مجلة الرسالة/العدد 1008/في بلاد الأحرار
→ من أدب التاريخ | مجلة الرسالة - العدد 1008 في بلاد الأحرار [[مؤلف:|]] |
شلر ← |
بتاريخ: 27 - 10 - 1952 |
6 - في بلاد الأحرار
للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد
للأستاذ أحمد مصطفى الخطيب
اجتماع - أقوال الخطباء
يالها من بلاد عجيبة؟ ما أصعب نيل الحرية؟. . لبت شعري هل أستطيع ألفة هذه الحياة؟. . لقد خيل لي الأمر في البداية هلا ميسوراً. . ولكن هاهي ذي المصاعب تتوالى وتتفاقم في النهاية. .
إن هناك رواسب في قرارات النفوس تركتها عهود التاريخ الماضية من ورائها، هي التي تستعبد الإنسان وتقيده أكثر من غيرها. .
وها إن الحال تتطلب الآن التخلص من نيرها وسلطانها دفعة واحدة. . . عليك أن لا تكذب، أن لا تداهن، أن تتحلى بالشجاعة، أن تدافع عن الحق، أن لا تعرف معنى التردد، أن تقول الحق!
يالها من شروط صعبة ثقيلة؟
كيف لا يخشى جانب الرجل ذو البأس والقوة؟ أو لا يجهر له بالصدق؟ أو لا يتحاشى التزلف إليه؟
إن المرء لتضطرب أحشاؤه وترتعد فرائضه عند رؤيته أحد هؤلاء الطغاة العتاة. . . ورأسه يدور، ورقبته تنحني ولسانه يباشر الحمد والثناء بغير إرادة منه!
ولا يمكن أن أنسى قط ما كان يحدث لصديق لي كلما أراد محادثة أحد الوزراء في التلفون فقد كان يشحب لونه، ويتلعثم لسانه ويأتي بحركات آلية مضحكة كما لو كان أمام الوزير نفسه بالذات لا أمام آلة صماء. . . وقد شاهدته ذات مرة وهو يردد هذه العبارات في ارتباك ظاهر وذعر شديد:
(. . . نعم يا مولاي. . . بفضل عطفكم السامي. . . هفوة الصغير عفو الكبير. . .)
ثم ألقى بالسماعة على الأرض بعنف وترامى على أحد المقعد لاهثاً وهو يقول:
- (آه!. . . كاد أن يقضى علي. . . لماذا كل هذا السخط والهياج؟. . كل ما في الأم أنني رفعت نهار أمس تقريراً إلى معاليه ذكرت فيه نبذة صغيرة عن سوء سلوك نجله في الدائرة وفساد أخلاقه. . . يا ويلي منه ومن ثورته وغضبه. . . ولكنني لحسن الحظ استطعت تهدئة الحالة. . . آه. . .).
ومع أننا كنا نسخر آنذاك من هذا الصديق المتخاذل الرعديد ونهزأ به إلا أننا في الحق لم نكن لنختلف عنه من هذه الناحية إطلاقاً.
والآن كيف نستطيع استئصال شأفة هذه العلل التي نفذت إلى عظامناً وجرت مجرى الدم في عروقنا؟
لم يغمض لي جفن في تلك الليلة من فرط تأثري. . بل ظللت أدور في غرفتي طوال الليل. . . وإذ طلعت تباشير الصبح، سقطت على الأرض كجثة هامدة من شدة الإعياء.
وحين فتحت عيني كانت الشمس في متوع النهار، وكان رأسي مثقلاً بالصداع. . فأحسست بحاجة شديدة إلى استنشاق الهواء النقي.
لقيت بنفسي إلى الشارع. . وقصدت إلى حديقة تجاور البيت الذي أقطنه. . . كان البستانيون هنا منهمكين في ري الحديقة. . وكان ثمة على بعد قليل ينهض تمثال شامخ.
اقتربت من التمثال وقرأت على أحد جوانب قاعدته هذه الكتابة:
(بطل بلاد الأحرار الأول)
ملت إلى أحد البستانيين وسألته عن اسم الحديقة وعن هوية البطل.
- هل أنت غريب عن هذه البلاد؟
- نعم!. . جئت حديثاً!
- يطلق على هذا المكان حديقة الحرية. . . وذلك التمثال يمثل أول وطني رفع لواء الحرية ضد الاستبداد. . فبلادنا تعبده وتقدسه.
وفي هذه الأثناء كان الناس قد أخذوا يتوافدون على المكان زمراً زمراً. . . ولم تمر سوى هنيهة حتى عقدت اجتماعات عديدة أيضاً في مختلف أنحاء الحديقة.
اقتربت من أحد هذه الاجتماعات. . فرأيت فتى يافعاً يلقي خطاباً حماسياً مؤثراً. . . أصغيت إليه فإذا هو ينتقد الحكومة، ويحمل عليها حملة شعواء لأنها تقاعست عن تنفيذ برنامجها بحذافيره، وترت عدداً من الوطنيين في الشوارع لا يجدون لأنفسهم عملاً. . ولأن الإحصاءات الأخيرة دلت على وجوه اثنين في كل مائة أميين بين سكان المملكة، وذلك يعد عاراً كبيرا وصمة لا تمحى من جبين البلاد الحرة.
اقتربت من جماعة ثانية. . . فشاهدت رجلاً في منتصف العمر، ضعيف البنية، يتبسط في شرح النقائض التي يلاحظها على الجيل الجديد، ويؤاخذهم بشدة على انغماسهم في المادية، وانصرافهم عن المثل العليا، وإغفالهم أمر الصلات الإنسانية والوطنية الرفيعة، ويرى أن هذه حالة ستؤدي بهم لا محالة إلى أن تكون آثارهم هزيلة عديمة الحياة، ورؤوسهم فارغة جوفاء، وسجاياهم منحلة سائرة نحو التلاشي والاضمحلال.
وإذ كان الخطيب يبدي مخاوفه الشديدة من مغبة الأمر، كان لا يجد دواء لمداواة الوضع سوى المبادرة إلى إحداث تغيير شامل سريع في نظم التعليم وأهدافه وخططه التي تسير عليها الدولة في تنشئة الشبان وإعداد الجيل المقبل.
أما في الزمرة الثالثة فكان الخطيب سيدة بارعة الجمال تتحدث عن حقوق المرأة السياسية.
وفهمت من أقوال السيدة الخطيبة أن النساء في بلاد الأحرار يملكن نفس الحقوق التي يتمتع بها الرجال، ولا يضن عليهن بسوى منصب رئاسة البلاد فقط.
وقد كانت الخطيبة تشير إلى هذه الناحية في انتقاداتها وتقول:
- كيف يسوغ أن يضن بهذا المنصب على المرأة، ثم لا يضن به على الابن الذي تلده؟
إنهم يحدثونا عن الخواص الفيزيولوجية. . وكأن الرجال جميعاً في منجاة من النقائض الفيزلوجية.
اذهبوا إلى البيمارستانات، إلى السجون. . . ادرسوا إحصاءات الجراثم، فلا أظن النتيجة ستكون بجانب الرجال.
إن هذه المخاوف ليست سوى أعذار تافهة، لا تخرج عن كونها بقايا أسلحة تافهة استعملها الرجل منذ قديم الزمانلضمان استمرار سيطرته على النساء وبقاء استبداده بشؤونهن. . ولكن المرأة سوف تقضي على هذه البقية الباقية أيضا كما قضت من قبل على القيود الأصلية نفسها وحطمتها إلى الأبد، وذلكبفضل كفاحها المستمر ونضالها الدائم، وجهادها الذي لا يفتر ولا يني.
أجل سوف يعلم الرجال أن هذا الملجأ الأخير الذي يأوي إليه، يجب أن تفتح أبوابه على مصاريعها أمام النساء نزولا عندما يقتضي به الشرف والكرامة. . . وإن وجود أقل تفاوت في الحقوق بين الأفراد في بلاد الأحرار ليس إلا وصمة عار جبين الحرية نفسها. وسوف تمحو المرأة هذه الشائبة مهما طال بها الأيام أو بعدت أمامها الشقة. . .)
كانت هنالك جماعات أخرى أيضاً. . غير أنني كنت أحسست بالتعب. . . فجلست فوق أحد الكراسي، وشرعت أفكر في جميع هذه المشاهد التي مرت أمامي ولأم أكن قد رأيتها أو سمعت بها من قبل.
وكان من أشد ما أثار عجبي أسلوب الخطباء ولهجتهم أثناء الكلام. . فقد كانوا يحصرون انتقاداتهم في دائرة الوقائع والحوادث، ويعنون عناية كبيرة بأن لا يظهر على حديثهم أية أثر للتذبذب أو الشكوك أو التردد، مسبغين عليه ثوباً من اللسان والوقار، متنكبين عن استعمال أية كلمة نابية فيها حر لعاطفة الشخص الذي يتصدون لانتقاده أو مس لكرامته من يشنون الحملات عليه. . .
وقد تراءى لي في الوقت نفسه من المعاني المتجلية في عيون المستمعين، وإمارات الجد اللائحة في وجوههم، أنهم يستسيغون هذا النقد ويرتاحون له ويؤثرونه على سواه، ويجدونه أضمن للفائدة وأبقى.
وقد ذكرني - بغير إرادة مني - ما شاهدته هنا من الصور الجديدة، ما في بلادي من أساليب النقد وفنون النقاش.
يا لهول الإسفاف الشنيع والتهور الجامح!. . ويا لهول السباب والشتائم المذقعة!. . أقوال مضطربة لا رابط بينها، إشارات غامضة، إيماءات مغلقة مستهجنة. . ولطالما حدث أن السامعين والقارئين سدوا آذانهم، وأغمضوا عيونهم تقززاً واستنكارا، ثم هبوا جميعا يطالبون بوضع حد لمثل هذا الجو الموبوء الخانق، فظهرت قوة طاغية كمت فواه المتكلمين وعصبت عيون الشاخصين معاً بشكل محكم، حتى عاد الناس في هذه المرة يشعرون بالاختناق من الصمت والظلام.
آه! ما أعظم كارثة الإفراط والتفريط! لقد اقتنعت الآن أن الحرية لا يمكن أن تنال بمجرد الرغبة فيها، أو المطالبة بتحقيقها. . . إن على الإنسان أن يربي شخصيته، ويخلق من نفسه سيداً قبل كل شيء. . .
- أجل! أجل! على الإنسان أنيكون سيدا!
- إلى من تتحدث يا عزيزي؟
استدرت قليلاً. . فوجدت أحد الضيوف الأخوان جالسا إلى جانبي، يرمقني بنظرات التعجب والحنان وأنا أحادث طيفي الماثل أمامي. .
فقلت معتذراً:
- كنت غارقا في التفكير وأنا أقارن بين ما شاهدته اليوم وما وقع لي بالأمس فبدرت تلك الكلمات من دون وعي. .
ابتسم ابتسامة رقيقة ثم قال:
- لا تحزن! هذه مرحلة قد تخطاها كل واحد منا. .
- إذن أنتم هنا منذ وقت طويل. .
- أجل!
أرجو أن تخبروني: هل تقصد هذه الاجتماعات هنا كل يوم؟
- كل يوم على وجه التقريب. . وتلك الساحة أشبه بمدرسة شعبية عامة يستطيع أي مواطن أن يطلع فيها على كل ما يعنيه أمره من شؤون بلاده:
- يالها من عادة حسنة!
حضر الأساتذة في اليوم التالي ثانية فقلت مخاطباً أحدهم:
تنص المادة العاشرة على أن التساند دين واجب الداء، فما معنى ذلك؟
- أجل! إن وجود التساند والمؤازرة شرط أساسي في بلاد الأحرار. . . انظر إلى الأقطار غير الحرة تجد فيها الأفراد والأسر كلاً مستقلاً بنفسه عن غيره، وليس بين ظهرانيهم من الصلات والروابط إلا النزر القليل. . ذلك لأن سيف الاستبداد المصلت على رؤوس هؤلاء لا يفسح المجال لهم بالتآزر والتآلف وتكوين جبهة واحدة وكيان واحد. .
فالشرط الأساسي في هذه المالك التفرق والتخاذل ووقوف (المواطن) موقف الأجنبي من أخيه المواطن وعدم اهتمام بعضهم ببعض. . .
وكما أنه من الميسور جداً سحق أفراد مجتمع كهذا وإفناؤه، كذلك من السهولة بمكان. . . أن يلعب المرء كما يشاء بهذا المجتمع نفسه كما لو كان خرقة بالية عديمة الدم والحياة. . .
أما في بلاد الأحرار، فالشرط الأول هو الاتحاد والإيثار والألفة التامة بين الأفراد والاهتمام بما يحدث ويقع للمواطنين. . . والكل هنا كحلقات الشبكة تتأثر من العطب الذي يصيب أي واحد منها. . .
وشؤون المجتمع ذاته لا تعتدل ولا تستقيم إلا إذا نجا أفراده جميعاً مما حاق هم من الأخطار وأصابهم من الألم والاضطراب.
هنا يتحتم على كل فرد أن يكفل بصيانة حقوق غيره وشرفه وكرامته. . وليس في معجم البلاد أقوال من قبيل: (إذا مت ظمآن فلا نزل القطر) (عش لنفسك) (هل أنا الذي أستطيع إصلاح العالم؟).
- آه أيها الأستاذ! إني مصغ إليكم بكل كياني وبكل لذة وشغف. . ولكن وا أسفاه. . إن جميع العادات التي ألفتها والتقاليد التي جريت عليهالهى على طرفي نقيض مما تفضلتم علي بشرحه وإيضاحه. . . ليت شعري كيف أستطيع أن أغير ما بنفسي. . . إلهي! ما أصعب أن يكون الإنسان حراً. . .
- نعم يا بني؟ ليست الحرية سهلة سائغة. . . والعبودية أسهل منها. . . فبينما العبد يسلم زمامه إلى غيره ليقوده كما يريد ويهوى نجد الحر مكلفاً بالتفكير في غيره. . .
إن كل مواطن هنا مكلف بحب الغير، ومعنى حب الغير هو أن يتحمل المرء في سبيل غيره المتاعب والمشاق. . وبهذه الوسيلة وحدها يستطيع المواطن أن يصون نفسه وغيره معاً في وقت واحد.
وحيث أنك قد سلكت طريقاً آخر حتى اليوم، فقد فتشت دائماً عن منافعك في خارج المجتمع، ولم تفكر إلا في نفسك. . . وقد أدى بك ذلك إلى أنك زدت ضعفاً على ضعف وانحطاطاً على انحطاط وعشت حياة كلها قلق واضطراب. .
أما وقد اعتزمت الآن أن تصبح حراً، فإنه يتحتم عليك أن تسعى لتهذيب نفسك وتتفقه في قوانين بلاد الأحرار وتعمل بمقتضاها. . .
يجب عليك أن لا تبقى في معزل عن الاهتمام بمصير المجتمع الذي أنت أحد أفراده، بل عليك الالتفات إليه والحفل بحقوقه، ورعاية مصالحه وشرفه وكرامته، والتفكر في الشؤون فقرائه وأطفاله، والانتساب إلى الجمعيات الخيرية التي تعنى ببذل المساعدة والمعونة لهؤلاء وبالدفاع عن حقوقهم وبتعميم التعليم بينهم وغير ذلك من الأمور التي تكفل للجميع سعادتهم وهناءهم.
وعليك أن تعلم أيضا أنه ليس في هذه فرد واحد لا يتصل بمواطنيه الآخرين بأكثر من ست روابط وطنية واجتماعية في وقت واحد، وهذا هو السبب في أن مس الواحد منهم قيد شعرة يثير روابط الجميع، فيتحرك الكل وكأنهم شخص واحد. . .
- ياله من مجتمع سعيد!
(يتبع)
أحمد مصطفى الخطيب