الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1008/شلر

مجلة الرسالة/العدد 1008/شلر

بتاريخ: 27 - 10 - 1952


للكاتب الكبير توماس كارليل

ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

لقد ساعد جوته شلر في أمور المعاشية حتى قبل معرفته به وصداقته له، وذلك بتقديمه وترشيحه لخدمة ولاية (وايمر) وتوظيفه في أكادمية بمرتب معين. وقد أدت هذه المساعدة التي جاءت لا على اعتبار عون؛ بل على اعتبار خدمة متقابلة إلى نتائج ذات أهمية دائمة. وقد ارتفع شلر إلى أوج عظمة الفن وهو مطمئن إلى عطف ورعاية ونصح صديق واحد بين مئات الأعداء. وهكذا - اعتماداً على هذا التأييد من قبل صديقه - استمر شلر في تقدمه ونجاحه غير ملتفت يسرة أو يمنة، وكانت أيامه مخصصة جميعا لتأدية واجبه الأقدس.

وقلما نجد إنساناً يمكن أن يساعد الآخر مثل هذه المساعدة وان يفيد مثل هذه الفائدة، لأننا تعودنا - كما هو الحال في الواقع - أن يكون الإحسان مبتذلا فيه الذلة والفجيعة وقلة الذوق، لان منشآتنا التي تقوم بمثل هذه الأعمال الخيرية هي مؤسسات تافهة ومضرة ولو أنها تتحصن بأسماء وألقاب. وأكثر من هذا إذ تفضل أحد أصدقائنا بمديد العون إلينا بإخلاص واهتمام، فهو لن يعمل على تفهم مشاكلنا ومعرفة احتياجاتنا الحقيقية حتى يمكننا من السير قدماً في طريقنا، بل نراه على العكس من ذلك يصير ببساطة غريبة، ويريدنا أن نغير اتجاهنا ونتبع سبيله الذي اختاره لنفسه، وبذلك يجعل أمر إصلاحنا غير ممكن لأننا لا ولن نقدر على ذلك. وهكذا فالناس كل بعيد عن الآخر، وليس لأحد أن يساعده جاره، بل أن ينتبه من جاره كي يأمن شره ويتوقى خطره ويتقي شواظ ناره وهو أمر صعب التحقيق.

لقد تحدثنا سابقاً عن حماسة شلر التام للأدب واعتبرنا ذلك وحده وظيفة توجته مدى الحياة. وأوضح دليل على حميته وغيرته للوصول إلى هذا الهدف في كل أدوار حياته، هو مواظبته على هذا المسعى حتى أواخر حياته، بالرغم من إصابته بمرض عضال هد حيله وزعزع أركان قوته. ولم يتجل نبل سجيته في أية مرحلة من تاريخه، كما تجلت في هذه المرحلة - مرحلة المرض - فقد برزت البطولة غير المنظورة وهي في عنفوانها عندما كان العدو الأسود يمزقه من الداخل، ولكنه كان قادراً على إبعاده بعض الشيء. وعندنا شواهد طيبة على الخمس والعشرين سنة الأخيرة من حياته لم تخل لحظة واحدة من الألم الممض. على أنه مع كل ذلك لم يتشك قط ولم يتضجر أبداً. نلاحظ ذلك في مراسلته مع جوته، فنراه بشوشاً مشغولاً ونادراً ما كان يتكلم عن أدوائه وأوصابه، وإذا ما تكلم عنها فبلغة شخص ثالث كأنه يعتز بأيامه التي بقيت في حوزته. على أننا نستطيع أن نقول إن أعظم أعماله الشعرية تعود إلى هذه الفترة؛ خصوصاً إذا تذكرنا كم وكم من أضراب روسو من الأدباء والشعراء السطحيين الذين نحلوا وذابوا أسى، على الرغم من المواهب التي أوتوها - لأنهم أصيبوا بأمراض عصبية انتهت بكثير منهم إما إلى الجنون وإما إلى التعاسة المهلكة، على أن شلر - وهو في مثل هذه الأوضاع نفسها - كتب أعظم تأملاته وأحسن رواياته من (ولنشتاين) إلى (وليم تيل).

يقال أن هذه المحن لا يمكن تحملها إلا بالاعتماد على ركيزة الدين وحده، ونحن نقول إن شلر كان له دينه الخاص. . وكان متعبداً وناسكاً. . ولذا فهو لم يحتج في آلامه الأرضية إلى دعامة سماوية تسنده، بل اقتصر على الدعامة المثالية في تحمل أوصابه في مثل هذا العالم البائس المريض.

هل لنا أن نتكلم عن سعادته؟ واأسفاه ماذا يعني سمو العبقرية غير معدة قوية وشهية ممتازة!. . أو تعني حتى كلمة روح معنى المعدة في بعض اللهجات السكالفونية؟ أليس الجلوس في راحة والتمتع بالمشهيات والروائح العطرية والاستمتاع بالماضي والحاضر والمستقبل والإخلاد إلى الأحلام واليقظة بين الفينة والأخرى ما يدل على الطمأنينة والسرور والحياة الهانئة والبهجة الدائمة والسعادة الكلية.

إن الأمر بالنسبة إلى العبقري المريض لا يتعدى كما يقول شلر (عالمه الذهني المثالي الداخلي الذي ينخره الداء المتباطئ ويستنزف جماله ويعصف به عصفاً شديداً، فلا يبقى منه إلا اليأس والقنوط والمرأة وغلا الحرمان الذي يلازمه حتى النهاية المرعبة) ولم يكتف شلر بهذا بل نراه يستطرد في ذلك فيقول (الويل لمن تضطرب إرادته وتخور عزيمته وتنحني رقبته أمام نير هذا العدو الجديد! لان البطالة والخيال المشوش يسيطر عليه وتطلق سراح ألوف الشياطين لتضايقه وتعذبه حتى تجننه. وا أسفاه! إن عبودية الجزائر تعتبر حرية إذا قيست إلى الآلام التي يعنيها العبقري المريض الذي انهد قلبه ورزح تحت كابوس بالآلام. فمسكنه الطيني يصبح سجناً مظلماً كما تصبح أعصابه منازل للقرف والعذاب، وروحه موئلاً للعزلة السوداوية، ويظل فريسة لأشباح القنوط، ويغدو متحجراً من جراء ازدياد الألم، محكوما عليه بالموت في قيد الحياة وبالشعور بالوجود الأليم، لا حول له ولا قوة ولا حتى شعور بها، ومن المفزع أن يضع الموت أو فقدان الوعي التام حداً لمثل هذه التعاسة) ومهما تكن الحالة مثيرة فعلينا أن ننظر غليها نظرة عطف لا نظرة استخفاف وتجرد. وعلى كل حال نقول إنه من العار العبقري يتشكى. أليس في نفسه نور من السماء ليست عروش الأرض ببائها إلا ظلاماً بالقياس إليه والمقارنة به؟ والرأس الذي يلبس مثل هذا التاج يأبى أن يرقد بقلق. إذا كان هذا النور السماوي هو الذي أعان سيمون السوري على أن يصمد في أعلى عمود التعذيب دون أن يتزحزح إيمانه قيد أنملة، فكم بالأحرى أن يكون الأمر كذلك إذا كان هذا النور مباشراً ومضيئاً صافياً وخالصاً من كل شائبة؟ وإلا فدع حكيم العصر يتألم من الأوصاف والرزايا التافهة في صبر وأناة؛ أو يعترف بأن المتعصبين القدامى كانوا أصدق منه تعبداً وأصفى سريرة وأرهف إحساساً. وقد يحدث بين الحين والآخر أن يعرض في بعض المجالس الأدبية والنوادي الثقافية حديث السعادة، فينسى السادة المتناقشون شرابهم ليتكلموا في السعادة وعما إذا كانت هي الغاية الرئيسية من حياة الإنسان، وأغلبهم يوئيد رأي بوب القائل بأن السعادة هي غرض وجودنا وهدفه، ولكن المعارضة لا تكتفي بهذا بل تريد أن تفهم لماذا تكون الطبقة الجاهلية أسعد حالاً من الصفوة المختارة. ومع ذلك فنحن لا نريد أن نستبدل أما كننابهم؛ أليس مكتوباً أن زيادة في الحزن؟ أليس مكتوبا قولهم تعلموا الحكمة واستزيدوا من العرفان لان في هذا بداية الخير؟ فإذا كان تعليمكم صحيحا فلماذا نشقى في النضال بكل قوتناإذا لم يكن ذلك في سبيل الحصول على السعادة والنجاة من الآلام والاوصاب؟

وهكذا تظل السعادة بين الأخذ والرد بين هؤلاء المناطقة من دون الوصول إلى نتيجة قطعية مقنعة، وهذا ما يجعلنا مضطرين إلى تركها على ما هي عليه من ارتباك وتخبط. ولكن هناك بعض النفوس الجدية التي لا تعتبر الحقيقة لهواً ولعبا بل (ماهية) الحياة. وهم لا يعتبرون الأشياء الظاهرية الجامدة إلا اعتباراً تافهاً، بل يهمهم قبل كل شيء (النداء الداخلي) هذا النداء الذي إذا توقف فان يفيده حتى استحسان الملايين من الناس. فإذا ما عثر هؤلاء على الحق الذي يبحثون للاهتداء إليه بكل تشوق وبكل قلق سعوا إليه جاهدين بغض النظر عن الخير والشر وأصبح الهدف الذي يسعى إليه الإنسان.

إن أصل هذه القضية ناشئ - كما هو الحال في كثير من القضايا تحت الشمس - من الاضطراب اللغوي، فإذا كانت السعادة تعني اليسر في العيش، فمن حق كل شيء أن يسعى تحقيق مثل هذا اليسر، ومن جهة أخرى، فإذا عنينا بالسعادة والاحساسات السارة، كما هو رأي الكثيرين من الناس، فعندئذ يظهر لنا شك من القضية من الأساس. أما إذا تبصرنا بدقة في الحقيقة القائلة بأن في الإنسان شيئاً أرفع من حب السرور، بأي معنى كان هذا السرور، فإننا نجد أن المعلمين والمبشرين كانوا يعيرون هذه المسألة ما تستحقه من التفات بالغ منذ بداية نشوء العالم، وسيستمر ذلك إلى نهايته، إن كانت له نهاية. وطبيعي أن لا يخلو عصرنا الحاضر من الأشخاص الذين يصرون على هذه الحقيقة ويؤكدونها. وماذا يفعل القارئ بهذه الجملة الصغيرة من (رسائل شلر الجمالية) وهي تخص تلك المسألة القديمة ومسألة تحسين الأنواع؟ انظر كيف يعالجها بهذا الأسلوب الطريف إذ يقول (إن أول المكاسب التي أحرزها البشر في مملكة الروح هو الخوف والقلق، وهما نتيجتان من نتائج التعقل وليس الإحساس؛ ولكن العقل أخطأ في هدفه كما أخطأ في طريقة التطبيق. وثمار هذه الشجرة بالذات هي السعادة سواء كان ذلك بالنسبة لليوم العابر أو لكل الحياة، وهذا لن يزيدهم ذرة من الاحترام مدى الأبد. فاستمرار الوجود اللانهائي والسعادة لفرض الوجود والسعادة بحد ذاتها يخصان الشهية وحدها، وهي عبارة عن كفاح الحيوانية التائقة إلى الخلود. وهكذا بدون أن يحرز هذا الإنسان أي شيء لإكمال رجولته الذهنية نتيجة هذا المجهود العقلي، نراه يخسر حيوانيته السعيدة، فيفقد الحاضر في محاولته اليائسة لكسب المستقبل اللامحدود الذي لم يقصد لذاته بل الذي قصد هو الحاضر إليه بذاته.

والظاهرة الوحيدة التي يتميز بها عصرنا هذا هو السعي في سبيل الخير الحسي والسرور الشخصي في أي شكل كان، وهي الغرض الذي يسيطر على عمل الإنسان وواجبه، وإذا كان في قطيع الإنسانية عبيد الشهوة والشهية من أمثال أبيقور، فإن هذه الإنسانية لن تعدم بعض الرجال ذوي الرسائل العليا لتحقيق القيمة الروحية للإنسان، وأن هذه القيمة ليست ميزاناً تقاس فيه الحوافز المختلفة؛ بل إن الروح شيء حي ذو قوة وحرية وهي تقوم بخدمة الحق والفضيلة والخير. ولكن الأوضاع في الظروف الحاضرة تقاس بمقياس أقرب ما يكون إلى العقل والرزانة. فمن جهة نرى أن الطريق الهادي الذي يقوم بتعبيده كثير من الأخلاقيين، ومن جهة أخرى نرى الاضطراب سائداً في صفوف الجماهير في هذا السجن - الذي ندعوه بسجن الحياة - وزعماء هذه الجماهير يجعلون من المنفعة إله هذه الأيام، والبنتاميون يمثلون المجلس الروحاني الأعلى لهذه الطائفة التي ديدنها السعي لملئ بطونها وحسب، وبالرغم من أننا لا نملك موهبة التنبؤ، إلا أننا يمكن أن نقول إن هذه النار التي تتأجج في صدور الكثيرين من الناس ذوي النفوس المخلصة ستنتهي بمعركة حامية الوطيس حاسمة المصير، ومحور هذه المعركة سيكون بين العقل والمادة؛ ولكننا في هذا الذي نقوله خرجنا عن سواء السبيل. . وسنعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى إذا سمح لنا الوقت بذلك.

للكلام صلة.

يوسف عبد المسيح ثروت