مجلة الرسالة/العدد 1003/المعرفة بين الفلسفة والتصوف
→ حركة التسلح الخلقي | مجلة الرسالة - العدد 1003 المعرفة بين الفلسفة والتصوف [[مؤلف:|]] |
زعماء الحركة القومية ← |
بتاريخ: 22 - 09 - 1952 |
مهداه إلى الأستاذ علي الطنطاوي الذي كتب يقول: لي من
دنياي الآن مطلب واحد. يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود
وغاية الحياة
للأستاذ حسن محمد آدم
ما سر الوجود؟ وما لغز الحياة؟ من أين جئنا وإلى أين المصير؟ وكيف السبيل إلى إدراك كنه هذا الوجود، وفهم غاية هذه الحياة؟ وما السبيل إلى المعرفة الحق، والسعادة العظمى؟ هذه أسئلة عميقة تتفاعل في رأس الإنسان، وتدور في عقول الناس، ولا يدري لها الكثيرون أجوبة شافية، وردودا مقنعة، فيعيشون في الحياة قلقين حائرين، ويضربون في بيدائها تائهين يائسين، وكأني بهم يسيرون في موكب الإنسانية وهم يترقبون بنفوس قلقة متشائمة، أن يبتلع الجميع بعد الطريق الطويل. . هاوية سحيقة من العدم! والإجابة على هذه الأسئلة هي في صميمها المعرفة الحقة، وهي في ذاتها عين الحقيقة التي يتوق إليها الجميع، فأنت إن وفقت للإجابة الصحيحة فقد فككت طلاسم الكون، وحللت ألغاز الحياة، ووقفت على سر الوجود والغاية من هذه الحياة
ومنذ القدم، منذ وجد الإنسان المفكر على سطح هذا الكوكب، حاول الوصول إلى الجواب، وتمثل ذلك في فلسفات ونظريات متباينة تعددت وتنوعت على أعصر التاريخ، ولكنها جميعاً ظلت عبر القرون تتأرجح بين مذاهب متضاربة، ومدارس متعارضة، يقترب بعضها من الحقيقة أو يبعد بقدر ما أوتي الفلاسفة من نضج في الفكر، وقوة في التبصر، وإمعان في التأمل والحكمة
وكان حين تأتي على الناس فترات من الوحي، تشرق عليهم أنوار النبوات، فيتبدد عنهم الظلمات، ويستنير ما غم من طريق الحياة، ويذهب الشك والارتياب، ويتضح على هدى الرسالات سبيل المعرفة، ولكن رأي الدين في الوجود والحياة لون مفروض من المعرفة، يمليه الوحي وتلزم به العقيدة، وهو تصديق بأمور من الغيب، تصديقا لا تحتمل النقاش، ولا يقبل الجدال، يحمل الناس على اعتناقه سواء وافق ذلك منهم هوى العقل الطليق أ خالفه، أو جارى منهم منطق التفكير الحر أم جافاه
فما كان للفلسفة أن تقتنع بهذا وهي ناصرة الفكر الحر، صناعة مناهج البحث، فرأت أن تحرر نفسها من أكبال الغيبيات، وأن تنهج على منهاج العقل علها تصل بذلك إلى المعرفة وتدرك الحقيقة وتفهم غاية الوجود. . وبدأ الزمان يسجل على صفحات القرون وخرج لنا تاريخ الفلسفة زاخراً كما أسلفنا بمآت من المذاهب الفلسفية والآراء النظرية في الوجود وفي الحياة، ويتيه الإنسان في غمارها، لا يدري أين الحق من هذا المذهب أو ذاك، وأين الرأي السديد من هذه النظرية أو تلك، ثم لا يخرج من بينها إلا وذهنه أشد فراغا، إلا من سيل دافق من علامات الاستفهام والتعجب يوشك أن يؤدي بعقله إلى محيط مظلم من الشك والإلحاد!
إن الفلسفة أرادت أن تدل الناس على المعرفة فلم تستطع. أنها أرادت أن ترسم سبيل الحقيقة فلم توفق. . . لماذا؟ ذلك لأن الفلسفة قد ترضي العقل النظري، وقد ترضي الاستدلال المنطقي، ولكنها لا تستطيع بحال أن ترضي الإحساس الروحي، والذوق القلبي، وطريق المعرفة إنما يلتمس بالروح لا بالعقل، ويطلب بالذوق والقلب لا بالمنطق والفكر!
ولا تعجب بعد ذلك إن رأيت الفلاسفة يجهدون، عقولهم وأفكارهم القرون الطوال بحثاً عن المعرفة، ثم يغادرون الحياة ولما يعرفوا سبيلها، بل يغادرونها جهالاً كما دخلوها، كما يؤثر عن سقراط الذي قال هو على فراش الموت: (الآن أعرف من الدنيا حقيقة واحدة وهي أني لا أعرف شيئاً!)
هذا، وفي الوقت الذي كان فيه الفلاسفة يسعون سعيهم، كان الذين عرفوا السبيل الصحيح من المتصوفة وأرباب الأذواق والمواجيد يطلبون المعرفة عن طريق تصفية النفس والتسامي بها من أدران المادة وشوائب الحس، إلى عالم النور والفيض والإلهام، ووصل هؤلاء الروحيون إلى بغيتهم فكانوا الرواد الأول، وكانوا مكتشفي الحقيقة، والراسمين سبيلها للحائرين في الأرض. . وقرر هؤلاء أن منهاج المعرفة منهاج واحد فريد هو مجاهدة النفس، فنها تشرق الروح وتتم النعم وتكمل السعادة
فيا من تريد قلباً يقظاً تدرك به حقائق الوجود، عليك بالنفس فادرس مراتبها وظلماتها ومقامات صفائها، وعليك بهيكل الجسم الحائل فروضه على الرياضة الروحية الصادقة وخلصه بقدر من علائق الدنيا، ثم عليك من فورك بالطريق إلى الله فتعرف آداب سالكيه، ثم شد الرحال إليه صوب مقامه الأسنى وهناك في المعية الأولى الذي فاض منه الوجود بكل ما فيه ستعرف حقيقة إنسانيتك وحقيقة الكون الذي تعيش فيه، وحقيقة الحياة التي تحياها، وفي ذلك الفرصة الكبرى والسعادة العظمى
وإليك الغزالي حجة الإسلام وفيلسوفه الأكبر خير مثل على ما يقول، إن نفس هذا الفيلسوف العظيم تاقت في بداية حياته الروحية أن تصل إلى المعرفة، وتحرقت شوقاً للوصول إلى الحقيقة، فانطلق يطلبها عند أدعيائها من الفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين، وكان في سعيه بادئ القلق، عظيم اللهفة، فوقع ضحية صراع نفسي مرير ظل يعانيه وهو دائم التردد على تلك الطوائف، فبلى أمر الفلاسفة فلم يجد عندهم ضالته، وبلى أمر المتكلمين فلم يعثر عندهم كذلك على بغيته. . . وأخيرا لجأ إلى التصوف، فأفهمه أربابه أن ضريبة المعرفة عندهم تجرد ومجاهدة، فكانت نفسه أن تستكين، ولكن روحه المعذبة كانت تناديه من الأعماق (الرحيل، فإنه لم يبق من عمر له إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل) فاستجاب لهذا الهاتف الباطني، وترك بغداد مسقط رأسه مهاجراً إلى الله صوب ربوع الشام وهو يردد:
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل ... وعدت إلى محبوب أو منزل
ونادت بي الأشواق مهلا فهذه ... منازل من تهوى رويدك فأنزل
وهناك وجد في زلال التصوف راحة النفس، وهدوء البال وسعدت روحه بالمعرفة المشرقة والسعادة الحقة، وعبر عن ذلك بقوله:
فكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخلل
حسن محمد آدم