مجلة الرسالة/العدد 1002/التيتوية
→ إلى القوي الأمين الرئيس اللواء محمد نجيب | مجلة الرسالة - العدد 1002 التيتوية [[مؤلف:|]] |
رحلة أبي الطيب من مصر إلى الكوفة ← |
بتاريخ: 15 - 09 - 1952 |
للدكتور عمر حليق
ليست التيتوية (نسبة إلى المارشال تيتو عاهل يوغسلافيا الشيوعية اليوم) مجرد خلاف عارض بين دولتين شيوعيتين بواعثه خصومة سياسية أو حزازات شخصية بين ستالين وتيتو، أو اختلاف على زعامة الشيوعية العالمية التي اشترك هذان القطبان الماركسيان في خدمتها سنوات طوالا، أداتها مؤامرة مزيفة بين قطبين شيوعيين يخدمان هدفا واحدا؛ إنما هي (ردة) أيديولوجية جذورها في خلاف فكري عميق على مسألة دقيقة في التعاليم الماركسية تتعلق بتحديد العلاقات بين الدول اتخذت الشيوعية نظاما لها - تحديد يفسد على موسكو (وهي كعبة الشيوعيين) مركزيتها وسيطرتها المباشرة على النشاط الشيوعي في كل مكان، ويوفر للدول الشيوعية خارج الاتحاد السوفييتي حرية في التصرف تخالف مبدأ الوحدة الشيوعية العالمية وما تدعو إليه من تحالف وتعاون وتضامن في المبدأ والسلوك السياسي يبت بعضها بعضا وفي علاقاتها مجتمعة مع العالم الخارجي.
ولعل في استعراض حركة المارشال تيتوا الانفصالية عن موسكو ما يلقي ضوءا نافعا على ناحية هامة في العقلية الشيوعية ومستقبل نشاطها في الشؤون العالمية.
انفردت يوغسلافيا من بين الأمم الأوربية خلال الحرب العالمية الأخيرة بأنها الأمة الوحيدة التي استطاعت أن تقهر الاحتلال النازي قبل أن تلوح بوادر الهزيمة على ألمانيا النازية ففي حين أن حركات المقاومة السرية في الدول الأوربية التي احتلها جيوش هتلر كانت حركات ضعيفة مقيدة النشاط محدودة الأثر. . كانت حركة التحرر من الاحتلال النازي في يوغسلافيا واسعة النطاق فائقة النشاط عمت الأكثرية الساحقة من الشعب اليوغسلافي ومكنته من أن يحتفظ بأجزاء واسعة من بلاده في حرة طليقة لم تقو على استعبادها القوات النازية المرابطة في دساكر يوغسلافيا ومعاقلها الرئيسية. وكان عزم اليوغسلافيين وبأسهم في مقاومة الألماني على أشده حتى بعد أن رضيت الحكومة اليوغسلافية الشرعية آنئذ أن تهادن النازية وتتعاون معها وتخضع لمشيئتها. وقد حقق هذا العزم لحركة التحرر جيشا منظما وجهازا إداريا انتزع السلطة من الحكومة اليوغسلافية الشرعية التي أصبحت آلة فيد يد القوات النازية المحتلة، وما إن لاحت بوادر الهزيمة الألمانية في الميادين الأورب الأخرى حتى أسرع هذا الجيش اليوغسلافي الحر وجهازه الإداري المنظم فطرد الألمان إلى غير عودة، وأقصى معهم الحكومة اليوغسلافية الشرعية التي تعاونت معهم - بما فيها النظام الملكي الذي فر من الميدان في وقت مبكر.
ومع أن حلفاء الغرب كانوا يمدون جيش التحرر اليوغسلافي ببعض الذخيرة والعتاد العسكري والمعونة الأدبية إلا أن الفضل في انتصاره يعود إلى وطنية الشعب اليوغسلافي وتضحيته فوق كل شيء آخر. وعلى ذلك ظل اليوغسلافيون مؤمنين بأن تحريرهم لبلادهم من سيطرة النازية كان مجهودا يوغسلافيا بحتا لا فضل لأحد فيه - لا لحلفاء الغرب ولا لروسيا السوفيتية.
إلا أن انشغال ستالين ومكتبه السياسي بالحرب النازية ومعارك الشتاء على حدود موسكو وليننغراد لم تله صناع السياسة الشيوعية الروس عن مراقبة مستقبل القارة الأوربية - ومستقبل يوغسلافيا على وجه الخصوص من حيث أنها منفذ حسن لمياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة على رمية حجر من الشاطئ الأفريقي الذي كان ولا يزال يحتل مركزا هاما في خطط العسكريين والمسئولين عن سياسة الحرب في التاريخ المعاصر. أضف إلى ذلك أخوية اكتساب بلد كيوغسلافيا كقاعدة شيوعية في منطقة البلقان التي كانت ولا تزال حدا رئيسيا من حدود المجتمع الشيوعي الأكبر التي نصبت روسيا السوفيتية نفسها وكيلة بتشييده محققة بذلك تعاليم ماركس وشروح لينين وستالين عليها مما لا يتسع المجال في هذا المقال لاستعراضه.
وقد ساعد روسيا السوفيتية على دوام الاتصال بالتطورات في الوضع اليوغسلافي خلال الحرب العالمية الأخيرة ذلك النشاط الواسع الذي قامت به العناصر الشيوعية اليوغسلافية في محاربة الاحتلال النازي متعاونة مع العناصر الوطنية اليوغسلافية الأخرى على نحو ما فعلته العناصر الشيوعية في الصين عندما تآلفت مع العناصر القومية في محاربة الاستعمار الياباني وغزوه المسلح للقارة الصينية.
ولقد لعبت الحركة الشيوعية في يوغسلافيا أدوارا مماثلة لتلك التي قامت بها الحركة الشيوعية في الصين من حيث أنها تسربت إلى القوات المسلحة والجهاز الحكومي والسلطة الشرعية التي كانت تحارب الاحتلال الياباني، فما إن تمت هزيمة النازيين حتى قامت العناصر الشيوعية في يوغسلافيا باستخلاص الحكم والسلطة من الحكومة الشرعية والقضاء على النظام الملكي والعناصر التي كانت تسانده؛ وتلك التي تعاونت مع الألمان الغزاة. وكان المارشال تيتو - زعيم الحركة الشيوعية في يوغسلافيا - وثيق الصلة بستالين وبالقيادة العليا للحركة الشيوعية العالمية التي كان المارشال اليوغسلافي من أبرز أعضائها، إذ سبق أن مثلها لدى الجيش الشيوعي الأسباني خلال الحرب الأسبانية الأهلية التي انتهت بفوز الجنرال فرانكو على خصومه الشيوعيين.
وأخذ المارشال تيتو يطبق في يوغسلافيا ما تلقنه من تعاليم ماركس وشروح لينين وستالين عليها عندما كان المارشال لاجئا سياسيا في موسكو وصديقا شخصيا لستالين.
وفي يونيه عام 1948 - بعد ثلاث سنوات من استتبات النظام الشيوعي في يوغسلافيا فوجئ العالم بخصومة علنية بين تيتو وستالين، وقطيعة حاد بين روسيا السوفيتية ويوغسلافيا الشيوعية، شغلت العالم في تلك الآونة وكانت حديث الناس في كل مكان.
فلأول مرة في تاريخ الحركة الشيوعية يشق عضو من أبرز أعضائها عصا الطاعة على موسكو ويعرض نفسه وبلاده لخطر (التأديب) الروسي الذي كانت جيوشه على حدود يوغسلافيا في البلقان وأوربا الوسطى الخاضعة للنفوذ السوفيتي.
ولكن يوغسلافيا ومارشالها استطاعا أن يحتفظا برأسيهما عائمين فوق الماء، وأن يضمنا لونا من المؤازرة العسكرية والسياسية من المعسكر الغربي - خصم الاتحاد السوفيتي - رغم أن يوغسلافيا ظلت بلدا شيوعيا في أنظمته ومبادئه وأهدافه ومراميه.
ولأول مرة سجلت قواميس اللغة كلمة (التيتوية) علما على الشيوعية (القومية) التي تعيش على نظام ماركسي بحت، ولكنها لا ترتبط بالحركة الشيوعية العالمية عن طريق مركزها الروحي والإداري في موسكو.
وليس المهم أن نتعرف هنا دقائق المراحل التي تمت بها هذه القطيعة بين البلدين الشيوعيين - بين موسكو والمارشال تيتو ربيبها السابق، إنما المهم أن نأخذ بما يؤكد معظم الخبراء في شؤون يوغسلافيا من أن هذه القطيعة قد تمت وأنها ليست مزيفة كما يعتقد بعض الناس.
ووجه الخطورة في هذه القطيعة أنها تستند إلى خلاف جوهري على مبدأ أساسي من مبادئ الفكر الماركسي. . ألا وهو تحديد السلطة المركزية التي يمارسها (الوطن الأم) وهو أول بلد يتوطد فيه النظام الشيوعي - على بقية الدول الشيوعية التي تنتمي إليه بالولاء وتشاركه في السلوك وتؤمن بما يؤمن به من ضرورة تشييد المجتمع الشيوعي الأكبر في هذا العالم المترامي الأطراف.
ذلك لأن المارشال تيتو وأعوانه في الحكم لا يزالون يؤمنون ويطبقون التعاليم الشيوعية كاملة في يوغسلافيا، ولا يزالون يعتقدون بأنها أفضل النظم للعالم بأسره، ولا يزالون تواقين لمناصرة الحركات الشيوعية في كل مكان كما تشهد بذلك مواقف الحكومة اليوغسلافية في هيئة الأمم وفي خارج هيئة الأمم في دفاعهم عن وجهة النظر الشيوعية في معظم المشاكل الدولية التي دعين يوغسلافيا لإبداء رأي فيها، أو تولت - غير مدعوة - لإبداء الرأي، ولكن المارشال تيتو يرفض أن يمتثل لزعامة موسكو وهذا الرفض هو سر القطيعة بين تيتو وستالين.
ومما لا ريب فيه أن هذا الخلاف مبعثه حدة القومية اليوغسلافية ورفضها الانقياد لدولة أجنبية حتى لو كان في ذلك خروجا على المبدأ الماركسي الذي يصر على العمل الموحد والتناسق الدقيق بين الوطن الشيوعي المركزي (وهو الآن الاتحاد السوفيتي) وبين الدول الشيوعية المنتمية إليه كما يعترف وزير الدولة اليوغسلافي (ميلوفان دجيلاس) في عدد أبريل سنة 1951 في مجلة الشؤون الدولية اللندنية.
ثم إن هناك تطورا آخر على قسط كبير من الأهمية في مستقبل الحركة الشيوعية العالمية عقيدة وتطبيقا لتطور مجسم عن القطيعة بين موسكو والمارشال تيتو، وهو أمر يمس صميم التعاليم الماركسية وشروح لينين وستالين عليها - وهي إنجيل الشيوعيين في كل مكان. فالحركة الشيوعية في يوغسلافيا تمر الآن في انقلاب فكري خطير مبعثه نضال المارشال تيتو لبناء المجتمع اليوغسلافي على أسس ماركسية صادقة دون أن ينتظر العون والتأييد والإرشاد والتوجيه من الاتحاد السوفيتي ومن (الكومنفورم) الذي هو في الواقع دائرة عظيمة النفوذ تابعة لوزارة الخارجية الروسية. ولقد وجد المارشال تيتو نفسه منفردا في مسعاه يواجه تحديا عنيفا في منطقة النفوذ الشيوعي في أوربا الشرقية والبلقان ويتقاعس عن الارتماء كليا في أحضان المعسكر الغربي.
ولكن الغزل السياسي والدبلوماسي الذي أخذ يزداد في الآونة الأخيرة بين يوغسلافيا وبين دول أوربا الغربية وأمريكا الشمالية شق الطريق إلى صميم المجتمع اليوغسلافي الشيوعي وحمل إليه ألوانا من الفكر والأدب والفن الغربي (الرأسمالي) فأوجد تشويشا في الفكر والثقافة والعقيدة الشيوعية السائدة بين ولاة الأمور في يوغسلافيا وبين طبقات المجتمع اليوغسلافي. فالأفلام الأمريكية، والقصص والبحوث الفرنسية، والصحف والمجلات البريطانية، وجوقات الموسيقى والمسرح الأوربية والأمريكية. . أصبحت الآن أشياء مألوفة لدى المواطنين اليوغسلافيين، بعد أن انقطعت صلتهم بالحياة والفكر الغربي عشر سنوات طوال.
ونتج عن هذه الغزوة الثقافية أن تأثر عدد من أبرز أعضاء الحزب الشيوعي في يوغسلافيا، وصناع السياسة وقادة الفكر فيها بهذه التيارات الفكرية، وظهر هذا التأثير في موجات من النقد الخافت الموجه إلى النظام الشيوعي وأساليب تطبيقه؛ الأمر الذي أزعج المارشال تيتو وأعانه الخلص من الماركسيين المتعصبين للتعاليم الشيوعية. وقد أعرب عن هذا الانزعاج المارشال نفسه في خطاب ألقاه مؤخراً، ندد فيه بهذه الشعوبية وود لو أن يوغسلافيا طهرت نفسها من هؤلاء الشعوبيين، حتى أو استدعى ذلك إقصاء مائة ألف شخص من عضوية الحزب الشيوعي. . وهذا تعبير يعكس ما يتعرى المارشال من قلق وانزعاج.
وكرر (موشي كرولجي) وزير خارجية تيتو هذا التنديد في تصريح آخر حذر فيه هؤلاء الشعوبيين بأن من حق الدولة الشيوعية ومن واجبها أن تضع حدا للتيارات الشعوبية التي أخذت تنتشر في أوساط المجتمع اليوغسلافي بفعل البضاعة الفكرية الواردة من أوربا الغربية وأمريكا الشمالية.
وقد عزز المارشال تيتو القول بالعمل، فأخذ يقصي عن مراكز الحكم نفرا من أهم أعوانه من الذين ألموا بهذه الشعوبية لكنه لم يستطع أن يضع حدا لهذا الاتجاه الطارئ، فلم يفرض رقابة على البضاعة الفكرية الواردة من أوربا الغربية وأمريكيا الشمالية خشية أن يفقد عطف المعسكر الغربي بعد أن اختار القطيعة التامة مع المعسكر السوفيتي.
ولم يجد تيتو بدا من أن يلجأ إلى المساومة. فاختار نفرا من قادة الفكر الشيوعي في يوغسلافيا وكلفهم بوضع تفسير جديد للتعاليم الشيوعية يوفق بين جوهر الفلسفة الماركسية وبين بعض النظريات والمبادئ السياسية والاقتصادية والثقافية التي تعيش عليها الدول والمجتمعات في أوربا الغربية والعالم الجديد وتوخى هذا التفسير الجديد أهدافا محدودة منها التأكيد بصلاح الشيوعية لتشييد المجتمع المثالي ليوغسلافيا ولجميع الشعوب.
ومنها رفض أساليب ستالين ومكتبه السياسي وسياسة (الكومنفورم) لبناء المجتمع الشيوعي. انتقدها انتقادا لاذعا ووصف الاتحاد السوفيتي بأنه دولة استعمارية سلاحها البطش والعدوان.
ومن هذه الأهداف كذلك تحرير الجاهز الحكومي في يوغسلافيا الشيوعية من المركزية الصارمة، واقتباس نواح من فن الإدارة (الديمقراطية) المصطلح على أتباعها في الغرب، بحيث تنتفي من المارشال تيتو وحكومته التهم (الديكتاتورية) الموجهة إليه من أوساط الغرب ومن بعض الأوساط اليوغسلافية التي تأثرت بالغرب وآرائه ومعتقداته وتحليلاته السياسية عن الوضع اليوغسلافي.
وأخذ التفسير اليوغسلافي الجديد للشيوعية يتفلسف ما استطاع ليجعل من المارشال تيتو صورة تخالف الصورة المعهودة في الغرب عن ستالين؛ وهي صورة الحاكم المستبد الذي لا ورد لأمره، والذي يستند في تنفيذ مآربه إلى جهاز دقيق من البوليس السري، فيتعقب الناس ويسترق آراءهم ويبطش بهم إذا ألمت بهم شعوبية أو أضمروا سوءا للعهد القائم.
وخلاصة القول في هذه الإيديولوجية الشيوعية الجديدة التي يحاول تيتو وباسطتها التوفيق بين ماركسيته ورأسمالية أصدقائه الجدد في المعسكر الغربي. . أنها كما يقال وزير الدولة اليوغسلافي (ميلوفان دجيلاس).
(استنباط فكري لا سابق له. فبلادنا الصغير (يوغسلافيا) بلاد جريحة ولم يكتمل نموها بعد. وعليها أن تناضل لا لتنمية مرافقها فحسب بل لصيانة كيانها القومي).
أليست هذه المحنة التي دفع إليها الشعب اليوغسلافي أشبه بالمحن التي تنتاب معظم البلدان في آسيا وفق شرفنا الأوسط؟ - بلاد متخلفة تحاول أن تنمي مرافقها وتقوي كيانها القومي في آن واحد، وفي وجه تيارات سياسية واقتصادية وثقافية تهب عليها من الفريقين المتخاصمين اللذين يهيمنان على مقدرات العالم هذه الأيام.
نيويورك
عمر حليق