الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1009/في توديع الرئيس ترومان

مجلة الرسالة/العدد 1009/في توديع الرئيس ترومان

بتاريخ: 03 - 11 - 1952


تمثال البيت الأبيض

الدكتور علي شرف الدين

في البيت الأبيض - حيث يقيم الرئيس ترومان - أبدع ما أخرج الفن الحديث من معجزاته الروائع، فيما يرى الناظر من التماثيل القائمة في مداخل القصر وحدائقه، وفي أبهائه وتحت شرفاته. طراز جديد من فن المثالة الحديثة، يكاد يسبق هذا الآيات الخالدة التي حفظها لنا التاريخ عن أيدي الإغريق. وإذا كانوا يقولون أن الفن الإغريقي قد سبق الطبيعة، وكأنه في سبقه لها، وتجاوزه لصورها، يقيم لها مثالا يتحدث إليها في صمت: بأنه كان يجب أن تكون على غراره - فإن تماثيل البيت الأبيض لا توحي بهذا إلى النفس فقط، ولكن كل واحد منها ينطق مفصحاً عما يريد، حتى ليرن صدى صوته في الأذن، وحتى لتكاد أسارير وجهه تأخذ بين الفينة والأخرى مسحة جديدة تعبر عن عواطفه، وحتى ليكاد الرائي يسمع خفقات قلبه بين ضلوعه الصخرية الجامدة.

وهم يقولون أن الرئيس ترومان كثير النظر إلى هذه التماثيل طويل الوقوف إلى جانبها، وإنه - على أن السياسة تأخذ حياته من أقطارها - له لحظات يخلو فيها إلى الفن، حيث تسبح نفسه إلى عالم الخيال ساعة من نهار، وإن انغمست بقية يومها في متاعب الدولار.

ولعل أبلغ هذه التماثيل أثراً في نفس الرئيس ترومان، هو تمثال الوطن، وهو يتألف من صخرة طبيعية قد اتخذ المثال من جانبها الممتدين في أنحاء درجاً يصعد يمنة ويسرة، حيث يلتقيان عند سطح مستو ينهض فيه تمثال أم حنون، تستقبل أطفالها عند الغروب، وهم يصعدون إليها في جانبي الدرج متدافعين متعثرين، ولكن جباههم على تعثرهم تتجه نحو الأم دائما، بينما تمد الأم يديها نحو الجانبين جميعا، لا يليها أحد عن الآخر، في إقبال كله العطف والرحمة والوفاء.

قالوا أن الرئيس ترومان قد ألف الوقوف إلى جانب تمثال الوطن، وإن جواره للتمثال أمر لا مفر منه في حياته اليومية لأنه تمثال الوطن - مع أنه يقع خلف البيت الأبيض وفي جانبه لذي تكاد أبوابه تغلق طوال العام - هو طريق وحيد يدلف منه المار إلى ربوة صناعية تحتشد فيها مواكب من الزهر النادر؛ تآزر فيها جمال الطبيعة مه ألوان التط الصناعي، يختلف إليها الرئيس من حين لآخر، ينشد عندها نشاط نفسه وإشراقها، كلما أرهقتها مظالم الحضارة.

ولكن المتصلين بالرئيس ترومان قد رأوا منه ما أثار الدهشة في نفوسهم. فقد أخذ وقوفه إلى جانب التمثال يقصر عن ذي قبل، ولم يعد سكونه إليه يحفه هذا الحلم الجميل يشيع في أقطار نفسه، ثم يستحيل في جبهته وعارضه ضياء مشرقاً. لم يعد سكون الأحلام والطيوف، ولكنه ذهول عميقتكتسي فيه صفحة وجهه فنوناً من الألوان تضطرب دائماً بين الشحوب والسواد. ولم يمض غير يسير من الزمن حتى هجر الرئيس تمثال الوطن، ولم يعد يختلف إلى هذه الربوة من النوار، يصطنع فيها ما يصطنعه الفنانون وأصحاب العاطفة، حين يقرءون كتاب الوجود في المروج والزهر. وللرئيس مع تمثال الوطن ما نسميه مجرى العادة المكبوتة - إذا صح التعبير - لا يكاد يتجه نحوه عن غير قصد، حتى يدور على عقبه في حركة عصبية لا تخلو من ألم، والتفاتة مفاجئة لا تخلو من حزن، وسرعان ما يجري في تضاعيف وجهه سحابة ليست هي الألم والحزن، ولكنها شيء أمر من النسيان تصرخ في جوانبها المغالطة، يضطرب فيها الرئيس أشد الاضطراب وأعنفه وقد خذله النسيان كلما مر بتمثال الوطن.

ويؤرخ المراقبون لحياة الرئيس اليومية هذه الحركة لا تخلو من حزن مرير يخالطه الألم والخوف واليأس جميعا بعام سنة 1948 بعيد خروج العرب من فلسطين عنوة، بأمر الرئيس ترومان وتدبيره، ويقولون أنه غالب شعوره في أول الأمر بفنون من رباطة الجأش المصنوعة، وضروب من الجمود لا تجديه فتيلاً، ومع أن الرئيس ترومان معروف بإصرار مرهق مبعثه الجمود، ومشهور بجمود طبيعي مبعثه الإصرار سواء في الحق أو الباطل. . . فإن جموده الطبيعي قد خانه في موقفه مع التمثال، فلا تكاد عينه تقع عليه حتى تمضي في أعصابه هزات عنيفة هي هذه الصواعق المهلكة من الحزن والألم والخوف جميعا، وحتى تمضي بنفسه خواطر صارخة قاتلة، تحمل في بروقها شريطاً متصل النكبات على نفسه الإنسانية، فيما يتمثل له في الجوع والعرى والبرد والفقر. . .

ولو أن ما تحمل الذكرى إلى نفس الرئيس ترومان كان مقصوراً على الفقر والعرى والجوع والبرد، لهان أمرها وغالب ضميره بشيء من الجمود هو فيه طبيعي، واستطاع أن ينسى إنسانيته في ساعات الذكرى، لأن الفقر والعرى والجوع والبرد هي محن مادية مهما بلغ أثرها، تصيب الجسم فتسبغ عليه النعمة والرقة، أو تذيقه الشقاء والألم. مصابه ليس إذن ماديا، ولكنه مصاب روحي يتجاوز هذه الكلمات اليسيرة فيما نسميه الظلم والنعرة والطغيان. مصابه أنه أوضح للخليقة، وكتب بيده في سجل التاريخ، أنه رجل لا يدرك ما معنى الوطن، ولا يستطيع أن يحس هذه الروابط المقدسة الحبيبة بين الإنسان ووطنه، على سهولة إدراكها، ويسر الشعور بها - حتى عند الحيوان - لأنها من أوليات الشعور.

أما لك أيها الرئيس منزل بالريف، ورثته عن (أبوك) مثلاً، متواضع أشد التواضع، حتى ما تحب أن تستقبل فيه ضيفك، ولكنه على تواضعه، وعدم أهليته لاستقبال الضيف تحب أن تراه من آن لآخر؟ فتهجر البيت الأبيض، وما أقامت لك في فيه أمريكا من مجد مغصوب زائف، إلى حيث هذا المنزل المتواضع، حيث تحس في قربك منه برد الراحة، يرد إلى نفسك الشفاء والعافية، وقد أثقلتها مظالم الحضارة، وحيث تشعر بجمال الصدق والبقاء على الوفاء في موطن هجرته إلى خير منه، فما تغير عليك إذا فارقته، ولا تنكر إذا هجرته، ولكنه ظل صادقا في استقباله لك، وفياً مخلصاً يحمل إلى قلبك خير الذكريات حتى أصبح جزءاً من حياتك، أو هو الحياة نفسها في أسمى معانيها الروحية.

لقد سمعت أن الدكتور فاضل الجمالي معنى أشد العناية بعرب فلسطين الذين طردهم ترومان عنوة من ديارهم قبيل الانتخابات (النظيفة) التي أعطته مكانه في البيت الأبيض. لقد عرض عليهم ترحيب البلاد العربية بقدومهم، وأنهم منها ومن صدور أبنائها في المكان الرحب الكريم، فماذا كان جوابهم؟ لقد أجابوا: لا نريد بغير وطننا بديلاً. ليس هناك جواب اصدق وأروع من جوابهم: (لا نريد بغير وطننا بديلاً). وإني أؤكد - وهم العرب الخلص - لو كانوا قد نشأوا في سبيريا وفي أصقاع الشمال الباردة، ما ألهتهم عروبتهم الخالصة عن نسيان وطنهم في سيبريا ذات البرد القاتل، ولكان جوابهم: نحن عرب، ولكننا لا نريد بغير وطننا بديلاً.

إن الشعوبية أو العصبية الجنسية لها أواصرها القوية، وروابطها المقدسة، ولكن روابط الأوطان تظل أبدا أقوى وآكد، لأن روابط الشعوبية تقوم على الدم واللغة وطراز الحياة، وهي في جملتها روابط روحية بحتة في جملتها وتفصيلها، إنها الروابط الرفافة ذات الإشراق بين الوطن وقلوب بنيه، تضيء وتضيء، وتلطف وتلطف، حتى تسبق في ضيائها ولطفها خواطر المتصوفة، وأروع ما فيها أنها قد تكون روابط ذكريات كلها دموع وشجن، ولكنها مع هذا حبيبة إلى النفس، وهي سلوتها في حياة تزدحم بالشرور واللام، ولكن من أين للرئيس ترومان أن يدرك هذه الروحيات؟

قل لي أيها الرئيس: ماذا يستطيع عرب فلسطين الذين أخرجتهم عنوة من وطنهم أن يصنعوا إذا أرادوا دعوة فيصل لزيارة وطنهم كما دعوته أنت لزيارة وطنك؟ ماذا يستطيعون أن يصنعوا وهم أحق منك بهذه الدعوة لأسباب كلها الصدق والوفاء: لأنه عربي مثلهم، ولأنه سيد شعب، وسليل بيت، وأثر نبوة. فهم حين يدعونه إنما يقيمون دعوتهم على دعائم كلها المودة والصدق الخالص الصريح. وأغلب الظن أنك ما دعوته إلا بعد أن أمسكت بقلم الحاسب الذي يعتمد على الأرقام والأعداد من يدري؟ لعلك قد خرجت من هذه (الحسبة) بنتيجة خاطئة، فتوهمت أنها قد تعطيك (جالونا) من بترول العراق!

من سوء حظ العرب أن يموت روزفلت، وقد نهضوا لاسترداد حقوقهم. لقد كان روزفلت رجلاً جهيد الجسم، ضخم الأعطاف، بعيد المناكب، ومثل هذا الجسم الكريم هو صورة لكوم النفس وسخائها وتأثرها، وهو إذا جاع أو برد كان إحساسه بالجوع والبرد أسرع وأبعد من غيره من الأجسام الضنينة، لأن الشعور بالحاجة في الجسم الكريم السخي أكثر منه في الجسم البخيل بأصله، الجائع بطبعه. والرئيس ترومان له جسم ككل الأجسام، ولكنه ضنين بخيل. وهو في بخله وضنه ليس على استعداد لان يحس الجوع والبرد - فضلاً عن أن يحس الحزن لفقد الوطن - لأنه جسم جائع من قبل أن يناله الجوع، بارد من قبل أن يصيبه البرد. ومهما بلغ الجوع والبرد من الشدة فلن يكون لهما أثر ملحوظ في جسم ينقصه الشبع، ونفس ما عرفت الوفاء، وماذا يصيب الفقر من الفقير؟

عقب تولي الرئيس ترومان سأله كثير من الصحفيين: (أما يفكر الرئيس في أن تقبل الولايات المتحدة استقبال بضعة آلاف من يهود أوربا؟ - وكان ذلك قبل أن ينفذ نيته التي بيتها للعرب - وكان جواب الرئيس: (نه لا يفكر الآن في تغيير قوانين البلاد. . .).

إنه لا يفكر في تغيير قوانين بلاده الموضوعة، فهو يحترمها ولا يأذن بالهجرة إليها على ثروتها واتساعها. ولكنه يفكر في إخراج الناس من أوطانهم لقاء أصوات الناخبين من اليهود!

حين تولى الرئيس ترومان ذكرت بعض الصحف حديثاً لكاتب يصف فيه الرئيس الجديد بهدوء الأعصاب، ورباطة الجأش، وقد بالغ الكاتب في وصفه حتى قال: إنك لو ضربته بقبضة يدك على أرنبة نفه على حين غفلة منه ما تحرك هدب عينيه. .) وقد تكون قوة الأعصاب محمودة في الرجال عند الحوادث التي تصيبهم، أما الرباطة والهدوء في كوارث ينسجون لغيرهم حوادثها، ويعقدون فيها المؤامرات فليس ذلك مما قصد إليه الكاتب، لأن فرقاً واضحاً بين الرباطة والقسوة، وبين الهدوء والجمود، وبين قوة الأعصاب والبلادة، وإذا كانت السياسة تقوم على الخدعة والمناورة، فليست (الثعلبة) من معانيها في أي قاموس إنساني، يصطنعها الأقوياء للسرقة والسطو، فإن كانت السرقة عنوة وفي النهار الضاحي من معانيها، فهي ليست لسياسة إذن، ولكنها صناعة الوحل، وإن سماها الظالمون (حق المهنة).

قالوا أن جماعة من خلصاء ترومان سألوه وألحفوا في السؤال (ما بال الرئيس لم يقدم في الانتخاب الحاضر لرئاسة الجمهورية المتحدة؟) وظل الرئيس ساكتاً لا يجيب، مع إلحافهم وكثر سؤالهم، وظل الجواب مجهولاً، حتى عند الخاصة من خلصاء ترومان، حتى أبصره خدم البيت الأبيض في لحظات خاطفة يهرع إلى تمثال الوطن، يطيل النظر فيه، وتجري في لسانه مناجاة خافية مضطربة، يتهدج في خلالها صوت جريح مخنوق: (يسألونني: لماذا لم أتقدم في الانتخاب الحاضر لرئاسة الدول المتحدة؟ لأني لم أعد أحب أن أكون رئيساً في انتخاب ملوث أشتري فيه أصوات الناخبين بأوطان الناس).

(باريس)

علي شرف الدين