مجلة الرسالة/العدد 102/القصص
→ ذكرى محمد في عيد ميلاده | مجلة الرسالة - العدد 102 القصص [[مؤلف:|]] |
من الأدب الإيطالي ← |
بتاريخ: 17 - 06 - 1935 |
من أساطير الإغريق
هرقل
مولده. نشأته. قوته الخرافية. مجازفاته
للأستاذ دريني خشبة
كان قلب الإله الأكبر شيوعية في دولة الحب. . . ولم يكن يقصر هواه على ربات الأولمب فحسب، بل كان يفتتن بكل حسناء من بنات حواء وطالما وصل أسبابه بأسباب الغيد الأماليد من ظباء دار الفناء. . هذه الحياة الدنيا. . .
ولقد كانت زوجه حيرا تقعد له بالمرصاد، لما تعرف من تصابيه، ولقلة ثقتها فيه، فلما علق الفتاة الفاتنة، ألكمين، إحدى أميرات هيلاس، كان يبالغ في الحذر حتى لا تفجأه زوجه معها كما فجأته مع الحسناء يو من قبل
ونعم الحبيبان بحياة راضية، ووضعت ألكمين طفلها العاتية الجبار هرقل، وما كاد النبأ يذيع في دولة الأولمب حتى ثارت ثائرة حيرا واسقط في يدها. . . لأنها لم تعد تستطيع الانتقام لكبريائها من منافستها في قلب زوجها (زيوس) تلك المنافسة التي ارتفعت إلى مرتبة الآلهة بعد إذ وضعت غلامها ابناً لسيد أرباب الأولمب
ولكنها، وهي المجبولة على الشر دائماً، آلت إلا أن يرتد نور الحياة المتلألئ ظلاماً في عيني ألام، وذلك بالفتك بوليدها المحبوب، فأمرت حيتين رقطاوين من أبالستها أن تسعيا إلى مهد الطفل، وان تندسا فيه، حتى إذا سنحت لهما فرصة أودتا بحياته، وعادتا بإثارة منه تشهد على إنفاذ ما أمرتا به
وسعت الحيتان حتى استقرتا في المهاد الوثير، وانتهزتا غفلة من الخدم فانقضتا على الفريسة الصغيرة، وأوشكتا أن تظفرا بها. . .
ولكن هرقل الصغير الهادئ، افتر عن ثغر شتيت مشرق، وقبض بأصابيعه الصغيرة الدودية على راس كل من الحيتين، وبضغطتين هائلتين حطم عظامهما جميعاً. وكان الخدم قد اقبلوا، فلما شهدوا الأفعوانين صرخوا وأعولوا، بيد أنهم بهتوا وطار الصواب من أدمغتهم حينما رأوا أن الصغير، المنبطح على ظهره يضرب بظهره ها هنا وها هنا، قد قضى على الحيتين العظيمتين وألقاهما ضحيتين غير مباركتين على مذبح قوته الخرافية!!
وقدمت الكمين إلى صدرها الهائل! فرحة مستبشرة، وطبعت على جبينه الضاحك قبلة حملت أسمى معاني الأمومة
وذهلت حيرة عندما سمعت بما صنع الغلام بشيطانيها، وأيقنت ألا سبيل إلى القضاء عليه، ولكنها لم تيأس، وأقسمت أن تنثر الشوك في مستقبله القريب، وثبت العراقيل في حياته الجائية
وشب هرقل. . .
ونشأه مؤدبه، شيرون، زعيم السنتور، تنشئة حربية حافلة، ولقنه كل ما تحتاج إليه حياة الفرسان من تقشف وخشيشان؛ فمهر هرقل في زمن قصير في استعمال الأسلحة بأنواعها، ونبغ في جميع صنوف الرياضة والعاب الفروسية والقوى وكان شيرون نفسه يعجب بهذا الجسم الحديدي، يمسكه العضل البارز، ويزينه الكيان المفتول. . . وكان إذا أراد تدريبه على المصارعة والعاب القوة، آثر أن يشركه في نزال مع الثيران والعجول، والضخم ذو الأيد من بهيمة الأرض. وكان هرقل لا يخشى شيئاً من خصومه العجماوات، بل كان يقبل على مصارعتها بثغر بسام وقلب طروب، فلا يدعها معفرة بالتراب! وخشيته الحيوانات جميعاً، فكانت تجفل من طريقه كلما رأته مقبلاً نحوها، لطول ما جربت من بطشه وشديد بلائه!
وكان الفتى كلما ازداد قوة، وذاب الحديد في عضلاته، ازدادت حيرا تغيضاً وهاجت في فؤادها الأحقاد!
ولم تعد تطيق صبراً على هذا الخصم العنيد، ومادت بها الأرض، وأصبحت كأن يعاسيب العداوة تظن في رأسها تغريها بهرقل، ومن يلوذ بهرقل، فانطلقت إلى زوجها ولم تزل به حتى اصدر إرادة أولمبية تقضي أن يصبح هرقل خادماً لابن عمه، النذل الخسيس، يوريذوس أمير ارجوس، وأن يظل في خدمته بضع سنين. . .
وانتهى هرقل من تلمذته على شيرون وانطلق يكابد كفن قاس ملئ بالرغائب، مفعم بالمجازفات. فبينما كان يعبر طريقاً معروشاً بفروع السنديان، بين غابتين عظيمتين، إذا غانيتان جميلتان تعترضانه وتأخذان على سبيله. . . فأشاح عنهما، يحسبهما من المسكينات ملفوظات البغاء، أو من أولئك اللائى يتخذن الفسوق حرفة قذرة إلى عيش وضيع. ولكن الفتاتين تشبثا به، وأبتا إلى أن يقف معهما هنيهة، يتخير منهما واحدة تكون رائدته في هذه الحياة، تهديه وترشده وتأخذ بيده في سبلها المتشعبة
وكانت إحدى الفتاتين، (كاكيا)، شيطان الأثم، وإبليس الفجور في هذه الأرض. فتقدمت إليه متبرجة متهتكة، تغمز بهذا الطرف، وتبسم بذاك الثغر، وتهز ما سكن من الجيد، وتمط ما أشرب من العنق، وتحسر عن الساقين، وتكشف عن الذراعين، ثم هي تقرقع بضحكات مخنثة تثير الاشتهاء في نفس الشاب، وتستولي بها على مشاعره: (أنا، حبيبتك كاكيا، أجمل غادات هيلاس ومفتحة الورود في خدود العذارى، أضع قلبي وجسمي بين قدميك يا هرقل العزيز، مطية إلى الفردوس التي تجد فيها ما شئت من نعيم وما تمنيت من لذة. . . فاتبعني اجعل الدنيا كلها من حولك سعادة، وأصير طريقك أني ذهبت في الحياة منضورة بالورد، زاهرة بالرياحين. . . هلم ألي نحي حياة كالحلم، بعيدين من عناء العالم، نائمين عن شقاء الدنيا، لانفتح عينينا إلا متعة، ولا نرهف سمعينا إلا لموسيقى، ولا نغلق قلبينا إلا على نعيم. . .
مالك ولشد اربداد وجه الحياة يا حبيبي هرقل؟ إن الدنيا فرصة سانحة فانتهزها، وان العمر قصير ألا تلق به بخوراً في نار البأساء، وأن الأيام لتخب بنا دون أن نشعر بها، فلم نحاول أن نلبسها بالجد فيها هذا اللبوس الأسود الحزين القاتم؟ ولم لا نرسلها في وشي وافواف، لم لا نسمع دائماً لما توحيه ألينا قلوبنا ونفوسنا ما دامت الدنيا مخلوقة لها؟ لم تطرق هكذا يا حبيبي؟ أمتعب أنت؟ هات رأسك إذن، ودعه ملقى على صدري الجميل الخصب. . .)
ولكن الفتى نفر نفرة بادية، وأرسل نظرة فاحصة إلى (اريتيه)، الفتاة الأخرى، التي كانت تقف عن كثب، مصغية إلى حديث كاكيا، مشفقة على الشاب المسكين. أما اريتيه هذه فربة الفضيلة، ونفحة السماء، وهادية البشر ومنقذتهم من شرور كاكيا. . .
وسألها هرقل: (وأنت أيتها الفتاة، بم تشيرين؟) وقالت اريتيه، وهي تكفكف عبرة غالية: (انا؟ لا أشير عليك بشيء أيها الصديق إلا بالحذر من هذه الغادة! أنها توشك أنا تظلك وترديك!) فغضبت كاكيا وأخذها الحنق، وأجابت في غلظة ومخاشنة: (أضله وأرديه؟ هاها. . . وأنت أتسلكين به سبيل الفضيلة الذي زرعت أرضه قتاداً، وبرزت فيها أنياب الذئاب؟ اسمع يا هرقل، أصغ ألي يا حبيبي، دعك من هذه الفتاة المحتشمة. . إليك عنها. . . إنها تغطش حياتك لو تبعتها. . .)
وتبتسم اريتيه ابتسامة هادئة وتقول: (أن الآلهة يا هرقل قد زودتك بهذه القوة الكامنة في بنيانك لغرض أسمى من جميع الأغراض الحيوانية، وقد كان أجدى للخير العام أن تخلق ثوراً ذا خوار من أن تودع كل هذا الحديد في عضلاتك، لو لم تكن قد أعدتك لفعال جسام لن يؤديها غيرك. اجل! أن طريقي لا ينمو بها غير الشوك، وأنها تدمي الأقدام وتجهد السائرين، ولن ترى فيها زهرة ولا ريحانة، بل لن تسمع بها عصفوراً يغني ولا بلبلاً يغرد، وبالعكس، قد تقتتل فيها مع السباع والضواري والثعابين، ولكنك في أخر كل نصر، وعقبى كل ظفر، ترى جنة من الرضى تحفك بالزهر، وترقص بين يديك بالغواني والقيان. أما هذه. أما ما تغريك به هذه الأنثى الهلوك، ففيه حتفك، فحذاري. وليس احب إليك كرجل كان له الشرف أن يكون ابن إله من أن تثبت للإله انك جدير بما انتدبتك له)
وسكتت اريتية ولكن كاكيا لبثت تدل وتتيه وتتبرج تحاول الفوز بهذا القنص العزيز. غير أن نخوة الرجولة ثارت في قلب هرقل فانتهر الغانية الغاوية واغلظ لها ثم تقدم إلى اريتية فتناول يدها الصغير الحلوة وطبع عليها قبلة تفيض وقاراً واحتراماً ثم قال لها بصوت متهدج خافت: (هلمي بنا يا فتاة فلن أخشى في سبيلك بأساً ولا رهقا)
وانطلقا. . . وغابا في ظلام الغابة. . .
ولم يبرح هرقل معينا للضعفاء مغيثاً للملهوفين إذا رأى مظلوماً انتصف له من ظالمه وإذا لقي جائعاً نزل له عن زاده؛ ولم يبرح ينصر الفضيلة أنى سار، ولم تبرح الفضيلة تمشي في أثره أيان، ولى حتى ضاقت الدنيا بحيرا ولم تعد تحتمل هذا الغار من المجد يكلل هامة خصمها العظيم، ولاسيما بعد أن اتصل بالملك كريون ملك طيبة وزواجه من ابنته الجميلة ميجارا
لقد أحب هرقل زوجته حباً جما وأحبته هي كذلك وأخلصت له وكانا يذهبان إلى الغابة القريبة يتناجيان نجوى الحب ويرشفان كؤوس الهوى ويعودان مع الأصيل فيسامران الملك الشيخ ويدبران معه أمور المملكة. ثم مكرت حيرا مكرها!. . .
لقد صممت على أن تسلب هرقل رشده وتتركه يهيم في الأرض ينطح برأسه الصخر كما يفعل الضلال المجانين. فبينما كان غاراً في أحلام السعادة إلى جانب زوجته آمنين مطمئنين إذا حيرا الآثمة تندس في ظلام المخدع وتنفث سحرها الفظيع في أذني هرقل وتمضي لشانها فتختبئ في الحديقة خلف دوحة كبيرة من دوح الشاهبلوط. . . وتنظر ثمة ريثما يصحو الزوج المسكين فتشهد المأساة التي تتفزع من هولها الأرض وتميد الجبال!. . .
وأشرقت الشمس!
واستيقظ هرقل ونهضت ميجارا ولكن ناراً كانت تقدح الشرر في عيني البطل! وزبداً حاراً كان ينقذف من فمه المخوف! وأصواتا كأصوات الشياطين كانت تدوي في رأسه الضخم. . .
والدم!. . .
لقد كان ينبثق من كل جارحة في جسمه الأرجواني فيصبغ اللحف والأرائك ويسيل على أديم الغرفة المغطى بالدمقس! وذعرت ميجارا وصرخت صرخات راجفة تدعو أباها. . ولكن هرقل المسحور ينتفض انتفاضة تزلزل أركان القصر وينقض على زوجته التعسة كأنه ضبع: (تعالي يا خائنة! أين كنت طيلة الليلة الفائتة؟ آه! أجل! كنت تتمرغين بين ذراعي عشيقك الجبان! الويل لكما! شرف هرقل تلغ فيه الكلاب!)
وبضغطة قوية من يديه الصارمتين على عنق الفتاة المنكودة يتركها جثة هامدة قرباناً لموت في عنفوان الصبا وضحية للردى في ريعان الشباب. . .
وانطلق يصرخ في ردهات القصر وهرول يزمجر في حنيات الحديقة ثم أطلق ساقيه للريح. . .
وفي قنة جبل تزمزم الأعاصير في جنباته جلس هرقل المسكين ليثوب إليه رشده وليذكر أنه قتل زوجته المحبوبة في نوبة جنونية فينشج ويبكي. .
وتكون غمامة فوق رأسه تظله من وهج الشمس فتنشق عن آله كريم هو هرمز رسول السماء، حمل إلى هرقل تلك الإرادة الأولمبية القاسية التي أصدرها زيوس، متأثراً بإلحاح زوجته الآثمة حيرا التي تقضي أن يظل هرقل في خدمة ابن عمه يوريذوس اثني عشر شهراً يصدع خلالها بما يؤمر!
- (لقد كان عليك أن تظل في خدمته بضع سنين ولكننا ألحفنا على رب الأرباب فقصر المدة وأختزلها إلى ما ترى!)
(يختزلها أو لا يختزلها، لقد أصبحت الحياة سجناً بدون ميجارا!)
- (عليك بالصبر يا صديقي، فقد تفيدك طاعة الإله. . .)
- (الإله التي لا تحسن عملاً غير هذا العبث!)
- (صه صه. . هلم إلي يوريذوس، وستكون حراً بعد سنة واحدة. . .)
وجن جنون هرقل لهذا القضاء الأولمبي الأعمى، وفر من هرمز في مسارب المياه، ولجأ إلى الوحوش يلتمس لديه الصبر الجميل والقلب الرحيم؛ ولكنه عبثاً حاول الفرار مم كتبت السماء عليه، وهنا، بدت له صديقته ربة الفضيلة أربيته، فنصحته، ولم تزل به حتى أقنعته بخدمة يوريذوس، فذهب إليه كسير القلب مهيض الجناح، وكان جبلاً من الهم والسخط مستقر على رأسه
وقال له يوريذوس: - (وأخيراً وصلت إلي آخر الدرب يا هرقل!. . . إن أمامك أموراً فأعد لها عدتك، فما أحسب دموعك على ميجارا بمجدية عليك شيئاً. . . .)
وحدجه هرقل بنظرة يشتعل فيها الغضب وقال له: (أجل؛ لقد وصلت أخر الدرب. . ولكن ليس لك شأن بدموع أذرفها من أجل ميجارا. . . ألا فاذكر حاجتك التي أرسلتني الآلهة لأقضيها لك، وأقصر!)
وضحك يوريذوس حتى كاد الرعد يخرج من بين شدقيه، وقال: (حاجتي! إن لي لحاجات ما أحسبك تستطيع قضاء واحدة منها. وكيف تصبر مثلاً على سبع نيميا الذي يقطع الطريق إلى غاباتها ذات الكنوز والأذخار؟)
وقال هرقل: (سبع نيميا أو ألف سبع كسبع نيميا، عليك أن تكلفني ولو بهدم السماء أفعل ما تكلفني به. . والآن، أإذا جئتك برأس هذا السبع أكون طليقاً؟)
- (تكون طليقاً؟ إن أمامك اثنتي عشرة مسألة، رأس سبع نيميا أولها وأيسرها يا هرقل، فهلم إذن، وسنرى. . .)
(لها بقية) دريني خشبة