الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1011/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 1011/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 1011
الأدب والفن في أسبوع
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 11 - 1952


للأستاذ أنور الجندي

الأدب الرمزي

يزور مصر الآن السيد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية علماء الجزائر. وقد اجتمعنا به ندوة الشورى مع طائفة من الشخصيات العربية والمصرية منها السيد القضيل الورتلاتي والكولونيل عبد الله التل والسيد الوزاني الزعيم المراكشي والأستاذ الشافعي اللبان والسيد محمد علي الطاهر صاحب الشورى ودار الحديث حول ما تقوم به جمعية علماء الجزائر من نشاط في سبيل نشر العلم والثقافة بالوسائل الشعبية في الجزائر، وقال السيد الإبراهيمي إن هناك 400 مدرس هم مجندون لتثقيف الشعب، وإنهم أشبه بالعباد المتجردين في سبيل أداء هذاالواجب المقدس

ومما يذكر أن جمعية العلماء التي أنشأها السيد علي عبد الحميد أبن باديس وخلفه على قيادتها السيد الإبراهيمي بعد وفاته، هي إحدى الدعامات الضخمة القوية التي أفزعت الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا وأقضت مضجعه

فقد عملت هذه (الحركة) منذ فجر نشأتها على مقاومة البدع التي انتشرت في المغرب وأعان عليها الاستعمال، ودعت إلى العودة إلى الإسلام في متابعة الأولى؛ ووقفت للطرق الصوفية بالمرصاد على أساس أنها مصدر الشر والستار الذي يخفي خلفه الاستعمار ويتخذ منه سبيله إلى تفسير بعض الآيات القرآنية التي تدعو إلى طاعة الله ورسوله وأولي الأمر تفسيرا خاطئا

ولقد تطرق الحديث إلى (الوسائل) التي يستطيع بها رجال جمعية العلماء إعلان آرائهم دون أن يقف الاستعمار في وجههم، فقال لنا السيد البشير الإبراهيمي إن الأدب الرمزي هو الوسيلة الوحيدة لهذا وإنه قد ابتدع لونا من فنون الأدب هو (سجع الكهان). . . استطاع عن طريقه أن يفصح عن كثير من آرائه الجريئة الحرة في الكثير من المسائل والأشخاص. وكانت جريدة البصائر التي تصدر في الجزائر ميدانا لهذا اللون الجميل من الأدب

وقد روى لنا أكثر من أرجوزة من هذا السجع، صور فيها رأيه من كثير من القض العربية والإسلامية ما كان من المستطاع الإشارة إليها عن طريق الكتابة العادية

وليس من شك أن اللغة العربية كانت خلال حياتها الطويلة ظهيرا لأصحاب الآراء الحرة في إذاعة آرائهم وتسجيلها عن طريق الأدب الرمزي في الأوقات التي كان يحال فيها بين الأحرار وبين إعلان آرائهم عن طريق الكتابة الصريحة. .

وليس قصائد اللزوميات التي أنشأها المعري، وليست رسالة الغفران والفصول والغايات جميعها إلا من هذا الأدب، وقد كان صاحبها لا يستطيع أن يقول للناس كل شيء في صراحة فكان يضمن شعره هذه المعاني ويدعها ليفهمها من يفهمها على الوجه الذي يريد

وليس كتاب البخلاء وغيره من آثار الجاحظ إلا (أدبا رمزيا) قصد به الجاحظ إلى تصوير بعض الشخصيات التي كانت تعيش في عصره، لم يكن يستطيع أن يجهر بهجائها وإعلان الخصومة لها فوجد في هذا الأدب الرمزي كثيرون من الكتاب في عصرنا الحديث في مقدمتهم الدكتور طه حسين وهو يقول في مقدمة كتابه (المعذبون في الأرض) الذي صدر أخيرا

(هذا الأدب الجديد الذي أنشأته حكومات الطغيان إنشاء حين اضطرب الكتاب إلى العدول عن الصراحة إلى فنون من التعريض والتلميح. ومن الإشارة والرمز، حتى استقل هذا الأدب بنفسه وتنافس القراء عليه تنافسا شديدا، وجعلوا يقرءون ويؤولون، ويناقش بعضهم البعض في التأويل والتحليل واستخراج المعاني الواضحة من الإشارات الغامضة. وأنظر إلى ما نشر صاحب هذا الكتاب من جنة الشوك وجنة الحيوان، ومرآة الضمير الحديث، وأحلام شهرزاد فلن ترى ألا رمزا لمظاهر كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود: فكنا نؤثر الغموض على الوضوح، والرمز والألغاز على تصريح، والإشارة والتلميح على تسمية الأشياء بأسمائها وكانت حكومات ذلك العهد ورقابتها تقرا فلا تفهم فتخلى بين الكتاب وما يكتبون، وتخلي بين القراء وما يذاع فيهم من ذلك الأدب الجديد)

اللهجات العربية

ومما دار من حديث في ندوة (الشورى) ما أثاره الأستاذ الشافعي اللبان من أنه كان خلال فترة الصيف في جينيف لا يفهم كثيرا اللهجات العربية المغربية، ومما قاله في هذا أنه استمع إلى بعض أهالي المغرب وهم يتحدثون، فوجد أنه لا يستطيع أن يفهم منهم كثيرا مع أنهم يتكلمون باللغة العربية وكان يسأل في هذا السيدين الوزاني والفضيل

وقد أجاب الأستاذ الفضيل على هذا بأن في اللغة العربية كلها حوالي 150 كلمة هي التي تحول دون فهم أهالي البلاد العربية بعضهم بعضا وهي ليست كلمات عربية بالطبع، وإنما هي كلمات عامية أو لهجات

وبينما يعتبر المغربيون أنفسهم يتكلمون اللغة العربية الخالصة، لا يجد المصريون الذين هم في مثل ثقافة الأستاذ الشافعي اللبان قدرة على فهم الكثير من أحاديث أهل المغرب، ومثل هذه المشكلة تقع بالنسبة للمغربي والشامي أو بين المصري والعراقي

ومما قاله السيد الفضيل الورتلاني: أنه أحصى أثناء أقامته في بيروت حوالي 60 كلمة (لبنانية - سورية) هي الحائل بين فهم المغاربة للهجات الشوام. وكذلك في لغة المغاربة حوالي 40 كلمة؛ فلو أن كتابا وضع في بيان هذه الكلمات وشرحها والتقريب بين المتشابه منها في اللهجات المختلفة لامكن تضييق شقة هذا الخلاف اللغوي ولأصبح العراقي مفهوما في المغرب والمغربي مفهوما في مصر

محمد فريد (المؤرخ)

في الأسبوع الماضي، كان موعد ذكرى محمد فريد (قديس الوطنية المصرية) كما أطلق عليه ذلك الأستاذ عبد الرحمن الرافعي المؤرخ الكبير، وفريد خليق حقا بهذا اللقب فقد ضحى في سبيل بلاده بكل شيء وكان علما خالدا على التضحية في تاريخ مصر والشرق جميعا

. . . ولكن (محمد فريد) يدخل في هذه الصفحة أيضا من باب الأدب، فقد كان كاتبا من أعلام الكتابة والبيان، ومؤرخا غاية في القوة والتثبت والوضوح وهي أبرز علامات الكاتب الناضج والمؤرخ المنصف

حدثني أول أمس الأستاذ محمد علي الطاهر المجاهد العربي وصاحب الشورى، وقد رأيت معه كتابا ضخما يعني بتجليده، وتغليفه ويبذل في ذلك جهدا كبيرا؛ فلما سألته عنه قال هذا كتاب قرأته في خلال ثلاثين عاما، مرتين. . وأنا أقراه اليوم للمرة الثالثة

قرأته سنة 1922 في طبعته الأولى وسنة 1935 في طبعته الثانية وأنا اليوم إقراء طبعته الثالثة، إنه كتاب الدولة العثمانية الذي آلفه قديس الوطنية المصرية محمد فريد وهو من أوفى الكتب التاريخية في هذا الباب

وذهب الأستاذ الطاهر يصور الكتاب ومؤلفه في صورة رائعة حية، تدل على مدى تقديره لهما

وإذا ذهبنا اليوم نسأل عن محمد فريد في محيط الحياة المصرية لم نجد له اثر! فها هي ذكراه تمر، لم يكتب فيها ألا فصل واحد في جريدة اللواء الجديد

وإذا أخذنا ننظر إلى مجموعة التماثيل المنثورة في أنحاء القاهرة لم نجد بينها مع الأسف تمثالا لهذا الزعيم الوطني، بينما نجد تماثيل لآخرين كانوا ولا شك أقل منه وطنية وبطولة وتضحية

وإنا لنرجو في هذا العهد الجديد أن يتاح لهؤلاء الأبطال أن يستردوا ما فقدوه خلال عهود الظلم القديمة. . . من مكانة هم جديرون بها وخليقون أن يوضعوا فيها بعد أن اعتدلت الموازين

أنور الجندي