مجلة الرسالة/العدد 11/إلى بئر جندلي
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 11 إلى بئر جندلي [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 15 - 06 - 1933 |
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة
المعارف
- 1 -
في شتاء سنة 1908، وقبيل إجازة عيد الأضحى، دعاني خالي إليه وابتدرني قائلا وفي فمه ابتسامة:
_ هيا معي إلى بير جندلي. غداً مساءً سنغادر القاهرة.
_ بير جندلي؟ ما هذا؟
_ رحلة صيد في جبل المقطم تستغرق خمسة أيام، وسنكون مع أصدقائنا عائلة رشيد، وقد اعددنا لها العدة.
كانت مفاجأة، واترك للقارئ أن يتصور وقع هذه المفاجأة في شاب لم يبلغ الثامنة عشرة، لا يعرف عن جبل المقطم إلا القليل مما التقطه في طفولته من أفواه العجائز في أحاديثهم عن العفاريت والوحوش، أو عرفه من القراءة في كتب وضيعة تصور لك المقطم قفاراً ومفاوز لا نبات فيه ولا ماء، وانه مسكن المردة والجان ومأوى جبابرة اللصوص وقطاع الطرق ومرتع الوحوش الضارية من نوع السباع والأسود التي يرسمها نقاشنا البلدي على واجهات منازل الحجاج العائدين من الحجاز.
كان قد أزف الوقت فانصرفت أعد نفسي للرحلة على عجل، وأذكر الآن وقد مضى على الحادث ما يزيد على خمسة وعشرين عاماً، إني صرفت شطراً كبيرا من الليل في تصفح ما كان عندي من الخرائط، متفرساً في أسماء الجبال والسهول والأودية، باحثا بينها عن بئر جندلي، ولكني لم اظفر بطائل، وأذكر كذلك أني لم أنم في تلك الليلة إلا غراراً، فقد كنت مشرد العقل مهموما قلقاً تتوارد على ذاكرتي حكايات الوحوش وقطاع الطرق وقصص الأهوال التي لاقاها رواد الجبال، من عطش، وجوع، ومخاطر، فينقبض لها صدري وتثور هواجسي، ولولا إرادة قوية، وإيمان ثابت لتغلب الضعف على نفسي، ولأحجمت عن مصاحبة الجماعة.
بعد الغروب في اليوم الثاني أقلتنا عربة إلى منزل عائلة رشيد بشارع الدرب الأحم بالقرب من المحجر على بعد عشر دقائق من القلعة - منزل عتيق من طابقين له باب كبير ثقيل ومن خلفه دهليز يؤدي إلى فناء رحب تحيط به الحجر والمرافق وتطل عليه النوافذ والشرفات - في هذا الفناء شاهدت جملين مناخين حولهما حركة عنيفة صامتة، فقد كان القوم منهمكين في إعداد لوازم الرحلة - فهذا يملأ قرب الماء حتى إذا ملأها تعهد متانتها ثم أحكم ربطها إلى جانبي البعير، وذاك يحزم الملابس والأغطية ثم يضعها على ظهره، وثالث يرتب علب المأكولات داخل صندوقين من الخشب ثم يشدهما بوثاق إلى ظهر البعير الثاني وهكذا - بعد أن تبادلنا التحية دخلنا حجرة واسعة قد جلس في صدرها رجل وسيم المحيا مليء الجسم طويل القامة كبير الشوارب وقد خط الشيب شعره، فاستقبلنا واقفاً مرحباً ثم قدمني إليه خالي قائلا:
عمك عبد الله بك كبير الأسرة.
فلثمت يده على ما كان متبعاً في ذلك الوقت فضمني إلى صدره وقبّلني في جبيني وقال وهو يلاطفني: إنك الآن يا ولدي تجيب داع التقاليد في أسرتك؟
بعد قليل هدأت الحركة في الفناء، ثم نهضت الجمال وخطت نحو الباب وقد أمسك بزمام الجمل الأول شيخ يناهز الستين في لباس بدوي وقد ارتسمت على وجهه جميع إمارات الثقة بالنفس والتوكل على الله، وكان يقود الجمل الثاني شاب بدوي كذلك ممشوق القامة نحيل الجسم قد عّلق على ظهره بندقيته وتدلّى من صدره حزام للخرطوش ولما مرّت الجمال أمام النافذة أطلّ عليها عبد الله بك وقال بصوت هادئ رزين:
- على بركة الله يا شيخ سويلم
فأجاب الشيخ بصوت متهدج فيه غنة وبحة: بارك الله فيكم يا بك
- أين الانتظار؟
- على نير الفحم يا بك
خرجت الجمال إلى الشارع وقد انتصفت الساعة التاسعة وبخروجها شمل المنزل سكون عميق. ثم اتجه عبد الله بك نحو نضد في جانب الحجرة قد ثبتت فيه آلة لحشو الخرطوش فأخذ يديرها بمهارة وخفة، وبعد ان قضى في ذلك نحو نصف ساعة تناول من علاّقة قريبة مناطق الخرطوش وملأ به عيونها ثم خرج.
وبعد قليل عاد يتبعه أخوته الأربعة وهم جميعا في حلة الصيد من سترة مقفلة وسروال قصير وقد لفّوا حول الساق (القلاشين) ووضعوا فوق الرأس قبعات كبيرة على نحو ما يلبسه المهندسون زمن الصيف، فجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وفي نحو الساعة التاسعة والنصف دق الباب فصاحوا جميعا: ها قد أقبل الشيخ محمد - ثم دخل رجل في لباس بدوي فاستقبلوه باحتفاء وترحاب وبعد ان استوى في مجلسه سأل عن الجمال فقيل له أنها بارحت المكان منذ ساعة ثم نظر إليّ وقال من هذا الصغير؟ فقيل له ابن أخت احمد بك، فمال نحوي وقال بلهجة عذبة هل تصاحبنا يا آخي؟ فقلت نعم. فقال هكذا يكون الشباب يا سادة! - كان الرجل يكلمني وأنا مأخوذ فلم أر فيه إلا وجها صغيراً تحيط به لحية خفيف، وجسماً نحيلا وقامة قصيرة.
وفي تمام الساعة العاشرة وقف الشيخ محمد وتناول بندقيته وثبتها على ظهره وفعل مثله الآخرون ثم قال هيا بنا يا سادة. توكلنا على الله!، فخفق قلبي خفقاشديدا ثم تقدمنا وسرنا خلفه في صفوف.
(لها بقية)