مجلة الرسالة/العدد 107/النهضة التركية الأخيرة
→ خواطر وأفكار | مجلة الرسالة - العدد 107 النهضة التركية الأخيرة [[مؤلف:|]] |
من مشاهير الشرق ← |
بتاريخ: 22 - 07 - 1935 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
الحروف اللاتينية والألفاظ العربية
وقد عجل القانون في إنفاذ قانون الحروب اللاتينية، واشتدوا في ذلك لا يستثنون الكتب التي في المطابع، قد طبع بعضها بالحروف العربية ولما يتم طبعها، فسارع بعض المؤلفين إلى إكمال كتبهم قبل الموعد المحدود، ودون الكمال المنشود، ويئس آخرون أن يتموا كتبهم قبل الأجل المضروب وعجزوا بل كرهوا أن يكملوها بالحروف الجديدة فيجعلوها ذات خطين أعجمي وعربي، فوقفوا بها حيث وقف بهم القانون الجديد. واعجب ما في هذا أن أحد الأدباء الكبار كان يطبع معجماً كبيراً واخرج منه مجلدين، ولم يسوغ له القانون أن يكمله بالحروف العربية فيما يحتاج إليه من وقت، وعجز هو وعجز الفكر الإنساني أن يكمل هذا المعجم بالحروف اللاتينية على ترتيبها بعد أن طبع معظمه بالحروف العربية على ترتيبها فبقى ناقصاً حائراً بين القديم والجديد.
كأنما محا الترك العثمانيون من تاريخهم ستة قرون حين اختاروا للغتهم الحروف اللاتينية. فهل هم يعترفون، كما قال ذلك الأديب الفارسي، إن لهم تاريخاً لا يضيرهم أن يمحي منه ستة قرون؟ وليت شعري هل لهم في التاريخ غير هذه القرون الستة؟ مثل لنفسك صبياً تركياً ممن تعلموا القراءة بالحروف الجديدة يدخل اليوم جامع الفاتح أو سليمان فينظر إلى أسماء الصحابة فلا يدري ما هي وينظر إلى اسم الفاتح واسم سليمان القانوني فلا يدرك منهما حرفاً وتصوره في بروسه في اولو جامع (الجامع الكبير) الذي جعل الخطاطون الترك على مر العصور جدره معرضاً لبدائع الخط وفنونه، تصوره ينظر إلى آثار أسلافه فلا يتبين منها شيئاً ويودلو كتبت بالحروف اللاتينية. وتصوره كذلك أمام كل اثر عظيم من آثار المسلمين. وتصوره وقد شب وقوى على الدرس والبحث يذهب إلى مكتبات استانبول فيرى من آثار أسلافه، وكل المسلمين أسلافه أكداساً لا يفقه منها حرفاً إلا بدرس خاص. الست ترى هذا الناشئ مقطوعاً من تاريخه، غريباً عن قومه، الست تراه يتيماً حرم ميراث آبائه وجنى عليه سفه أوصيائه؟
وقد ذهب مع الحروف العربية فن جميل بلغ فيه الترك الغاية وتنافس في تجويده سلاطينهم وأمراؤهم وكبراؤهم فأتوا فيه بآيات الجمال وحلى التاريخ؛ وشد ما يهيج الحسرة أن تسير في شوارع استانبول عند الباب العالي فترى الخطاط التركي الماهر وقد كدست بضاعته، وحاولت أن تجاري الزمان صناعته، فكتب على مكتبه بالحروف اللاتينية أي خطاط.
سيقول بعض الناس أن هذه العواطف لا ينبغي أن تعوق سير الامم، وانا أقول لو كان هذا سيراً ما اعترضناه، ولو كان إصلاحا ما عارضناه، ولكنه تقليد يعصف بتاريخ الآباء ويزلزل أقدام الأبناء، ويقطع سنن الأمة كما تقطع جذور الشجرة.
وقد وصل الكماليون عملهم في الحروف العربية باجتهادهم في نبذ الكلمات العربية والفارسية. زعموا أنهم يريدون إنقاء اللغة التركية من الكلمات الدخيلة، فما بالهم يخرجون كلمة عربية ليضعوا مكانها كلمة أوربية؟ كانوا يسمون معهد الأبحاث التركية (تركيات مؤسسه سنى) فمحوها وكتبوا (تركيات أنستيتوسي) فلماذا آثروا كلمة على مؤسسة، وهي كلمة هم واضعوها في العربية وعنهم أخذها العرب؛ وكم كان لهم من حذق وذوق سليم في وضع مصطلحات علمية باللغة العربية التي اتخذوها هم وسائر المسلمين كاللاتينية عند الأوربيين. وكانوا يسمون الجامعة (دار الفنون) فسموها وكذلك وضعوا مكان معلم ومدرس وغيرهما من ألقاب الجامعة ألقاباً أخرى أخذوها من الألمانية، ومثل هذا كثير. فليس بالقوم الإصلاح أو العصبية التركية، ولكنه بغض العربية. وإذا تحكم البغض والحب في تصريف الأمور لم يبق للحق والهدى مكان.
وكان لهم في العام الماضي مؤتمر لغوي تكلم فيه أستاذ في الجامعة فقال: إن بين العربية والفارسية والتركية علائق يجب الإبقاء عليها، فطرد من المؤتمر ومن الجامعة، تقديساً للحرية التي يتغنى بها الكماليون! وسمعت أن حسين جاهد، وهو من الدعاة الأولين إلى العصبية التركية في اللغة قال في المؤتمر إن إنقاء اللغة يتم على مر الزمان، ولا تصلح فيه الطفرة. فشتم وأُسكت وأوذى، ولو كان الأمر بحثاً وإصلاحاً لا تسع للآراء المختلفة، وأخذ فيه بالنظر والرؤية. وقد سمعنا أن الفرس يريدون أن يحذوا حذو الترك في هذا. ونحن لا نكره أن يأخذ الشرقيون بعضهم عن بعض، وأن يزول العداء القديم بين الفرس والترك، وينسوا ما تصفه الشاهنامه من حروب إيران وتوران، وما يحدث به التاريخ من جلاد الصفويين والعثمانيين. أجل، أدعو الله أن يؤلف بين الأمتين، ولكن لا أحب أن يقلد بعضهم بعضاً في هذه الترهات، وتتقيل إحداهما الأخرى في هذه الضلالات.
نحن لا ننكر على الترك والفرس أو يؤثروا الكلمات التركية والفارسية على الكلمات العربية حين يحسون الحاجة إلى ذلك، ويدعوهم إليه إصلاح اللغة وتجميلها، وإنما ننكر عليهم أن يفعلوا ذلك بغضاً للغة العربية، وإيثاراً لتقطيع الأوصال بين الأمم الإسلامية. إن في الفارسية والتركية اصطلاحات علمية وأدبية كثيرة، بل تكاد تكون اصطلاحات الآداب والعلوم كلها عربية، وهذه الاصطلاحات هي من أعظم الروابط بين الأمم الإسلامية. وفي حذفها مفاسد كثيرة، منها إنهم يحرمون أنفسهم اصطلاحات وضعت واستقرت، وتحددت، وأحكمها الاستعمال في عصور متطاولة. وليس الاصطلاح على الكلمات، وخلق اللغة العلمية بالأمر اليسير، والثاني أنهم يباعدون بين اللغة العلمية القديمة واللغة العلمية الحديثة، وفي ذلك ما فيه من الفصل بين قديم الأمة وحديثها، والحيال بين المحدثين وما كتب أسلافهم، وبين مؤرخي الآداب وفقه أطوار الأدب الأولى.
والثالث أنهم يقطعون الوشائج بين آدابهم والآداب الإسلامية الأخرى التي شاركهم أهلها في تأليف حضارة واحدة، على حين يسعى الناس للتقريب بين الآداب واللغات ولا سيما اللغات العلمية، وهم أنفسهم من الساعين للتقرب إلى أهل أوربا أو الفناء فيهم. فلماذا الوصل من ناحية والقطع من ناحية أخرى، والتقرب إلى قوم والتباعد من آخرين؟ بل لماذا التقرب من الأعداء، والتباعد عن الأصدقاء، وحب الأمم الأوربية وبغض الشعوب الإسلامية؟ هل لذلك من تأويل؟
والرابع أنهم يعسرون لغتهم على طلابها من الأمم العربية خاصة والأمم الإسلامية عامة، والأمم تسعى اليوم لتيسير لغاتها وتسهيلها على طلابها.
لست أقول هذا إشفاقاً على اللغة العربية، أو عصبية لها، فليس يحس المتكلم بالعربية والقارئ فيها أن ألفاظاً منها مستعملة في الفارسية والتركية أو غير مستعملة، ولا يهتم بهذا إلا حين يدرس الفارسية والتركية، ودراسة هاتين اللغتين من شؤونهما لا من شؤون العربية، وإنما يعني إلا تقطع الصلات بين أمم عاشت دهوراً متآخية متعاونة كأنها أمة واحدة. وإنما يدعوني إلى الجدال أن الأخوة الإسلامية، والجامعة الإنسانية، تنفر من هذه العصبيات القاطعة، والنعرات المفرقة.
وفي اللغة العربية كثير من الكلمات الفارسية عُربت وأدمجت فيها، وصيغت على أوزانها، وما يفكر العرب في إخراجها من لغتهم؛ ثم إلا يرى الفرس أنهم إن ذهبوا مذهب الترك في أمر اللغة ثار عليهم الأفغان والهند المسلمون وأهل كثغر وما وراء النهر ثورة أدبية فنبذوا إليهم لغتهم التي اتخذوها لساناً أدبياً، ثم اجتهدوا في إخراج الكلمات الفارسية من لغاتهم؟
أضرب لإخواننا مثلا أوربياً، فأن الشرقيين لا يعرفون الحق إلا إذا شهدت به (ماركات) من أوربا:
هذه اللغة الإنكليزية، وهي ما هي انتشاراً بين الأمم، وذيوعاً في الشرق والغرب، فيها كثير من الألفاظ اللاتينية والجرمانية، ومعظم اصطلاحاتها في الآداب والعلوم لاتينية. وقد وقع ما وقع بين الأمم اللاتينية والإنكليز من حروب متمادية، وما فكر الإنكليز في أن يجمعوا الكلمات اللاتينية وينبذوها إلى اللاتين كراهة لهم، أو عصبية للغتهم، ما فعل القوم هذا، لأن لهم من جلائل الأعمال ما يشغلهم عن هذه السفاسف.
القوم يذهبون مع الحياة مذاهبها، ويتوسلون لها بخير وسائلها، فلا تتسع أوقاتهم للمناقشات في الحروف والألفاظ، ونحن نغمض أعيننا عن أواصر تجمعنا، وآلام وآمال تقرب بيننا، وتقلب تاريخنا لنعثر على عداوة قديمة، أو حرب ذهب الزمان بذكراها وآثارها، لنخلق منها قطيعة جديدة، ونثير بها خصومة جديدة. كاد الإنكليز والألمان يتفانون ويفنوا الأمم معهم منذ خمسة عشر عاماً؛ وهم الآن يمدون أيديهم للتعاون والتعاهد! فأين يذهب بكم أيها الشرقيون وإلى أين تساقون أيها المسلمون؟ ذلك كلام واسع الجوانب، بعيد الأغوار، لا يتسع له هذا المجال. ولعل لي إليه عودة إن شاء الله.
(له بقية)
عبد الوهاب عزام