مجلة الرسالة/العدد 107/نهر النيل
→ إلى الأستاذ أمين الخولي: | مجلة الرسالة - العدد 107 نهر النيل [[مؤلف:|]] |
في أوطانهم غرباء ← |
بتاريخ: 22 - 07 - 1935 |
كما ذكره العلامة أبن خلدون في مقدمة
بقلم رشوان أحمد صادق
جاء ذكر النيل في كثير من المؤلفات العربية التي وضعها جغرافيو العرب من أمثال الإدريسي وياقوت الحموي والإصطخري وابن سعيد الجبهاني وغيرهم كثير. على أن ابن خلدون وصف هذا النهر وصفاً بديعاً في مقدمته المشهورة.
وقبل أن نتحدث عن مقال أبن خلدون عن نهر النيل يحسن بنا أن نذكر الحقائق الآتية:
أولاً: أطلع ابن خلدون على أبحاث من سبقه إلى هذا الموضوع وحاول أن يوفق بينها وبين ما سمعه من الأحاديث المختلفة عن نهر النيل.
ثانياً: لم يذهب أبن خلدون إلى أعالي النيل ولكنه ربما زار بعض أجزاء النهر السفلى مثل الأراضي المصرية.
ثالثاً: ابن خلدون قد وصف بعض أجزاء نهر النيل بدقة جعلت الكثير من العلماء يهتم برسالة هذا الرجل الفيلسوف.
رابعاً: إن العهد الذي كتب فيه أبن خلدون كان عهد اجتهاد من حيث البحث عن منابع النيل، إذ كانت مسألة النيل من الأمور الغامضة، ولم تتح الفرص لفك لغزه أو الحصول على معلومات حقيقية عنه مبنية على أبحاث دقيقة إلا بعد أن وطد محمد علي الأمن في أعالي النيل، وبذلك سهلت مهمة من قام بهذا العمل.
والآن نذكر أقوال ابن خلدون عن نهر النيل ثم نعقب عليها.
قال: (فأما النيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول ويسمى جبل القمر ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه. تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في بحيرة هناك وبعضها في أخرى، ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشر مراحل من الجبل، ويخرج من هذه البحيرة نهران يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر، فإذا جاوزها تشعب في شعب متقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً وتصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية، ويسمى يبل مصر وعليه الصعيد من شرقيه والواحات من غربيه. ويذهب الآخر منعطفاً إلى المغرب ثم يمر على سمته إلى أن يصب في البحر المحيط وهو نهر السودان وأممهم كلهم على ضفتيه).
من ذلك يتبين إلى أي حد كانت معلومات ابن خلدون عن هذا النهر. أما عن أعالي النهر فمعاوماته قاصرة على السماع وعلى ما وصل إلى علمه من كتب من سبقه إلى ذلك الموضوع. وعلى الأخص كتاب بطليموس الذي ذكر ذلك بوضوح ونقل عنه الإدريسي وغيره. ولكن في كلام ابن خلدون مسألة مهمة إلا وهي ذلك النهر الذي يتجه غرباً ويصب في البحر المحيط.
ما هو ذلك النهر الغربي؟
أكان ابن خلدون متأثراً بالآراء القديمة من أمثال رأي هيرودوت الذي يقول بأن النيل يتجه غرباً إلى المحيط؟ أم كانت عنده معلومات عن نهر الكنغو وظن أنه يتصل بالنيل كما كانت هذه الفكرة سائدة إلى زمن ليس ببعيد؟ أم كان يعرف نهر النيجر وظن أنه فرع من النيل لقرب منابع بعض نهيراته من منابع بعض نهيرات حوض تشاد القريبة من منابع بعض نهيرات النيل؟
ولكي نوضح هذه المسألة نقول: إن ابن خلدون ربما كان يقصد أحد هذه الآراء الثلاثة الآتية:
1. يقول أبن خلدون إن هناك نهيرات تنبع من جبل القمر ثم تصب في بحيرتين، ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء، ويخرج من هذه البحيرة نهران يتجه أحدهما نحو الشمال والآخر نحو الغرب ويصب في المحيط.
لعله كان يقصد بحيرة فكتوريا وبحيرة أدورد، وإن البحيرة الثالثة هي بحيرة البرت، والنهر المتجه شمالاً هو بحر الحبل والمتجه غرباً هو الكنغو.
والقاعدة في هذا الفرض أن المنطقة بين النيل والكنغو غير محدودة تماماً، كذلك ليست شديدة الإرتفاع، وفي زمن الأمطار الشديدة قد تكون هذه المنطقة عبارة عن شبكة من المجاري المائية التي يصبح من المتعذر تتبعها خصوصاً وأن تلك الجهات كانت غير معروفة تماماً، وإن المعلومات عنها كانت منقولة عن التجار العرب والزنوج.
فإن كان ابن خلدون يقصد ذلك - وهو الأرجح - فذلك دليل على ذكاء ذلك الرجل الفيلسوف والعالم المحقق.
ولقد ظلت فكرة اتصال النيل بالكنغو زمناً طويلاً في عالم الوجود قبل أن يكشف تماماً عن نهر الكنغو.
2. أما عن الرأي الثاني فنقول إن أبن خلدون ربما قصد بالبحيرة الثالثة منخفض بحر الغزال (بحيرة نو وأقليم السدود ومنخفض بحر الغزال). فالواقع إننا عندما نتتبع هذه المنطقة على الخريطة قد لا نتبين تماماً مقدار عظمها، ولكن إذا ما اطلعنا على مذكرات بعض التجار الذين قطعوا هذه المسافات من أمثال الزبير باشا نتبين تماماً إن هذه المنطقة تظهر لأول وهلة كأنها مستنقع عظيم السعة. فلقد ذكر الزبير باشا في مذكراته أنه ضل الطريق وسط هذا المستنقع أثنى عشر يوماً حتى كاد يشرف على الهلاك.
فربما كان أبن خلدون يقصد بالبحيرة الثالثة هذا المستنقع العظيم. وإن النهر الذي يتجه غرباً هو بحر العرب وروافده. وربما وصلته أخبار عن النيجر وحوض تشاد فظن أن بحر العرب يتصل ببحيرة تشاد وهذه الأخيرة تتصل بالنيجر إلى (البحر) المحيط.
ولقد كان يظن أن النيل يتصل بنهيرات بحيرة تشاد وهذه تتصل بأعالي النيجر، وبقيت تلك الفكرة سائدة إلى إن ذهبت البعثة الفرنسية وطافت حول بحيرة تشاد وأثبتت أن حوض تشاد منفصل عن النيل وعن النيجر تماماً.
وربما كانت تلك الفكرة بعيدة عن ذهن أبن خلدون، ومع ذلك لا مانع من ذكرها خصوصاً وإن فكرة اتجاه النيل غرباً كانت سائدة في قديم الأزمنة.
3. أما عن الرأي الثالث فربما قصد ابن خلدون بالبحيرة الأولى، بحيرة رودلف، وظن أن نهر أومو الذي يتصل بها متصل بنهر أوكوبو أحد أفرع السوباط، وأن البحيرة الثانية هي فكتوريا، والبحيرة الثالثة هي نو (ومنخفض بحر الغزال وأقليم السدود)، وأن النهر الغربي هو بحر العرب ويتصل بحوض تشاد، ثم حوض تشاد يتصل بحوض النيجر، ثم ينصرف الأخير إلى المحيط كما سبق أن بينت ذلك في الرأي السابق.
ومما جعلنا نحتمل وجود هذا الرأي على الرغم من ضعفه هو قرب بحيرة رودلف من ساحل أفريقية الشرقي، إذ أنه معروف أن التجارة كانت تنقل من أعالي النيل إلى ساحل أفريقية الشرقي حيث يمكن تبادلها مع سكان الساحل الآسيوي المقابل لساحل أفريقية الشرقي، وكانت الأخبار تنقل مع التجار العرب أو الزنوج، ومن ضمن هذه الأخبار المعلومات المختلفة عن منابع النيل وإقليم البحيرات.
ولما كانت بحيرة رودلف قريبة من ساحل أفريقية الشرقي فلا يبعد على الظن أن تكون ذكرت كمنبع للنيل.
ولعل تلك الفروض كانت راجعة إلى عدم معرفة هذه الجهات بالدقة أيام أن كتب ابن خلدون رسالته، وان كل ما ذكر عنها كان عن طريق النقل والسماع الذي لا يخلو من المبالغة والخطأ، زد على ذلك قلة المعدات العلمية وآلات الضبط والمقاييس المختلفة بعكس ما نحن عليه الآن من تقدم.
والآن ندخل في التفاصيل التي ذكرها الفيلسوف ابن خلدون عن بقية نهر النيل.
قال يصف البحيرة الثالثة: (في أسفلها جبل معترض يشق البحيرة من ناحية الشمال ويقسم ماءها إلى قسمين فيمر الغربي منه إلى بلاد السودان مغرباً حتى يصب في البحر المحيط).
وفي ذلك إشارة إلى خط تقسيم المياه بين النيل والكنغو، ونرجح ذلك إذا ما علمنا أن شاطئ بحيرة ألبرت من الجهة الغربية تحف به الجبال، ثم خلف هذه المرتفعات أي في الجهة الغربية منها توجد المجاري المائية التي تمد نهيرات الكونغو، فلا يبعد على الظن أن يكون ابن خلدون قد اعتبر منابع الكنغو وراء هذه الجبال المتاخمة لشاطئ بحيرة ألبرت الغربي جزءاً متمما لهذه البحيرة خصوصا وهذه المنطقة تحتوي على عدد عظيم من النهيرات، فهي عبارة عن شبكة مائية يصعب تحديدها خصوصاً في أوقات الأمطار الشديدة والفيضانات حيث تظهر كمتسع عظيم من المياه.
وربما قصد ابن خلدون بهذه المرتفعات مرتفعات دارفور التي تفصل مياه وادي الكوه ووادي جندي المتصلين ببحر العرب عن وادي بحر السلامات المتصل بنهر شادي المتصل ببحيرة تشاد.
وربما قصد بهذه المرتفعات مرتفعات بندا التي تفصل بين مياه الغزال من جهة ونهر شادي المتصل ببحيرة تشاد من جهة أخرى. إذ أن نهري الجبل والغزال يكونان حوضا منخفضا في الوسط وحافاته مرتفعة، وما ارتفاع الجهات التي تفصل حوض الغزال عن حوض تشاد إلا لهبوط الانخفاضات المجاورة التي فيها بحر الغزال وحوض تشاد.
أما عن بقية نهر النيل فقد قال ابن خلدون: (ويخرج الشرقي منه ذاهباً إلى الشمال على بلاد الحبشة والنوبة وفيما بينهما. وينقسم في أعلى أرض مصر فيصب ثلاثة من جداوله في البحر الرومي عند الإسكندرية ورشيد ودمياط، ويصب واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتصل بالبحر في وسط هذا الإقليم).
وفي ذلك إشارة إلى فروع النيل وتغيرها في عهد العرب وما بعده عما كانت عليه في عهد البطالسة، فقد زالت المصبات الشرقية كلها تقريباً.
ويقول أيضاً (وعلى هذا النيل بلاد النوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان، وحاضرة بلاد النوبة مدينة دنقلة وهي في غربي هذا النيل، وبعدها علوة وبلاق، وبعدهما جبل الجنادل على ست مراحل من بلاق في الشمال، وهو جبل عال من جهة مصر ومنخفض من جهة النوبة فينفذ فيه النيل ويصب في مهوى بعيد صبا مهولا فلا يمكن أن تسلكه المراكب بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظهر إلى بلد أسوان قاعدة الصعيد، وكذا وسق مراكب الصعيد إلى فوق الجنادل، وبين الجنادل وأسوان اثنتا عشرة مرحلة، والواحات في غربها عدوة النيل وهي الآن خراب وبها آثار العمارة القديمة).
وفي ذلك إشارة صريحة إلى الشلالات التي تعترض النيل قبيل أسوان والتي تكون بمثابة عقبة، إذ نجد الانحدار شديداً. ويظهر أن المنطقة التي يصفها أبن خلدون هي المنطقة المسماة الآن شلال حلفا، وتبدأ بعد سراسن، ومن بعدها بقليل نجد شلالات جيمي وأبكه وطولها معاً أكثر من 16 ك. م، وينحدر عندها النيل انحداراً شديداً. وهذه الجنادل هي التي يطلق عليها عادة شلال حلفاً وهي كغيرها من الشلالات السابق ذكرها يرجع تكوينها إلى اعتراض الصخور البلورية الشديدة الصلابة في مجرى النهر وتتكون منها الجزر.
وأما عند لفظ (واحات) فربما قصد بذلك بقايا المدن الأثرية التي قامت على أنقاضها المدن الحديثة، أو ربما أطلق هذا اللفظ على البلاد الموجودة في هذه المنطقة الجدبة والتي تعتمد على الآبار لبعدها عن النيل.
أما عن قوله إن الحبشة على النيل فربما قصد بذلك الفرع الذي يأتي من بلاد الحبشة وهو الأرجح، إذ يقول: (بلاد الحبشة على واد يأتي من وراء خط الاستواء ذاهباً إلى أرض النوبة فيصب هناك في النيل الهابط إلى مصر). ويقول (وقد وهم فيه كثير من الناس وزعموا أنه من نيل القمر، وبطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا وذكر أنه ليس من هذا النيل).
وهذه إشارةً إلى أنه لم يكن يعرف هضبة الحبشة ولا منابع النيل الأزرق. على أنه يتفق مع بطليموس في أنه ينبع من جهات غير منابع النيل في جبل القمر. وهذه المسألة مدهشة، إذ أن النيل الأزرق كان معروفاً منذ أيام أراتستين، وأن هضبة الحبشة كانت مجاورة لبلاد اليمن وذات حضارة، فكيف لم يعلم شيئاً عن منابع النيل الأزرق بينما رسم كل من بطليموس والإدريسي بحيرة تسانا؟
ثم ذكر المحيط الهندي والبحر الأحمر والخليج الفارسي، وقال عنهما: البحران الهابطان، ثم ذكر بوغاز باب المندب والمنطقة المعروفة الآن باسم الأرتريا، ثم تكلم عن التجارة بين اليمن والسويس، وذكر سواكون، وتكلم عن الواحات الداخلة وعين مكانها، وذكر النيل في المنطقة بين المقطم (وجبل الواحات). وذكر بلدة اسنا وأرمنت وأسيوط وقوص وصول، وقال عند الأخيرة يتفرع النهر إلى فرعين: فرع يذهب إلى اللاهون ويقصد بذلك بحر يوسف، ثم ذكر عيذاب.
من ذلك يتبين لنا أن معلومات ابن خلدون عن نهر النيل كانت مستمدة من كتابات من سبقوه إلى هذا الموضوع ومن الرواة كذلك، ولكن يجب أن نعترف بأن ذكاء هذا الرجل ومقدرته العلمية جعلاه يضع هذه المعلومات في قالب يقبل العقل الجزء الأكبر منه. فلقد ذكر بعض الجهات وعلل وجودها أحسن من غيره بكثير، ومع ذلك فإن له عذره، مقدرته العلمية جعلاه يضع هذه المعلومات في قالب يقبل العقل الجزء الأكبر منه. فلقد ذكر بعض الجهات وعلل وجودها أحسن من غيره بكثير، ومع ذلك فإن له عذره، إذ أن السياحة إلى مثل تلك الجهات كانتمن الصعوبة بمكان، ولم يكن هناك آلات دقيقة ولا معدات علمية تساعد على ضبط الأماكن بالدقة، زد على ذلك فان كتابات ابن خلدون جاءت معتدلة خالية من القصص الخرافية بعيدة عن المبالغة والخلط بين المعلومات والمعتقدات.
رشوان أحمد صادق
الجغرافيا