مجلة الرسالة/العدد 107/خواطر وأفكار
→ مسالك الأبصار | مجلة الرسالة - العدد 107 خواطر وأفكار [[مؤلف:|]] |
النهضة التركية الأخيرة ← |
بتاريخ: 22 - 07 - 1935 |
للأستاذ أديب عباسي
يغلب أن يسيطر على الحياة في كلا عنصريها من السعادة والشقاء قانون المرجحات العام الذي يسيطر على جميع حوادث الطبيعة ويسير بها جميعاً، كلما امتد الزمن وتوالى الحدوث، إلى التعادل والاستواء، وما نرى من فروق شاسعة بين حظوظ الناس من السعادة والشقاء سببه - فيما نرى - قصر مدى التجربة والاختبار. واعتقد انه لو أتتيح للأحياء من الناس عمر أطول أو لو كانت أمواج السعادة والشقاء وأصداء اللذة والألم اقل لبثاً واقصر مكثاً، لتداني من التعادل نصيب كل امرئ من حظي السعادة والشقاء.
حياة كل امرئ (متوالية) من الآمال والآلام والأحلام والأعمال ولست بمستطيع أن تجرد الحياة حلقة واحدة من هذه الحلقات: الآمال تثير الآلام والأحلام، والأحلام لابد مفضية في نهاية الأمر إلى الأعمال، والأعمال بدورها تبتعث آمالاً جديدة، والأمل الجديد يثور آلاماً وأحلاماً جديدة، وهكذا تظل تدور بين حدين من الأمل والعمل يتوسطهما واسطان هما ما نألم وما نحلم إلى أن تتلمأ علينا القبور، وترص علينا الجنادل والصخور.
ليس مما يُنقص قيمة العمل الطيب أن يكون حاديه ورائده اللذة منشودةً أو حاصلةً، بل نحن نعتقد أن من مصلحة الأخلاق، ومن الخير العميم للناس أن يتعلم الناس كيف يستشعرون السعادة ويتذوقون الغبطة في العمل الطيب بدءاً وختاماً، حساً وخيالاً.
كذلك نعتقد أن من مصلحة الأخلاق ونشر الفضيلة وتعميم الصلاح أن يشعر المرء أن عمل الخير مجزي عليه في هذه الحياة الدنيا، وأن ليس على المرء يصنع الخير أن ينتظر إلى اليوم الأخير ليثاب على عمله الصالح وينال جزاء ما قدم من خير وأسلف من صلاح.
يكاد يكون الإحساس بالحق ونصرة العدل من فطرة البشر ومن هنا نرانا - في الأحوال العادية - نهلل للعدل ونمقت الجور، سواء أكنا نحن المعنيين بالجور أم كان المعنى غيرنا.
من غرائب الطباع أمرؤ يثني عليك بما أنت أهله أو بما لست أهلاً له، ثم تراه لغير سبب واضح أو علة مقبولة ينقلب عليك، ولا يتعفف أن يهجوك بعكس ما كان يمتدحه فيك! هذا الصنف من الناس هم، في إعتقادي، من المتسولة الجبناء الذين يستجدون امتداح الناس بامتداحهم الناس؛ فإذا خاب ما يؤملون، ولم يبادلهم ممدوحهم مدحاً بمدح انقلبوا قادحين مشنعين.
ما أشبه بناء الأمة ببناء الهرم؛ ما يزال قائماً ثابت الإتزان، ما شغل الرأس منه مكان الرأس، والقاعدة مكان القاعدة؛ وما أسرع ما ينهار الهرم ويتفكك حينما تنقلب الأوضاع فتسمو القاعدة إلى مكان الرأس، ويهبط الرأس إلى مكان القاعدة؛ ومن هنا أضحى الهرم المقلوب مضرب المثل في سخافة البناء ووهن الثبوت. . .
لست أدري أي خير وأية سعادة كانا يصيبان البشر لو أقصى من مجال الدين جميع المتجرين به. فليتق الله المتاجرون وليجعلوا في غير مجال الدين تجارتهم.
تظل تجربة المرء ناقصة ما لم تتكرر. . . .
خصومتك الصغير تورثك المهانة، سواء أكنت المنتصر في هذه الخصومة أم كنت الخاسر.
الأغراب والتكلف في أساليب الحياة والأخلاق دليل على فساد الطبع والتواء التكوين.
قد تكون المحافظة على القديم ناجمة من خوف الحديث وحسب، لا من حب للقديم صحيح.
ثم صنف غريب من الكُتاب والمفكرين يعمدون إلى الرأي الواهن الواهي، أو الفكرة الميتة يثيرون حولها حرباً شعواء ويوسعونها طعناً وضرباً، ثم يلتفتون إلى الناس ولسان الغرور يقول: انظروا ماذا صنعنا وإلى أي المقاتل قد نفذ سلاحنا؟ وقد نسوا - حفظهم الله وكلأهم - أن سلاحهم يُجرد على موتى ويُشرع على أشلاء.
قد يعيش الكاتب بشهرته الأدبية أعواماً بعد أن يُصفى. وهذا سرُّ ما نراه من مدح يكال وتقدير يُسرف في توزيعه على أناس لا يستحقون بعض أبعاضه. والحقيقة أن من الكتاب اليوم من يعيشون بقوة الاستمرار وحسب، لا بقوة العمل وصدق الإنتاج.
ما أسرع ما يلتفُّ صغار النفوس حول صغير النفس، أما كبير النفس فلا يسمح لهم بالدنو منه لئلا تعلق به من نتنهم عالقة. الاتجار بالوطنية في الشرق علة مستحكمة لا يزيلها إلا صرامة النقد، وصراحة المقت، وقسوة التشهير.
يموت العظيم في الغرب، ولكن ما أسرع ما تُسدُّ الثغرة ويقوم الخلف. ويموت العظيم الشرقي فيظل محله خالياً جيلاً أو أجيالاً. وذلك أن تربيتنا الاجتماعية الناقصة لا ترفع إلى مستوى الزعامة الصحيحة القوية في الجيل الواحد إلا نفراً قليلاً جداً، فإذا أودي هذا النفر ظل محلهم خالياً إلى أن تتمخض الأمة بعد حمل طويل وآلام مبرحة وتجارب شاقة فتلد المولود الجديد الذي يُقدَّر له أن يستأنف السير ويتولى القيادة.
قد يعمل الرجل الشرير إلى بعض الخير يصنعه ليتبين كيف يكون أثر ذلك، كما قد يسعى الرجل الطيب إلى بعض الشر يصنعه لمثل غرض الشرير في صنعه الخير. وإلى هذا قد يُردُّ بعض ما نراه من شذوذ في الخلق السوي.
قد يبدو الفكر العميق للقارئ السطحي الضحل متناقضاً، وذلك إن ذا الفكر العميق قد ينتهي إلى أغوار لا يستطيع أن ينفذ إليها ضحل التفكير، ويدرك من العلائق والوشائج الخفية بين الأشياء مالاً يدركه ذو الفكر الرقراق الذي لا غور له.
المصادفة بليغة الأثر في حياة الفرد، أما في حياة الأمة فهي ضئيلة الأثر أو لا أثر لها البتة.
ما من رأى إلا ودار في أكثر من ذهنٍ واحد، ولكن شخصاً واحداً يكتب له أن يخلِّد هذا الرأي.
الرأي يرتأي كالصدى بكثر تجاوبه كلما أستوعر طريقه.
الألم كالنار يصهر القوي ولكن لا بلاشيه، كما لا تلاشي النار الحديد، أما الضعيف فيحيله الألم دخاناً يصَّاعد.
قد يتصدى المرء أحياناً للرأي العام لا ليتحداه، إنما هو يتصدى له ليدرك مبلغ قوته ثم ليدرك مدى الرأي العام ومجراه، فيحول شراع العمل على هواه.
الرجل القوي حق القوة لا يخلق بهذه القوة عبيداً وآلات ناطقة، إنما يخلق بها رجالاً أقوياء. وكل مظهر من مظاهر القوة لا يفضي إلى هذه النتيجة يجب أن يشككنا في هذه القوة.
يجب أن ندخر خصومة الصراحة وجهد المقاومة للأمور الجسام والمسائل العظام. أما الصراحة العادية في كل ما يعرض للمرء من شؤون الحياة اليومية تافهها وجليلها على السواء فجهد غير مبرور وعمل غير مشكور، ولا يعود على المصارح منه إلا خصومات لا تنتهي وعدوات لا تنقضي.
ما تزال المرأة طفلة حتى تحب، وما يزال الرجل رجلاً حتى يحب. ومتى أحبت المرأة بلغت أوج الأنوثة؛ أما الرجل السليم القوي فيندر أن يجعل الحب آخر مرحلة من مراحل الحياة، وهو - أي الحب - عند الرجل مرحلة إلى رجولة أسمى. فالمرأة تتجه إلى الحب لا لتتعداه، أما الرجل فيحب ليكون الحب مرحلة من مراحل حياته. وهذا يشير إلى إن الحياة تريد من المرأة الحب فقط، وتريد من الرجل فضلاً عن الحب الجهاد والمغامرة.
يجب إلا يغر الشبان بيت شوقي (نظر فابتسامة. . .) ثم ما بعد ذلك. فبين النظرة والابتسامة - في كثير من الأحيان - وبين قلب الفتاة سبعُ قلاع بسبعة أسوار.
رُكِّب في طبيعة المرأة التلويح من بعيد والإغراء. فهي قد تتبذل أحياناً ولو لم تنو السقوط، وتدنو ولكن لا لتصل، وتقترب ولكن لا لتُنيل. فكأنها تعمد إلى ذلك لتقيس مقدار فتنها وتختبر قوة أنوثتها.
الرجولة لا تكون كاملة إلا إذا خالطها بعض طبائع الأنوثة. فكأن الطبيعة في ذلك لا تريد للرجل أن يتخلص من إرث الأنوثة الأقدم، حينما كانت الذكورة لا تزال في ضمير الغيب، وكانت الأنوثة كل ما في يد الطبيعة من مواد التجريب والاختبار.
ثورة الحب تفضي إلى أسر الزواج، وثورة الحقد والطمع تفضي إلى أسر السجن.
نداء الأمومة عند المرأة أقوى من نداء الحب. وكثيراً ما تضحي المرأة بحبها في سبيل الأمومة السالمة والنسل القوي القويم.
لا يستطيع إبليس - في كثير الأحيان - أن يتراءى للرجل إلا عن طريق المرأة. فهي - في أغلب الأحيان - سفيره إليه. وكثيراً ما تنجح هذه السفارة كما نجحت من قديم في جنات عدن.
حياة المرأة أنشودة يتناوب إنشادها الملائكة وإبليس.
حب الأم أشرف أنواع الحب وأعمقه وأدومه. وذلك أن فيه من حب الابنة وحب الأخت وحب العاشقة وحب العابدة. فالأم إذ تحب وليدها وترأمه كوليد فقط، إنما هي ترأمه وتحبه، ولو في غير شعور، حب الابنة أبويها، والأخت اخاها، والعاشقة عاشقها، والعابدة معبودها.
من مظاهر الفسولة وصغار الرجولة أن يتعشق الفتى فتاته، ثم لا يفتأ يعلن عن هذا العشق وينبه إليه في كل مناسبة وعند كل حديث؛ فكأنه الكلب يلغ في الإناء أو يبول فيه لينفر منه بقية السباع! في الزمان غير المحدود والمكان غير المحدود يكون احتمال الحدوث غير محدود أيضاً. ولا ادري لم يستبعد أو ينفى حدوث حادث يقدر أو يفترض بحجة بعد الاحتمال
أديب عباسي