مجلة الرسالة/العدد 1002/إلى القوي الأمين الرئيس اللواء محمد نجيب
→ نحو بعث جديد | مجلة الرسالة - العدد 1002 إلى القوي الأمين الرئيس اللواء محمد نجيب [[مؤلف:|]] |
التيتوية ← |
بتاريخ: 15 - 09 - 1952 |
من شيخ في الشام
يا سيدي:
// لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... قد كنت شهما فأتبع رأسها أذنبا
وما كان فاروق (على قبح سيرته، وتسخيره عقله لشهوته وسلطانه للذته) رأس الشر، بل كان ذنبا طويلا من أذنابه. . وما كان فاروق أصل الفساد، بل كان فرعا عاليا من فروعه، سمق حتى بدا، وبسق حتى أظل، وإن كان بعش الشر كالعقرب، أخبث ما فيها الذنب، ومن الظل ظل ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب.
إن رأس الشر التربية التي صنعت فاروق. وهذه الحياة المستهترة المنحلة التي مكنت لفاروق. . ومادام الجذع قائما، والتربة منبته، فإنه سيخلف الفرع المقطوع، فروع.
وما فاروق؟ ولد نشئ على أن يعطي كل ما يطلب، ويمنح كل ما يريد. على غير توقى ولا حياء. ما يعصمه من خوف الله عاصم، ولا يمنعه من هيبة الناس ما يمنع أوساط الناس، فأدت به البداية على هذه النهاية. ولو كان الزمان مقبلا، والتربية صالحة والأمة نقية دينة كما كانت أمة صدر الإسلام، وربي فاروق على ما كان يربى أبناء المسلمين في ذلك الزمان، لكان (الملك الصالح) حقا.
وما دام هذا الفسوق باقيا، والتكشف والاختلاط والفساد، ومادام في الناس آلاف يعيشون عيش انطلاق وراء اللذة، وسعي لنيل الشهوة، من حل ومن حرمة.
وما دام في أطفال آلاف يربون الآن على نحو ما ربي عليه فاروق، فمن يأمن أن ينجم إذا أو بعد غذ من ينال منهم على فساده سلطانا فيكون شرا على الناس من فاروق؟
فإذا أردت الإصلاح يا سيدي حقا. وأنت لا شك تريده، فاقطع أصل شجرة الفساد، وأسحق رأس الأفعى، واستأصل بذور الداء، فإنه لا يكفي أن تفقأ الدمل، ولا أن تدفع (النوبة) إن ذلك يريح المريض ولكنه لا يشفيه. ما الشفاء إلا قطع أسباب الداء. ووقاية الجسم من عدواه، وتقويته حتى لا تؤثر فيه العدوى ولا يكون ذلك إلا بمحاربة الدعارة ومظاهر الإثم ودواعيه أولا ثم بتشجيع الزواج الحلال، ليغني عن الزنا الحرام، ثم بإصلاح المدارس، وتنشئة الناشئة على خوف الله. وكراهة المعصية، وعلى الرجولة والعفاف وابتغاء المعالي.
ولا يقولن أحد ما شأن (شيخ في الشام) بالإصلاح في مصر فإن المسلمين أمة واحدة وجسد واحد. والإسلام لا يعرف هذه الحدود. وإن النصح واجب. لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ثم أن هذه الفساد الذي نشكو منه إنما جاءنا الصلاح (ولا حياء في الحق من مصر، فلعل مصر إن حلت جاءنا الصلاح من مصر، وهذا (الشيخ) بعد ذلك مصري قدم الشام جده الأدنى، فهو مصري الأصل، شامي المولد، عراقي تارة، حجازي تارة.
في الشامي أهلي وبغداد الهوى وأنا ... بالرقمتين وبالفسطاط إخواني
في مصر يا سيدي ست مدارس تعلم الناس الفساد: مدرسة التكشف في الحدائق والشوارع الحفلات والشواطئ، ومدرسة المجلات، ومدرسة الإذاعة، ومدرسة الأفلام، ومدرسة الملاهي. وهذه المدارس الرسمية التي وضع بذور الشر فيها (دنلوب)، ورعاها حتى نبتت من بعده (دناليب. . .).
أما التكشف فلقد عشت في مصر دهراً، ورأيت منه عجباً، أفخاذا بادية، وعورات ظاهرة، في حديقة الحيوانات وسائر الحدائق، وعلى العربات البلدية، وفي الأعراس التي تقام على السطوح. ولقد رأيت والله رجالاً يستحمون عراة لا يسترهم شيء تحت جسر الملك الصالح حيث يلتقي من أعظم شوارع مصر، طريق الجيزة وطريق الفسطاط، وخطا (ترام) وسبيلا (أتوبوس)، ورأيت بنت تنزل في الماء كما خلقها الله - أي والله العظيم - لتغسل طبق فجل لتبيعه. أما العرى على شواطئ فشئ أفظع من أن يوصف، وإن كنت زرت مصر مراراً وأقمت فيها سنين ولن أره بحمد الله قط أما المجلات الأسبوعية المصورة فلقد كانت معمولاً لهذه الأخلاق، سارت على طريق معبد، وفق خطة موضوعة، لإضعاف الأمة بصرف شبابها إلى الشهوات، وشغلهم بالغرائز الجنسية، عن الجهاد الوطني، والتسلح بالرجولة والقوة والصبر. . ومحاربة المستعمر. ولقد بلغت منا هذه المجلات أكثر ما بلغته جيوش الاحتلال جميعا، وكانت أنفع لأعدائنا من كل ما ساقوه إلينا من حملات، وما أنفقوه على حربنا من أموال.
ثم جاءت هذه الأفلام:
هذه الأفلام التي بحت الخناجر، وبريت الأفلام، وامتلأت الصحف بالكلام عنها، وبيان شرها، وسوء أثرها في نفوس رائيها، أفلام لا موضوع لها ولا حوار، ولا تمثيل فيها مثل تمثيل الناس، ولا إخراج ما فيها إلا التخنث والخلاعة والسقوط والخزي ورقص البطن، والتهريج البارد، والتقليد السمج، حتى صار لقب المصري في فلم علامة على سقوطه وانحطاطه، وصار المهذب من الناس والشريف ومن يعرف لنفسه قدرها يتحامى هذه الأفلام ويحمي أولاده منها، وصار من المعروف أنه لا يرتاد دورها إلا العوام والسوقة والرعاع وسفلة الناس، ولا يخرج مع ذلك الكثير منهم إلا وقد ملأ نفسه التقزز والاشمئزاز و (القرف. . .).
إن هذه الأفلام دعاية على مصر لا لمصر، لو أنفق اليهود نصف أموالهم، ما استطاعوا أن يصلوا إلى بعضها، وهدم لكل ما تبنيه المدارس وما يقيمه المعلمون والمصلحون، ودرس في التخنث، وسقوط الهمة، والبعد عن عزة الإسلام وخلائق العرب، وفصاحة اللسان، والرجولة والإباء. وإن محاربتها أوجب عن محاربة الكوليرا واليهود، لأن الكوليرا تفتك بالأجساد، وهذه تفتك بالأعراض والأخلاق، واليهود وراء الحدود، وهذه منا وفينا.
أما الإذاعة فقد كان من الممكن أن تكون مدرسة ليس لها نظير وأن نجعل منها أداة للإصلاح لا يستعصي عليها فساد، ولكنا لم نتخذها مع الأسف إلا أداة للفساد. ولم نجد شيئاً نذيعه فيها إلا الأغاني، أغان دائماً وأبداً، كأننا أمة من الصراصير في الصيف لا تعرف إلا الغناء.
أغان ليس فيها نصاعة البيان، ولا روعة الأدب، ولا حلاوة الأنغام، ألفاظ عامية غثة باردة، لا وزن لها ولا رنين ولا قافية، كلها دعوة إلى الشهوة، وإثارة الغزيزة، وتصريح بطلب الفاحشة، ولو شئت ضربت الأمثال، ولكني أنزه قلمي عن أن يجري بألفاظها، أو أن يشرف بذكر اسمه أحداً من أصحابها.
لقد كانت الأغاني الأولى، أغاني حب وشوق، ونداء روح لروح، ومناجاة قلب لقلب. وهذه صرخة داعرة من أفواه فاجرة.
ولقد سكتنا من عجزنا وضعفنا عن إنكار منكرات الملاهي والحانات، وحمينا أنفسنا منهال وأهلينا، فما معنى أن تأتي الإذاعة فتنقلها إلى دورنا رغما عن آنافنا، وتسمعنا ما يكون في الأفلام الخبيثة من أغان، وأن تنقل إلينا حفلات آثمة بكل ما فيها. وإن نحن سددنا الراد عنها جاءنا الصوت من بيوت الجيران الذين يفتحونه على مصراعيه، فيزعج كل راد دائرة قطرها مئة متر. وما معنى أن نحرم للنام إلى ما بعد نصف الليل لنسمع هذيان حفلة من هذه الحفلات، أو غناء مغنية من المغنيات؟ أليس في الناس مرضي؟ أليست لنا أشغال؟ ألا نحتاج إلى النوم. أنعطل أشغال النهار كله أو نقضيها مرضى لأن الآنسة أم كلثوم كانت تغني طول الليل؟ وإن كانت ليلة جمعة، ليس بعدها عمل. . . هل كانت ليلة الجمعة في نظر الإسلام للطاعة والقيام، أم لسماع أم كلثوم؟
وما معنى أن تذاع كل أغنية مرة ومرتين وعشرا وعشرين نملها ونشعر أنها خرجت من أنوفنا، وهبها أغنية جيدة فهل في الدنيا ألذ من الفراني والبقلاوة والكنافة وما شئت من هذه الألوان، أطعم رجلا منها أبدا، لا تطعمه غيرها في الصباح والظهر والمساء يشته الخبز والبصل. . . ثم إنها كانت مدرسة شر لأطفالنا، فما منهم إلا حافظ لبعضهم بدل حفظه آيات الكتاب، والحكم والآداب. وصار أبناؤها يرددون أسماء الممثلين والممثلات والمغنين والمغنيات، عوضا عن ترديد أسماء الأبطال والعلماء.
بقيت المدارس يا سيدي. وأنا لا أتكلم الآن عن برامجها وإهمال تعلم تاريخ الإسلام، وجغرافية بلاده؛ فإن لذلك حديثا آخر طويلا، ولكني متكلم عما يتصل منها بالفساد الخلقي وهو ما عقدت له هذا المقال.
المدارس يا سيدي تفسد بناتنا، وتعلمهن التكشف وتسوقهن إلى شفا المحرمات. وكم من متسترة ما تعلمت السفور إلا في المدارس، وكم من متمسكة بعادات البلاد وأوضاع الإسلام. ما جرأها على الخروج عليها إلا المدارس.
أليست المدارس تجبر البنات البالغات على كشف أفخاذهن في درس الرياضة في المدرسة؟ ألا يأتي المفتش مثلا فيراهن على هذه الحال؟ ومن في المدرسة من المعلمين الرجال؟! أليست المدارس تعلمهن الرقص التوقيعي، وفي الشام رقص السماح. وهو طريق إلى الفاحشة، وباب من أبواب الفساد.
ألا تكشف العورات في العرض الرياضي العام أمام الآلاف من الرجال وتأتي هذه المجلات الآثمة فتنشر صورة ذلك في الدنيا كلها، حتى يراها كل من لم يكن رآها.
والاختلاط في الجامعة؟ هل يرضى به الإسلام؟ هل تقره سلائق العروبة؟ أما رأيتم من مفاسده وشروره ما لا يجوز إبقاءه يوما واحدا؟ وهذا طرف مما نشكوه من المدارس، ولقد جاء مرة وزير للمعارف صالح اسمه مرسي بدر. شرع في الإصلاح، فخاف لصوص الأعراض أن يسد دونهم الأبواب والنوافذ، فقاموا عليه حتى أخرجوه. فخذ يا سيدي بالإصلاح فهذا طريقه، واقض على الفساد فهذا رأسه، واقطع شجرة الشر من جذورها، فإن الرجاء منوط بك، والأمل معقود عليك، وإلا تستطع ذلك لم يستطعه أحد بعدك.
أخذ الله بيدك، وسدد خطاك، وجزاك عن الحق والحرية والشعب والأخلاق خير الجزاء، وجعل كل رجال الانقلابات، وأصحاب السلطات، مثلك.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
دمشق
(ع)