مجلة الرسالة/العدد 103/فصول ملخصة عن الفلسفة الألمانية
→ أجدّ ' وأمزح | مجلة الرسالة - العدد 103 فصول ملخصة عن الفلسفة الألمانية [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 24 - 06 - 1935 |
11 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانية
فرديريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
- 2 -
وهنالك علاقته مع المرأة تبدي ناحية من نواحي نفسه، فقد زعم أناس إن نيتشه كان يذهب مع المرأة مذهب معلمه (شوينهاور) كاره المرأة، ويستشهدون على ذلك بقوله: (أيها الذاهب إلى المرأة! لا تنس عصاك وسوطك) ولكن هذا الحكم يسهل نقضه على المدقق في تعاليم نيتشه، فالمرأة التي طعنها نيتشه في الصميم هي المرأة المترجّلة التي تريد أن تزاحم الرجل في علمه وجهاده واقتصاده، أما غير هذه المرأة فهو مقدر لها محترم لفضلها، مقدس لمعنى المرأة فيها؛ ولقد كان له من هنّ صديقات وصاحبات فضليات، وهو - وإن لم يتذوّق من امرأة ذلك الهوى العاصف والحب اللاعج فقد تذوّق عطفها الرقيق وعاطفتها الخالصة. وقد ذكرت شقيقته في مذكراتها (إن أخاها كان يجهل الحب العادي. . . وإنما كان همه الشاغل له التفتيش عن الحقيقة). على إن هذا الفيلسوف السئم (المنطوي على نفسه) الذي لم يستسلم للأهواء المصطخبة والميول الملتهبة، قد تذوّق في أيام نكبته من عطف المرأة ما لم ينعم بمثله إلا قليل. . . فهو صاحب مثل أعلى في الحب كما كان في الصداقة
وهنالك نشأته المدرسية فقد دلّت على طبعه (الأرستقراطي) الذي ينفر من كل شيء مبتذل شائع، ولا يميل إلا إلى كل جميل لامع، وطبعه هذا هو الذي حمله على اعتزال رفاقه الذين يدرسون معه، وذوقه هذا الجانح إلى محبة الأشكال الجميلة هفا به إلى عشق الجمال القديم وحب العبقرية الفرنسية الغابرة والحاضرة. ونفوره هذا من السوقة والعامة جعله ينفر من المسيحية، ويصفها ويصف أصحابها ورسلها وصفاً قاسياً، ويكره كل المبادئ التي تبشّر بها الديمقراطية والإنسانية الاشتراكية. وكل تعاليمه الأخلاقية إنما تؤول إلى هذه الغاية: (هل هذه العاطفة شريفة أو غير شريفة؟) ولعلّ نيتشه كان يمثّل نفسه الجبار هذه الكلمة التي يرددها (زرادشت) حين يقول: (تسألونني لماذا؟ أنا لست ممن يسألون حين يعملون لماذا؟) وهذه صفة نفس لا تعتمد إلا على إرادتها، تحتمل الألم وتصدمه ثم تهزمه، وتقابل القدر وتعلن سيادتها عليه
أطوار حياته
كان هوى نيتشه الراسخ في صدره هو العثور على الحقيقة، فلننظر أي طريق ركب إليها، وما هي الدوافع التي هيمنت عليه؟
كان نيتشه يمت بنسب قوي إلى أسرة مغرقة في دينها، متشددة متعصبة، مع ميل إلى الدراسة العلمية، قرن والده العلم إلى الدين؛ وما كان لنيتشه أن يبدل هذا السبيل الذي اختاره له والده واختارته طبيعته، وقد عرفه أصدقاء حداثته مغالياً في دينه وفي تقواه، ولا عجب إذا أطلقوا علي - وهو في السادسة من عمره - أسم العابد الصغير؛ حتى إذا ما أتم دراسته الأولى خرج إلى الحياة وهو لا يزال يفكر في ربّه، ولا يفكر بنعمته، ولا يجحد وجوده. وما هي إلا أعوام كرت حتى أخذ يرتاب في الدين الملاصق للعلم، لأن ما في الدين من إيمان لا يلائم في رأيه ما في العلم من حرية وانطلاق! وهو عندما يعمل على درس الطبيعة والتاريخ متوخياً الحقيقة من وراء دراساته يجد في عمله هذا ما يسمح له بأن يكون طليقاً حراً لا يسترقه شيء. ومنذ ذلك الحين بدأ يطمع في الحقيقة العلمية التي يقتفي أثرها فكره الضائع دون أن يفقد الله الساكن في أحناء صدره. ولكن ناشد الحقيقة العلمية لا يتسنى له أن يوفق زمناً طويلاً بين حقيقته المنشودة وبين إيمانه الموروث. فهما حقيقتان متضادتان، إذا تلائمتا في أول الطريق فنزاعهما حقيق في وسطه، وإذا توافقتا في وسطه فالخلاف ناشب في منتهاه. وهاهو ذا نيتشه يفصل الآن بين هاتين الحقيقتين، ويكتب عام 1862 تجربة فلسفية على القدر والتاريخ، يحدثنا إنه قاس بعقله (أوقيانوس الأفكار الواسع، وهم بأن يجازف بنفسه في بحر الشك، ولكنه وجد إن مجازفة مثل روحه الضعيفة تجاربها ضرب من الجنون وهي لا تملك عدة، ولا تحمل سلاحاً) ومنذ تلك اللحظة ألقى إن الديانة المسيحية مبنية على افتراضات وهمية. إما وجود الله والخلود والوحي فستبقى جميعها مسائل لا حل لها. (إنني جربت أن أكفر بكل هذا، وما أيسر الهدم! ولكن الهدم يستلزم البناء. . . على إن الهدم والتخريب هما أصعب مما تتمثله عقولنا، فنحن في الحقيقة لا نعيش لأنفسنا ولا نملك أنفسنا وقفاً علينا. فهناك أوهام الطفولة وأساطيرها تحتل مكاناً منا، وهناك تعاليم الآباء والمعلمين تؤثر فينا، وكلها عوامل مترابطة متلاحمة لا يسهل على العقل أن يخترق سياجها، ولا يمكن المنطق أن يقوم اعوجاجها.
إن قوة العادة المتوارثة وتسامينا إلى الكمال وانفصالنا عن العالم الحالي، وحل كل عقد المجتمع، والشك في حقائق الوجود، كلها نوازع تتنازعنا وتملك علينا إرادتنا، والنكبات المفجعة، والتجارب المؤلمة، هي التي تسوق قلوبنا إلى الإيمان الذي ولد مع طفولتنا، وصاحب حداثتنا)
وبعد ثلاثة أعوام ألقينا (نيتشة) يخطو خطوته الأخيرة، ويعلن إن الإنسان بين حالتين لا ثالث لهما: فهو إما أن ينتخب الإيمان وما في الإيمان من هدوء ووقار واستقرار، وإما أن يمشي على طريق محفوفة بالأخطار: هي طريق الباحثين عن الحقيقة، الذين لا يتّخذون الهدوء والسكينة مأرباً لهم، وإنما يجدون مأربهم في نجدان الحقيقة. يمشي الباحث منهم وحده مضطرب النفس قلق الضمير، ممزق القلب، نحو ضالّته المقصودة، نحو ما يتجلى له من حق وجمال وخير، وهو إذا غادر طريق الباحثين ورضى لنفسه ذلك الهدوء فقد قتل البطولة في نفسه، وحكم على رجولته بالموت.
انفصل (نيتشه) عن المسيحية التي كان يؤمن بها قبل عهد الانفصال إيمانه بشيء رمزي قائم على قواعد رمزية، شأن الحقائق السامية تكون رموزاً لحقائق أسمى منها وأعلى. وظل يدرك خطر العمل الذي أقدم عليه، ويتكلّم في كل فصوله (عن موت الآلهة) كأن موته - عنده - حادث عظيم في تاريخ البشرية أو عمل نفّذ اليوم أوله والأجيال الآتية ستتممه. ولكن (نيتشه) اعدم هذه الآلهة ليبعث إله الحقيقة. (هذا الإله (الأدبي)، قد مات ليعيش الإله العلمي) وهكذا حمله حنينه الهاجع في أحناء نفسه للدين إلى الإيمان بآلهة الحقيقة. وعندما وجد نفسه يتنازعها إلهان سلطانهما نافذ: الإله الذي ورثه، والإله الذي لقيه، رأى أن يضحي بالأول ويبقى على الثاني. وهذا الإله هو الذي يسيطر وحده على كل تعاليم نيتشه ومبادئه، ولم يعش مع إلهه هذا كما يعيش أولئك مع آلهتهم مستسلمين قانعين بما نزل على قلوبهم من برد اليقين، فهو يهب عاملاً على تحطيم كل عمارة مشيدة على الإيمان بذلك الإله الأول، وهو - الآن - لم يعد يؤمن بنظام الطبيعة ولا بجمالها. ولا يميل إلى محاسنها، ولم يعد يرى في صفحات التاريخ ذلك القضاء الإلهي والنظام السماوي الذين يقودان الإنسانية إلى مرابعها التي خلقت لها، ولم يعد يستسلم لذلك القدر الذي يذهب بحياتنا ما يشاء، ولا لتلك الإرادة الإلهية التي تود أن تهدينا إلى سبيل النجاة والسلام.
بحث (نيتشه) جميع الأديان والشرائع منذ العصور الأولى والمذاهب التي نزلت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. وبعد أن شكك في هذه المذاهب وارتاب في حقائقها وأغرق في الإنكار عاد إلى هذه الفكرة التي قالها جازماً، وزعم إنه بهذه الفكرة حلّ مسألة الوجود: (إلا أن الآلهة جميعهم قد ماتوا! والآن نريد أن يحيا الإنسان الكامل. . السوبرمان) وهكذا أضاع نيتشه إلهه ووجد نفس.
بحث الناقدون كثيراً في فكرة نيتشه التي كانت تتطور وتتبدل تبعاً لما يحيط بحياته. وهو قبل بلوغه هذا المرفأ خاض بحاراً كثيرة وجاز شواطئ كثيرة. وقد أدرك بذاته تطور ذاته فشبه نفسه بالأفعى التي تنسلخ من جلدها أو النسر الذي ينسل ريشه. والحياة - عنده - ليست بواجب يلقى ولا بعمل يفرض ولا بوهم يحسب، وإنما هي مادة شأنها شأن المواد التي تقع بين يدي الباحث. وكان ينظر نفسه كالمتنقل بدون انتهاء. همّه النضال تهذبه انكساراته تهذبه كما انتصاراته، أو كالقافز بين الصخور يكاد يذهب بنفسه ضحية على رؤوس الصخور الشاهقة. وهو - بلا كلل ولا فتور - يصعد من عال إلى أعلى، ومن قمّة إلى قمّة، مبدّلاً كل لحظة أفقه عازما على ألا يقف أبداً ولا ينثني أبداً. رداؤه الشجاعة والصرامة، لا يروعه البرد ولا تخيفه الهاوية. ولا يجزع من العزلة التي يتنفس فيها ريح الثلج المنهمر. . . هو دائما في صعود وارتقاء. وهكذا يعتقد نيتشه الذي فهم الحياة إنها تفوق بعضها على بعض؛ يعتقد إن التطور لا غنى عنه، ولا بدّ منه لأنه مادة ضرورية في تحول الحياة. يعتقد نيتشه ذلك ويدأب على أن يوفق بين حياته وإرادته مع هذا المثل الذي اعتقد به، وقد كان توفيقاً كاملاً وكان تلائماً كاملاً، وصارت مسألته في الحياة هذه المسألة: (ما عسى يكون عندي معنى الحياة إذ لم يكن إله؟) ويجيب على هذه المسالة بهذه الكلمة: (إن اللاشخصية ليس لها قيمة على الأرض ولا في السماء. إن الحب الأكبر هو جوهر ضروري وجوده في كل مساء الوجود الكبرى. وهذا الحب وحده جدير بالأرواح القوية النشيطة ذات اليقين الراسخ. هنالك فرق كبير بين المفكر الذي يقابل مسائل الوجود بشخصيته، يرى فيها قدره وفاقته كما يرى فيها سعادته، وبين المفكر الذي يتوجه إليها مجرّداً عن شخصيته. لا يعرف أن يلمسها إلا بفكره البارد الغريب. إن هذا المفكر لا يستطيع أن يلمس شيئاً. وهب أن مسائل الوجود قد أمكن لمسها فلن يقدر للضفادع أن تلمسها ولا للدجاج المسترخية أن تحسها. .
ونيتشه وجد في المسألة الكبرى شقاءه وسعادته. وقد ناضلها بدون ضعف ولا هوادة، ونازلها جسداً لجسد دون أن ينفذ إلى قلبه الوهن. حتى إذا أصابه الجنون وقضى على شعوره أعلن نشيد الانتصار. أو ليس هذا بعد ذلك كله قدراً جميلاً بين الأقدار؟
(يتبع)
خليل هنداوي