مجلة الرسالة/العدد 102/من الأدب الإيطالي
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 102 من الأدب الإيطالي [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 17 - 06 - 1935 |
الليالي العشر
ترجمة الأديب أحمد الطاهر
- 3 -
قصة صداقة جيزيبوس وتيتوس
قالت فيلو مينا: (لقد سمعتم من بامفيلو قصة رائعة تظهركم على قوة الحب وأثره في النفوس؛ وأنا ذاكرة لكم قصة أخرى تكشف عن قوة الصداقة وفعلها في الناس: وقعت حوادثها في عهد أوكتافيوس قيصر إذ كان حاكماً لروما
فصل من روما إلى أثينا شاب يدعى تيتوس ليدرس الفلسفة، وهناك عربي شاباً أثينياً شريفاً أسمه جيزيبوس، واتصلت بين الفتيين أسباب الصداقة والمحبة. ومضت سنون ثلاث تعمل على توثيق هذه الأسباب، والفتيان لا يفترقان في مسكن أو مأكل أو درس
وقدر لجيزيبوس الأثيني أن أغرم بفتاة جميلة من بنات جنسه تدعى (سوفرونيا)، وحببت إليه الفتاة، وحبب الفتى إليها، واتفق المحبان على الزواج
ورأى جيزيبوس قبل الزواج ببضعة أيام أن يصحب صديقه الروماني تيتوس إلى بيت الفتاة لزيارتها، وهو يعهد فيه نبلاً في الطبع، وشرفاً في النفس لا سبيل إلى الشك فيهما، وما أن رأى تيتوس الفتاة حتى أقصده حبها بسهم مصيب، واشتدت به تباريح الهوى، فما يغمض له جفن، ولا يهنأ له طعام. وما زال الحب يلح عليه حتى أضناه، ويسرف في النيل منه حتى أضواء، وأصبح الفتى سقيما عليلاً لا يرجى شفاؤه، ولا يرحم داؤه، وساءت به الحال، حتى أشفى على الزوال
وعز على صاحبه ما أصابه، وذهبت به الظنون كل مذهب في سبب علته، وأخذ يسائله عن مصدر أحزانه، ومبعث أشجانه، والفتى لا يستطيع جواباً بغير الدمع ينهمر من مآقيه، والصمت لا يبرح على فيه؛ ولما أسرف عليه صاحبه في السؤال وألح، قال: (يا صديقي، لقد أحسست بخستي ودناءتي؛ فما احسبني بعد اليوم خليقاً بصداقتك، وما أطمع منك إلا في عفوك وصفحك، أما عند الله فسيصيبني بما أجرمت صغار وعذاب شديد، وما يوم القصاص ببعيد. ولا أكتمك أن مبعث علتي، ومصدر شقائي هو حبي لفتاتك سوفرنيا. أعترف لك بهذا الأثم الشنيع الذي فارقت رحضاً لسبة الخيانة، ومعرة الإنكار، واستعداد لقضاء العادل الجبار)
وجم صاحبه لحظة، واستولت عليه حيرة، وتزاحمت عليه خواطر شتى: هذا وفاؤه لتيتوس يكبره ويقدسه، ويذود عنه بعقله وحكمته، وهذا حبه لسوفرينا يملك عواطفه ويتحكم في شعوره ويملأ قلبه. فماذا يصنع؟ والى أي العاملين يخضع؟ ثم ليست هي الصداقة وحدها تتراءى له فيقع في حيرة وتردد، بل هو الصديق نفسه قد أشفى على الهلاك والتلف، وتصرمت بينه وبين الحياة أسبابها. أطال جيزيبوس الصمت، وأغرق في التفكير، ثم استقر، ورضى، وطابت نفسه أن ينزل عن سعادته في الحب لينجو صديقه من الموت، وتنجو صداقتهما من أن يعتورها كلل أو فتور
ومضت بضعة أيام، وأقبلت سوفرنيا إلى منزل العريس، وقد أعد العدة لليلة الزفاف. وما وافت ساعته حتى انسل إلى مقصورتها، وأطفأ شموعها وقفل راجعاً إلى صديقه تيتوس في حيرة لا قبل له بها، وتزاحم عليه الخجل، والحب، ولرغبة، والأباء، والوفاء: تتنازع هذه النفس المعذبة المحطمة وتتركها شعثاً لا يرجى له اجتماع، وتضطرب في هذا القلب المتداعي حتى ليكاد ينفجر الصدر، وتنقض الأضلاع. ولم يسعه إلا أن يرفض ما عرض عليه جيزيبوس، وألح هذا الصديق الوفي في قبول ما عرض، حتى نزل تيتوس على إرادة صديقه وقبل رجائه، وأسترق الخطى إلى مقصورة العروس، فلما دنا منها تحت غلس الليل قال لها: (أتطيبين نفساً بزواجي؟) فحسبته الفتاة زوجها الموعود جيزيبوس، وأجابت (بنعم). فتناول خاتماً ثميناً ووضعه في إصبعها وقال لها شاكراً (وسأكون زوجك) ولما تنفس الصبح وافتضح التدبير أدركت سوفرونيا أن في الأمر خدعة ودلساً. فتسللت من بيت عرسها وانصرفت إلى أمها وأبيها، تشكو إليهما خدعة وقعت فيها، وذاع الخبر في أثينا، وكان حديثاً تلوكه ألسنة الناس ساخطة على فعلة جيزيبوس وخديعته لفتاة انحدرت من أطهر الأصلاب وأعرق الأنساب، ولكن لا مفر مما وقع، ولا تبديل لحكم القضاء. ولم يجد والدا الفتاة حيلة في هذه الكارثة المخزية إلا أن يسترا الفضيحة ويكتما العار. فطلبا إلى تيتوس أن يرحل بالفتاة إلى روما حيث لا يعلم الناس من أمرهما شيئاً.
وما كاد الفتى يفصل عن أثينا بزوجته حتى تحركت في نفوس الملأ سورة الغضب والانتقام من جيزيبوس جزاءً بما فعل بهذه الأسرة الكريمة، واشتدوا على الرجل ونكلوا به تنكيلاً، وجردوه من كل ما يملك، وشردوه من أثينا تشريدا أبدياً، فخرج منها مذموماً مدحوراً
وركب نعليه إلى روما، ومشى إليها مكباً على وجهه، كاسف البال، عليه من الثياب أسمال، لا رفيق له إلا أحزانه وأشجانه، تبطئ خطاه حيناً، وتسرع أحياناً. ولقى في سفره هذا عناءً ونصباً. وأشرف على المدينة فتلمس دار صديقه الذي لقى ما لقى في سبيل الوفاء له والإبقاء على صداقته فهداه السابلة إلى طريق اتخذ سمته فيه إلى قصر شامخ عليه مظاهر النعيم واليسار، تجري عليه من السعادة أنهار، وإذا هو قصر صاحبه تيتوس.
وتنسم أخباره فإذا هو في نعمة سابغة، وسطوة بالغة، وإذا هو في المدينة من ذوي السلطان والحول، والقوة والطول، لا يدفع له أمر، ولا يرد له قول أن كان في المقربين من أمير البلاد أوكتافيوس قيصر من الخاصة الخلصاء. وأختلس الفتى من أعين الحراس موقفاً إلى جوار الباب خفياً، وأسنده ظهره إلى الحائط وأطرق يفكر ملياً
وا رحمتاه لهذا البائس المنكود! يسبح في بحار من الأحزان والآلام لو سلطت على هذا القصر لدكته على من فيه دكاً. ترى ما الذي يختلج في هذا الصدر من لوا عج الأسى؟ وما الذي يضطرب في هذه النفس من شتى المشاعر؟. هذا صديقه الذي نزل عن سعادته في الدنيا لينعم بها دونه ولقى في سبيل الوفاء له شر ما يلقى الناس من عنت الدهر، وتجرد له من حطام الدنيا وما ملكت يداه، وأفزع من وطنه شريداً طريداً لينعم بخفض العيش ويستقر في مهاد النعمة. . أإذا خرج ورآه، يعطف عليه ويرق لمرآه؟ أيذكر له سابق فضله ويسبغ عليه من فيئه؟ وكيف السبيل إليه، ودونه من الحراس والحجاب والأبواب ما يصد الناس عن الوصول إليه ولو كانوا من ذوي المكانة. فكيف به وهو على ما نعلم من المذلة والمهانة؟
وبدت في القصر حركة تدل على أن صاحب القصر قد آذن بالخروج، فتحرك الفتى من موضعه، واحتبست أنفاسه، وخرجت من صدره نفثات، ومن عينه عبرات، ومر صاحب القصر به ولم يعن بشأنه ولم يلتفت إليه كأن لم يكن شيئاً موجوداً وأنصرف الفتى يتعثر في أذيال الخيبة ويهيم في الطرقات، لا يقصد غاية، ولا ينتهي إلى نهاية. كأنما وكل بسبل المدينة يذرعها ذرعاً. وأدركه الليل. وبسط عليه جناحين من سواد، فأوى إلى كهف يتخذه اللصوص مثابة فألقى عنده عصا الترحال وأسند رأسه إلى الأرض يلتمس فيها راحة البدن؛ وقد أيأسته راحة النفس، وحاول أن يغمض عينيه، ولم يجد النوم سبيلاً إليهما بين هذه العبرات الحارة المنهمرة انهماراً. ودخل إلى الكهف لصان يحملان أسلاباً، ونزع الشيطان بينهما فاختلفا في قسمة الغنيمة فهم أحدهما وضرب الآخر فأرداه قتيلاً
تنفس الصبح وطاف بالكهف بعض العسس فألفوا القتيل مضرجاً بدمائه وفتى القصة راقداً إلى جواره. فاقتادوه إلى دار الشرطة والقضاء ليتبينوا منه الأمر وهنا دفع اليأس فتانا لأن يلتمس مخرجاً من هذه الكوارث فألقى بنفسه إلى التهلكة وترامى في أحضان الموت وقال: (أنا القاتل!) وفي نفسه بارقة من الأمل، ولكنه أمل في الموت وفي أن يخرج من عناء الدنيا إلى راحة الأخرى
قال القاضي (ولقد حكمنا عليك بالإعدام صلباً) وكذلك كان يجزى القاتلون
وساقت الأقدار تيتوس ذا الحلول والطول إلى ساحة القضاء ليزجى دفاعاً عن أحد الأبرياء، فحانت منه نظرة إلى فتانا جيزيبوس فأنكره، ثم تأمله فتبينه وعرفه، فساءته حاله وأشفق عليه وعقد العزم على أن يخرجه من بأسائه إلى نعيم، وأن يبعث في حواشي هذه النفس الحالكة شعاعً من الأمل لا يخبو. ولم يكن من سبيل إلى هذه الغاية إلا أن يدحض اعتراف جيزيبوس باعتراف آخر، فمثل أمام القاضي وقال: (مهلاً أيها القاضي! أنا القاتل! وهذا الرجل برئ مما يدين به نفسه!)
وقع القاضي في حيرة يصعب الخلاص منها، وأدرك تيتوس أن صديقه يسعى لإخراجه من فم الأسد الذي أقحم نفسه بين فكيه. وهو لا يريد الفرار من بؤس الحياة إلى الحياة، وإنما وجد في الموت منجاة من عذاب الحياة. وفصل جيزيبوس من مجلسه إلى القاضي ودفع صاحبه وقال: (لا! بل أنا القاتل يا سيدي ولا ترفع قصاصك إلا عليّ!)
قال القاضي في نفسه: (أكان الصلب شرفاً يتزاحم عليه هذان المأفونان؟) وفيما هما يتدافعان إلى الردى برز من بين النظارة لص هصور وقال: (لقد رأيت هذين الرجلين يدفع أحدهما الآخر بما وسعه من الجهد عن حياض الردى، فما وجدت خيراً من أن أعترف لك يا سيدي القاضي بكل شيء فأريحك وأنقذ الرجلين وأريح نفسي. ما شأن تيتوس - وهو على ما علمتم من الشرف - وما سدة اللصوص يأوي إليها أو يتخذ إليها السبيل؟ وهذا الرجل ذو الثوب الخلق كان حقاً في إحدى زوايا الكهف نائماً، ودخلنا الكهف أنا وزميل لي ونزغ الشيطان بيننا فاختلفنا في قسمة الأسلاب - واللصوص كما تعلمون تدب بينهم الشحناء لخير العدالة والقضاء، ففضضت النزاع بأن سلت مديتي وأزهقت روح زميلي كما أسل اليوم لساني لأنقذ روحيّ هذين السيدين)
هذا خصم ثالث يطالب بنصيبه في الموت كاملاً، فما أشد حيرة القاضي ووجوم النظارة!
ورجع القاضي إلى ملاذ القضاة، وهو أوكتافيوس قيصر، أمير البلاد، ودفع إليه بثلاثة الرجال، فألقى السمع إلى حديثهم وعرف ما كان من أمر تيتوس وجيزيبوس منذ جمعت بينهما الصداقة، وفرق بينهما الحب، وجمعتهما الأقدار، إلى أن مثلا في مجلسه فقضى بحكمه العادل ببراءة الصديقين، والعفو عن اللص المعترف إكراما المعترف إكراماً لهذه الصداقة وإكباراً لنفسه الأبية
وخلا الصديقان أحدهما إلى الآخر في قصر تيتوس، ولما اطمأن بهما المجلس نزل تيتوس عن نصف ثروته إلى صديقه وزوجه من أخته وكانت فتاة بارعة الحسن نبيلة
واقدموا جميعاً في القصر، وزادهم الله بسطة في الرزق، وسعة في العيش.
(عن الإنجليزية)
يوزباشي أحمد الطاهر