجلين بعد وقت فخرج بولص يبيع سميذه وذهب سفروت إلى مسرحه وهو يعجب لأمر الرجل.
وبعد بضعة أيام بينما سفروت يعد عدته للظهور على المسرح إذ دخل عليه بولص وبعينيه بريق الجنون الذي يكون به في ساعات هياجه، فلما رحب به الحاوي أظهر القبطي خشونة وجفاء كأنما هو يضمر عداء وشرا فسكت سفروت وقتا حتى تحدث بولص:
_ أنت فتنت عليّ؟
_ فتنت إيه؟!
_ أيوه أنت فتننت عليّ. أنت اللي بلغت عني للبوليس.
_ إزاي افتن عليك يا معلم؟! هو أنا لي صالح في كده؟ وحتى لو كان هو أنا راجل خسيس للدرجة دي؟ عيب ده يا معلم بولص متكلمشي كلام زي ده.
وقام بولص بعنف فأمسك بتلابيب الحاوي الذي ملكه الخوف والدهشة وصاح به قائلا:
- أنت مجوز؟ احلف لي بالطلاج انك مبلغتش البوليس.
ولم ير الحاوي بداً من القسم بالطلاق ثلاثا انه لم يفعل شيئا من هذا فهدأ بولص واعتذر ثم شرح ما حدث له قال.
- لما روحت امبارح جالت لي الولية جارتي أم شحاتة إن واحد شاويش جه يسأل عني في النهار مرتين. أول مرة جه لوحده وأم شحاتة جالت له إن مفيش ساكن اسمه بولص هنا.
بعدين راح ورجع في المغرب ومعاه حرمة طويلة ووجفوا يتحروا في الحتة. أم شحاتة جالت إن الساكن اسمه محمود بتاع السميط، حامت الحرمة سألت عن وصفتي وأم احمد أعطتها وصفتي، حنينة جالت أهو هو دا بولص. تصدج يا سي سفروت والله ماجدرتش أبات في الأوده رحت اتلجحت في الجامع اللي جنبنا لحد الصبح اعمل إيه يا سي سفروت؟ اهرب من حنينة فين؟ المره دي مش ناوية تسيبني ألا ميت.
واتت بهية تذكر سفروت بعمله فودع هذا بولص وذهب إلى المسرح وقبيل الحفلة ذهبت بهية إلى غرفتها لتغير ثوبها استعدادا للدور الأخير وتركت الحاوي يشرح للنظارة أمر الصندوق ويعد له عدته، وتأخرت بهية فبينما هو يفكر فيما يفعل إذ أقبل بولص عليه من جانب المسرح بوجه أدكن وعينين بارقتين شاردتين مما ذكر الحاوي بوجه الرجل في الليلة المقمرة. تقدم بولص وبه من الرجفة والذعر ما شغل الحاوي عن حرفته وأنساه صيته وموقفه والنظارة الذين خفتت أصواتهم واشرأبت أعناقهم في انتظار ما يكون، وهمس بكلمات متقطعة كحديث المحتضر قال:
- خبيني. . . أنا في عرضك خبيني. . . مراتي بره ومعاها شاويش. . . حطني في الصندوج، حطني في الصندوج!!
ودخل القبطي إلى الصندوق بغير انتظار واقفل عليه بابه وقد ملك الدهش على سفروت أمره حتى فقد القول والفعل، ثم رجع إلى نفسه بعد برهة ليتبينها أمام حقيقة واقعة وليدرك ان لا مخرج له سوى ان يخفي الرجل داخل الصندوق.
وقال سفروت في نفسه: لو فلت القبطي فقد أسديت له يدا ولو لحقه البوليس فما علي من ذلك لوم ولا تبعة وليس هو بالمجرم ولا أنا بالخارق للقانون، وكل ما علي الآن هو أن أسرع في عملي وأعطيه الفرصة ليهرب ويقيني انه لن يرجع إلى الصندوق، فإذا دعوت بهية بعد ذلك فسوف تقوم بحيلتها كالعادة وأما إذا أخرجته الآن من الصندوق بالقوة فسوف يكون من ذلك هياج الناس وتعكير صفو المحفل ومسئوليتي أمام المدير.
ولم يتردد سفروت بل ربط الصندوق ووقف عليه وتحدث إلى النظارة المنذهلين عن جنه وهيوليته الخ الخ، حتى إذا انتهى من الديباجة نزل. رفع الغطاء وهو موقن أن بولص قد خرج من الصندوق إلى تحت المسرح ثم إلى ما شاء له قدره.
ولكن بولص لم يخرج من الصندوق ولم يتحرك؟؟
روح بولص فقط هي التي بارحت الصندوق إلى بارئها أما جثته فقد بقيت لتستلمهاحنينة!!
قال أحد السامعين: غرضك بولص مات في الصندوق؟؟
فأجاب الراوي: نعم نعم، في رواية انه مات بالسكتة القلبية وفي رواية أخرى انه مات منتحرا بطعنة سكين في جنبه الأيمن وإن سفروت رأى دمه يسيل إلى المسرح، ولكن مهما اختلفت الروايات فمن الثابت ان زوجة القبطي وجدت جثته هامدة لما ارتقت المسرح مع ضابط البوليس.
وقال سامع ثان: طيب وجرى إيه لسفروت؟
فأجاب الراوي: حدثني صديقي احمد عن صديقه محمد أن الحاوي طَلَّق حرفته بعد هذه الحادثة وانه يشغل الآنترجمانا في بلدته بور سعيد ولكن الله أعلم بحقيقة الأمر
وسأل سامع ثالث: ما اتهموش سفروت بقتل الراجل! فتجاهل الراوي هذا السؤال لغباوة سائله.
م. م. م