الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1009/الميسر والأزلام

مجلة الرسالة/العدد 1009/الميسر والأزلام

بتاريخ: 03 - 11 - 1952

1 - الميسر والأزلام

للأستاذ عبد السلام محمد هارون

هذه الحكومة الرشيدة التي جاد بها الدهر وهو الضنين بأمثالها، هذه الحكومة التي ثارت ونهضت لتصرع البغي وتقضي على الفساد، وخطت في ذلك الخطوات الواسعة السريعة، جدير بها أن تسرع الخطى إلى مفسدتين استشرى داؤهما وكاد يقضي على البقية من الخلق والدين، هاتان المفسدتان هما: الخمر والميسر.

(ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) (البقرة 219).

(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (المائدة 90).

(إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) (المائدة91).

فهذه الآيات القرآنية التي تقرن الخمر بالميسر، وتجمع بينهما في شرورهما وآثامهما، وخضوعهما للشيطان وقى الإفساد، هذه الآيات لا ريب أنها ستجد من أولي الأمر فينا آذانا صاغية، وإصغاء واعيا لأمر الله وأحكام دينه.

وقد بادرت حكومتنا فاتجهت في سبيل سن العقوبات الرادعة لمدخني (الحشيشة) والاتجار بها، وليست الخمر والميسر بأقل في أضرارهما المادية والخلقية والصحية والاجتماعية والسياسية من (الحشيشة). فعلى موائد الشراب والقمار تضيع الأموال، وتفسد الأخلاق، وتعتل الأبدان، وتنحل الروابط الاجتماعية، ويتسلل العدو إلينا فيما بين ذلك غانما رابحا. وقد قرأنا في أثناء ثورة الشعب الأخيرة أن الأموال تتدفق من المصريين إلى خزائن الدول الأجنبية ثمنا للخمور يزيد على خمسة ملايين من الجنيهات كل عام.

حقاً إن الدولة قد حظرت لعب الميسر على موظفيها، ولكن موظفيها ليسوا كل شيء في الدولة، فإن الميسر يأخذ صوراً شتى صغيرة في مقاهي القرية والمدينة، ويبتز أموال الفقراء الكادحين، ويوقع العداوة والبغضاء إيقاعاً يترجم فيما بعد بالقتل وسفك الدماء وارتكاب كثير من جرائم السرقة والسطو والاغتصاب، فأولى بالحكومة أن تعمم تحرمه فتقطع بذلك دابر أجناس شتى من جرائم الأخلاق وجرائم النفوس.

هذه الرغبة الاجتماعية لدعاة الإصلاح في هذا البلد هي التي أوحت إلى أن أكتب هذا البحث الديني التاريخي، الأدبي اللغوي، الذي رأيت حوله ظلاماً أردت تبديده، ورأيت أن لدى الكثير من الأدباء رغبة في تجليته وإظهار أسراره، فإن قليلاً من الباحثين هم الذين تعرضوا للكلام على الميسر، ومن هؤلاء القلة:

1 - برهان الدين البقاعي، المتوفى سنة 885 كتب في تفسيره المسمى (نظم الدرر، في تناسب الآي والسور) فصلا كبيرا ممتعا، وقد أفرد المستشرق السويدي (لندبرج): , , يسمي نفسه (عمر السويدي) وطبعه في مجموعة (طرف عربية) في ليدن 1303 وسماه (لعب العرب بالميسر في الجاهلية الأولى) وتشتمل الطرفة الأولى على أربعة مؤلفات عدد صفحاتها 191 وفيها هذه الرسالة، ورسالة أخرى هي (رسالة التنبيه، على غلط الجاهل والنبيه) لابن كمال باشا. والثالثة (نشوة الارتياح) للسيد مرتضى الزبيدي. والرابعة (ديوان أبي محجن الثقفي) رواية أبي هلال العسكري.

2 - السيد مرتضى الزبيدي، شارح القاموس، المتوفى سنة 1205، ألف في ذلك رسالة سماها (نشوة الارتياح، في بيان حقيقة الميسر والقداح) ضمنها شرح عبارات البقاعي، مع إيضاح ما أغفله.

3 - العلامة السيد محمود شكري الآلوسي، كتب فصلاً مسهباً في الجزء الثالث من كتابه (بلوغ الأرب). وقد صنف في ذلك أيضا كتابا سماه (المسفر، عن الميسر) وهو مخطوط لم يتسن لي أن أطلع عليه.

4 - ابن سيده الأندلسي المتوفى سنة 458 كتب فصولا لغوية في الميسر والأزلام، في المخصص (13: 20 - 23).

5 - وهو أهم أثر تاريخي يعتمد عليه، لقدم عهده وجلال مؤلفه، وهو كتاب (الميسر والقداح) لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213 - 276) الذي نشره الأستاذ المحقق السيد محب الدين الخطيب، الذي أدين له بفضل اتجاهي إلى جهاد النشر العلمي، حفظه الله وأبقاه.

وترجع أهمية هذا الأمر التاريخي إلى الطريقة العلمية التي نهجها ابن قتيبة، وهو استقراء الآثار العربية الأدبية، لاستخلاص هذا البحث النادر، على قلة ما وصل إلينا من تلك الآثار التي يذكر فيها الميسر، وفي ذلك يقول ابن قتيبة مخاطبا من كلفة تأليف الكتاب:

(قد كلفت رحمك الله شططاً، وحاولت عسيراً، لان الميسر أمر من أمور الجاهلية قطعه الله بالسلام، فلم يبق عند الأعراب إلا النبذ منه اليسير، وعند علمائنا إلا ما أدى إليه الشعر القديم، من غير أن يجدوا فيه أخباراً تؤثر، أو روايات تحفظ، والشعر يضيق بالأوزان والقوافي عما يتسع له الكلام المنثور. على أني لم أجد في أشعارهم شيئا في جلالته عندهم وعظيم نفعه، هو أقل منه، إنما يعرض في شعر المكثرين من ذكره البيتان والثلاثة، وأكثرهم يضرب عنه صفحا. وليس ذلك مذهبهم في وصف الإبل والخيل والحمير، والنعام والظباء والقطا، والفلوات والحشرات. ولم أجد فيهم أحداً ألهج بذكر القداح من ابن مقبل، ثم الطرماح بعده. ولو جمعت ما في شعر أحدهما من ذكره لم تجد ما فيه من وصف حمار أو بعير).

فمن هذا يتضح مقدار الجهد الذي بذله ابن قتيبة، وكشف به الدستور الذي كان يتبعه العرب في الجاهلية في لعب الميسر

على أن ابن قتيبة كتب هذا البحث بلغة معاصريه، وقارب منهجهم الذي لا يسوده النظام الكامل، ويشيع فيه الاستطراد والحشو.

وني لمحاول هنا أن أبسط البيان في هذا بلغة معاصرة، وبأسلوب أحسبه منظماً، راجعاً في ذلك إلى شتى المصادر التي تعين في هذا البحث الشاق الوعر، وبالله التوفيق.

لفظ الميسر ومدلوله

لا ريب أن عرب الجاهلية كانوا يطلقون لفظة الميسر غالباً على المقامرة بالأقداح لاقتسام الجزور بطريقة خاصة نذكرها فيما بعد، وهو ما يعبر عنه أبو حيان في تفسيره بأنه (قمار أهل الجاهلية).

فالميسر على هذا مصدر ميمي، كالمرجع من رجع، والموعد من وعد.

ويطلقون الميسر أيضا على الجزور نفسه، فهو اسم موضع من اليسر، بفتح الياء، واليسر: التجزئة، ولذلك سموا الجازر ياسرا لأنه ييسر اللحم ويجزئه.

قال غبن قتيبة: (هذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح المتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم أيضاً جازرون، إذ كانوا سببا لذلك، وكان الجزور إنما يقع بضربهم، والجازر يفصل اللحم لهم بأمرهم. وكل من يأمر بشيء ففعل فهو الفاعل له وإن لم يتوله بيده). فالإطلاق الأول إطلاق مجازي، والإطلاق الثاني هو الإطلاق الحقيقي.

وقد ذهب مقاتل إلى أن اشتقاق (الميسر) من اليسر، لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة، من غير كد ولا تعب.

وقال الواحدي: إنه من قولهم يسر لي هذا الشيء ييسر يسراً وميسراً، إذا وجب.

وقال أبو حيان في تفسيره: إن السهام التي يقتسم بها يقال لها أيضا (ميسر) وذلك للمجاورة. والوجه فيما ذكره أبو حيان أن يقال إن مجازها من أنها آلة الميسر.

على الإسلام فيما بعد أطلق (الميسر) على جميع ضروب القمار.

1 - روى عن النبي ﷺ أنه قال: (إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم). فقد جعل رسوله الله ﷺ لعب (النرد) ضربا شبيها بميسر العرب في اقتسام الجزور. والكعبة في هذا الحديث هي الفص من فصوص النرد، يقال له (كعب) و (كعبة) أيضاً.

2 - وفي الحديث أيضاً أنه (كان يكره الضرب بالكعاب).

3 - وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء: (كل شيء فيه خطر - وهو ما يأخذ الغالب في النضال والرهان ونحوهما - فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز).

ولا يزال اللعب بالجوز ونحوه من البندق والفول السوداني وقصب السكر متعارفا بين صبياننا إلى هذا العهد، يزاولون لك بطرق مختلفة.

فالتابعون والفقهاء قد ألحقوا بميسر الجاهلية كل ما يمت إليه بسبب من مختلف ضروب القمار، قاسوا هذا بذاك، ولم يستثنوا من ذلك شيئاً إلا السبق في الخف والحافر. قال الفخر الرازي: (أما السبق فبالاتفاق ليس من الميسر، وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه).

وأما الشطرنج والنرد ونحوهما فكراهتهما لما فيهما من شبهة القمار. قال الفخر: (قال الشافعي: إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان، والصلاة عن النسيان، لم يكن حراماً). قال: (وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك فلا يكون قماراً ولا ميسراً).

وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، فمنه النرد والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار وهو ما يتخاطر الناس عليه.

وقال ابن قتيبة بعد أن ذكر الميسر الذي حرمه الله في الكتاب، وهو ضرب القداح على أجزاء الجزور قماراً: (ثم يقال للنرد ميسر على التشبيه، لأنه يضرب عليها بفصين كما يضرب على الجذور بالقداح، ولأنهما قمار كما إن الميسر قمار، ولا يقال للشطرنج ميسر ولا من الميسر، لأنها فارقت تلك الصفة وتلك الهيئة إنما هي رفق واحتيال).

ويفهم من هذا النص إما أن لعبة الشطرنج في عصر ابن قتيبة لم تكن مجالا للمقامرة، أو خفي على علمه أن لاعبيها كانوا يقامرون عليها، ولكن معرفته بأن النرد كان مجالا للمقامرة يرجح أن الشطرنج لم تتخذ في عصره موضعا للمقامرة.

وكان القوم ينفرون من الشطرنج ولاعبيها نفوراً شديداً. روى الراغب الأصفهاني أن أهل المدينة كانوا ينظرون إليه من نقص دينه، ولأنهم كانوا يزعمون أن الشطرنج (إحدى الضرتين)، وذلك لما يشغل صاحبه شغلا عن أهله وبنيه.

لفظ القمار ومعناه

والقمار لفظ أعم من الميسر، إذ يطلق على جميع أنواع المراهنة. يقال: قامره مقامرة وقماراً، إذا راهنه؛ وقمره قمراً، إذا غلبه في ذلك. وفي حديث أبي هريرة: (من قال تعال أقامرك فليتصدق بقدر ما أراد أن يجعله خطراً في القمار). ويقال تقمر الصياد الظباء والطير بالليل، إذا صادها في ضوء القمر فتقمر أبصارها في ضوئه، أي تعشى وتتحير فتصاد. والتقمر: الاختداع. فمرجع القمار إنما هو الخداع. وكذلك يفعل لاعب القمار، فإنه يحاول إختداع صاحبه لتكون له الغلبة عليه.

لفظ الأزلام ومعناه

والأزلام جمع زلم بالتحريك وبضم ففتح. والزلم، والسهم، والقدح بالكسر مترادفة المعاني، تدل كلها على قطعة من غصن مسواة مشذبة.

وأكثر ما يستعملون (الزلم) في (الاستقسام)، وهو ما سنفرد له قولا خاصاً. وأكثر ما يستعملون (السهم) في سهم القوس الذي يرمى به، وأكثر ما يستعمل القدح في قداح الميسر التي تجال لقسمة الجزور، وكل من هذه الألفاظ الثلاثة ينوب عن الآخر في الاستعمال.

زمان الميسر لم يكن الميسر عند العرب لهوا يلهون به، ولعبة يلعبونها، إنما كان نظاماً اجتماعياً دعتهم إليه ظروفهم الاجتماعية، وساقتهم إليه طباعهم البدوية، فالباعث الحقيقي عليه كان (الكرم) وكان التباهي بالكرم، وهذا الأخير هو الذي أظهر الدين كراهته فيما بعد، كرهه الدين وكره معه أيضاً ما كان يصحب هذا الصنيع من نزاع وجدال وخصومة في سبيل الظفر بأوفى نصيب، هذا إلى ما يقارنه من المخاطر بالمال والتعرض للفقر.

ومن بواعثه أيضاً إعانة الفقراء فيما بينهم، إذ كان الفائز منهم بنصيب لا يتناول منه شيئاً، بل يلقيه إلى المحتاجين والمعوزين من ذويه، ليسد رمقهم.

قال أبو حيان: (وأيهم خرج له نصيب واسى به الفقراء، ولا يأكل منه شيئاً، ويفتخرون بذلك). ثم قال: (وربما قامروا لأنفسهم) أي أن ذلك أمر نادر.

والحاجة والعوز - وهما المتطلبان للكرم والجود - إنما يشتدان في وقت الشتاء عند العرب، وذلك عندما جدب البلاد وتقشعر الأرض، ويتعذر القوت على طالبه، وحينما يكلب الومان وتضن البلاد بخيراتها، والنوق بألبانها.

وليس في طوقك أن تتصور حال البؤس وشظف العيش الذي يتعرض له الأعراب في باديتهم ي ذلك الزمان، ومقدار الحاجة الملحة التي كانت تنزل على الأرامل والأيتام في تلك المجدبة والمسغبة.

فالوقت الطبيعي للميسر عند العرب هو فصل الشتاء، وهم يختارون الليل في ذلك الفصل، لأن الليل وقت طروق الضيف، وحين اشتداد البرد، فيقودون النار ليهتدي بها الضيف، وليستطيعوا أن يزاولوا هذا العمل في يسر.

وكان الرجل من العرب يخشى الصيف، أن يحضر الصيف ولم يكن قد صنع له في شتائه مفخرة تذكر له حين تذكر المفاخر، فهو يخشى أن يعير في الصيف بنكوصه عن المشاركة في هذا لجهد الاجتماعي، وإمساك يده عن مساعدة القبيلة

إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم ... فواحش ينعى ذكرها بالمصايف

وذلك أنهم يخصبون في الصيف فيتذاكرون ما كان من الناس في الشتاء، فيعير كل امرئ بسوء فعله.

وقد سجل الشعر العربي أن الميسر يكون في الشتاء، فقال الأعشى: المطعمو الضيف إذا ما شتوا ... والجاعلو القوت على الياسر

وقال متمم بن نويرة:

ولا برما تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا

البرم: الذي لا يدخل معهم في القداح، ويسمونه أيضاً (المغزال). وإذا كان الرجل كذلك لم يدخل اللحم بيته إلا بأن يهديه نساء الحي إلى امرأته.

وقال طرفه:

وهم أيشار لقمان إذا ... أغلت الشتوة أبداء الجزر

. . الأبداء: جمع بدء، وهو النصيب من الجزور

وقال عنترة:

ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوم

وقال لبيد:

وبيض على النيران في كل شتوة ... سراة العشاء يزجرون المسابلا

قال ابن قتيبة: يريد أنهم يضربون بالقداح فيصيحون بها ويزجرونها إذا ضربوا، كما يفعل المقامرون بالنرد.

(للبحث بقية)

عبد السلام محمد هارون