مجلة الرسالة/العدد 1022/العروبة رابطة وهدف
→ كوليرج | مجلة الرسالة - العدد 1022 العروبة رابطة وهدف [[مؤلف:|]] |
شعر مختار ← |
بتاريخ: 02 - 02 - 1953 |
للأستاذ عيسى الناعوري
في العدد (1019) من هذه المجلة الغراء كتب الأستاذ علي الطنطاوي افتتاحية بعنوان (العربية والإسلامية) حمل فيها على فكرة العروبة وصلاحيتها لعالمنا العربي. ولسنا نشك أن الشيخ كان مخلصا في دعوته، وأنه كان يدافع عن عقيدة يعتقدها ويتعصب لها. ونحن نعذره لذلك، ونرجو أن يلتمس هو أيضاً لنا العذر إذا جئنا نخالفه فيما يراه، ونسوق الأدلة التي تدفع ما أورده من حجج كان يعتقد أنها تستقيم بين يديه، وهي في الواقع أبعد ما تكون عن الاستقامة. وما دام الإخلاص للمبدأ وللحقيقة هو رائد الشيخ ورائدنا فمن السهل أن نتفاهم ونصل إلى نتيجة يكون بها صلاح عالمنا العربي وبلادنا العربية.
لقد وقف الأستاذ في مقاله بين عاملين: أن ينظر إلى المليونين من العرب غير المسلمين الذين يعيشون في البلاد العربية ويشاركون المسلمين في قوميتهم، أو إلى الملايين الثلاثمائة من المسلمين غير العرب الذين يشاركونهم في عقيدتهم الإسلامية، والذين يظهر لنا أن ضخامة الرقم الأخير قد هالت الشيخ، فرأى أن المركز العرب - أو مركز الكتلة التي فيها العرب - يقوى بهذا العدد الهائل أكثر مما يقوى بالمليونين وحدهم. ولهذا بنى دعوته على هدم فكرة الوحدة العربية، وإقامة الوحدة الشرقية على أساس العاطفة الدينية وحدها.
ثم كان من الأمور التي اعتقد الشيخ أنه قد أصاب بها المرمى وهو يحاول هدم الرأي القائل بوجود (إرادة مشتركة) بين أفراد الأمة العربية، أنه تسائل قائلا: (إذا قرأت أنا وعربي جبل لبنان الماروني في تاريخ الغزوات الصليبية، فهل يكون أثر هذا التاريخ مثل أثره في نفسه؟) بهاتين الملاحظتين تتلخص أقوى حجج الشيخ وفي مقاله الطويل ذي الصفحات الست، ولسنا نجد في بقية المقال ما يستوجب الاسترسال إلى الاقتباس أو النقاش. فليسمح لنا بأن نقف عند هذا الحد لنجيب أولا عن سؤاله، ثم نبين له ما حاول أن يتناساه من وقائع التاريخ البعيدة والقريبة معا في نظرته الأولى.
أنا لست مارونياً من جبل لبنان، ولكنني مسيحي كموارنة لبنان وعربي في حقيقتي وشعوري. وأستطيع أن أجيب عن سؤال الشيخ صادقاً مخلصاً أنني لست أقل منه نقمة وسخطاً على الحروب الصليبية - بداية الاستعمار الغربي للشرق - وعلى الذين ش تحت ستار من الدين. ولست أقل منه سخطاً على الدين نفسه - كل دين - إن كان من مبادئه أن يحل القتل والدمار في سبيل السلطان والمنافع الدنيوية. ولست أيضاً أقل منه سخطاً ونقمة على الغربيين المستعمرين ومظالمهم المجرمة في بلادي. ولا ينس الشيخ أنني اشترك مع هؤلاء المستعمرين اليوم، ومع أجدادهم الصليبيين بالأمس، بالعقيدة الدينية، ولكنني أحتقرهم وأنقم عليهم بدافع من شعوري العربي القومي الذي أذلوه ولا زالوا يمعنون في إذلاله.
وهذا الذي أقوله هو كل ما يقوله مسيحي عربي واع. وأظن الشيخ يوافقني في أن قياس الحكم في مثل هذه الأمور هو الإنسان المثقف الواعي وليس السواد الأعمى. ولهذا أرجو أن يكون هذا الجواب كافياً لإزالة ما بنفس الشيخ من هذه الناحية.
أما أن الثلاثمائة مليون من المسلمين غير العرب أحق أن يؤلفوا مع العرب وحدة كبرى، فإنني أخالف الشيخ فيه كل المخالفة. ولست أظن الشيخ قد نسى (الشعوبية) - وهي لعنة أقدم وأدهى من الصليبية - وما جرته على الأمة العربية من خراب وذل، مما لا يزال يرويه التاريخ بكثير من الخجل والمرارة. والشيخ لا يجهل أن الشعوبيين هم من الجماعات غير العربية التي أفسح لها الإسلام من رحابه كرماً، ووسع لها في كنفه تسامحاً، ولكن إسلامها لم يمنعها من النقمة على العروبة - والعروبة منشأ الإسلام ومنبته الأول - فكانت هي أول العوامل على تقويض سلطان العروبة والإسلام.
ولست أرى في موقف الشعوبيين ذلك ما يستحق المؤاخذة على الإطلاق، فقد كانوا برغم وحدة العقيدة الدينية يشعرون بأن العرب أمة فاتحة، احتلت بلادهم، وجبيت إليها أموالهم، وتسلطت على ممالكهم تسلط الفاتحين، وعاملتهم في عهد الأمويين معاملة الخدم والموالي، فكانوا لذلك ينظرون إلى هذه الأمة الفاتحة - أو المستعمرة بلغة اليوم - بشعورهم القومي العدائي الحذر، تماماً كما ننظر اليوم إلى المستعمرين الغربيين بشعور الكراهية والعداء القومي.
والذي حدث في الماضي لدينا منه نماذج في حاضرنا المشهود - وهو فيما نرى شيء طبيعي جداً في مفهوم القوميات. - فهذه تركيا. . . جارتنا المسلمة - ترى أي رابطة يمكن أن تقوم بينها وبين سوريا - بلد الشيخ الطنطاوي العربية المسلمة؟ - ألم تقطع من قلب سوريا جزءاً عزيزاً غالياً هو لواء الإسكندرونة الذي لا يزال كل سوري يحلم باستعادته؟ وتركيا بهذا قد كسبت لنفسها نصراً قومياً على حساب خسارة العرب القومية.
ألم تنكر تركيا لشعورها الديني نفسه ولشعور العالم الإسلامي كله، في عهد قريب جداً، وتحارب اللغة العربية رغبة في تنمية شعورها القومي، وصيانة سيادتها القومية الكاملة؟ ثم ألم تتنكر تركيا المسلمة نفسها في عهدها الحاضر لكل ما أجمعت عليه جاراتها العربيات المسلمات من محاربة إسرائيل - عدوة العرب وحدهم، لا المسلمين كلهم - ومقاطعتها ومحاصرتها وعدم الاعتراف بها؟ وهل يذكر الشيخ لتركيا موقفاً جدياً واحداً في تأييد أماني البلاد العربية معاضدة قضية من قضاياها؟
ويشهد الله أنني لا ألوم تركيا في شيء من هذا، فهي تعرف مصالحها السياسية والقومية، وتعمل ما يناسبها بوحي من هذه المصالح وحدها، ولكنني أسوق هذه الأمثلة والحجج لأثبت للشيخ أن الدين وحده ليس بالرابطة التي تصلح لبناء وحدة الأمة، فلعله يؤمن معي بأن (الإدارة المشتركة) موجودة بين أبناء العروبة أتم وجود، بينما هي بين الشعوب الإسلامية، كما هي بين الشعوب المسيحية والوثنية واللادينية أيضا، إذا أمكن وجودها إلى حين، فلا يمكن وجودها إلى الأبد، ولا إلى وقت طويل، لأنها روابط مصلحية وقتية لا شعور طبيعي.
لست أنكر أن المسلم العربي يشترك مع المسلم غير العربي في الشعور الديني، كما يشترك المسيحي العربي مع الإنكليزي أو الفرنسي أو الأمريكي مثلا بهذا الشعور الديني، ولكن هنالك حقيقة كبرى لا يجوز أن نتجاهلها وهي أن المصالح القومية لن تتقيد في يوم من الأيام بالشعور الديني وحده، فالمسيحي العربي ينظر للمستعمرين الغربيين. . . وهم من دينه. . . نظرته إلى أعداء بغيضين، يتمنا أن تتيح له الأيام فرصة الثأر منهم لكرامته القومية المهانة. وقد اثبت بالفعل في كل مناسبة شدة عدائه لهم، وفلسطين اقرب شاهد على هذا.
إنني مع الأستاذ الطنطاوي في أن الأمة العربية لم يوحدها ولم يكتب لها تاريخ سوى الإسلام، وأنا أعتز مع الأستاذ كل الاعتزاز للإسلام وبهذا المجد الذي كتبه الإسلام للأمة العربية. فالإسلام مصدر فخر واعتزاز قومي لكل عربي ولكن (العروبة) التي خرج منها الإسلام لن تكن قط مصدر فخر واعتزاز لكل مسلم غير عربي. وإذا كانت بعض الشعوب الإسلامية تشارك البلاد العربية في شعورها وأمانيها في بعض المناسبات، فليس معنى هذا أنها ترغب مخلصة بربط حياتها ومصالحها السياسية والاقتصادية معها برباط واحد وإلى أمد طويل، ولكن مصالحها الحالية وكلها شعوب يعيث فيها النفوذ الأجنبي المجرم، تدفعها إلى أن تقوي مركزها بأي وسيلة ممكنة، وبالتعاطف بينها وبين أي كتلة من الشعوب الأخرى، القريبة منها والبعيدة التي تشترك معها لأجل الحرية، تماما كما فعلت فرنسا وبريطانيا في الحربين العالميتين الأخيرتين وإلى الآن، على الرغم مما يتذكره كل بريطاني وكل فرنسي في تاريخ الأمتين من حروب وعداوات طويلة الأمد.
أفلا يؤمن معي الأستاذ الطنطاوي إذن بأن الأقرب إلى العقل والمنطق السليم هو أن تقوم (الأمة العربية) على وحدة الشعور، والتاريخ، واللغة، والتقاليد، قبل أن تقوم على رابطة الدين وحدها.
وهذا لا يمنع من أن ترتبط الأمة الواحدة ذات الإرادة المشتركة الواحدة، والتاريخ الواحد، واللغة الواحدة، والتقاليد الواحدة، برباطات التكتل الدولي والصداقة مع سائر الشعوب التي تجمعها بها دوافعه الكفاح للتحرر من سلطان المستعمرين - سواء أشاركتها في الدين أم خالفتها فيه - لأن هذا يدخل في باب (المصلحة الوطنية) لا الشعور القومي المشترك، وهو يقوي من مركزها في كفاحها ضد الظلم.
بعد هذا أود أن يعلم الشيخ إنني لست أدافع عن عقيدة حزب معين فلست من المنتمين إلى الحزب الذي يقول حضرته بلهجة الاحتقار أنه (قد ألفه في عهد الفرنسيين أحد شباب النصارى) - وهو يقصد حزب البعث العربي ومؤسسه ميشيل عفلق - ولكنني واحد من الذين يتعصبون للعروبة عن عقيدة واقتناع ويؤمنون بأنها الوسيلة الوحيدة لوحدة الأمة العربية، ولإقامة تاريخ جديد على أسس من المنعة والرفعة والكرامة، لهذه الأمة العربية التي أشترك أنا والشيخ في الانتساب إليها والاعتزاز بها، برغم اختلافنا في الدين، هذا الاختلاف الذي جاءنا بحكم الولادة والأسرة، وليس للشيخ ولا لي أي فضيلة أو يد في اختياره.
عيسى الناعوري