مجلة الرسالة/العدد 100/هراقليوس في المعبد
→ التربية الخلقية والاجتماعية في المدرسة | مجلة الرسالة - العدد 100 هراقليوس في المعبد [[مؤلف:|]] |
شاعرنا العالمي أبو العتاهية ← |
بتاريخ: 03 - 06 - 1935 |
البطل
للأستاذ المعروف الأرناءوط
(أي صديقي معروف! إنك لتغمر أشخاص عالمك الذي صغت في هذه الرواية البارعة، بشعاع رقيق يحفل بالطيوب واللحون والألوان والصور.
إنك تفيض على كل ما تكتب بركة الحياة والنور، فالأشكال تتكلم، والصور تغني، والأخيلة تتفتح عن ألوان لماحة كالطيف، مفترة كالصباح.
فهنا حياة كاملة لجبل من الناس تنبسط وتأتلق حتى تملأ الأكوان بسعتها وإشراقها.
وهنا الحدائق تتدفق بأنهار كأنهار الجنة تتنهد وتغرد، وتتلفت وتزهى، وتعبق حافاتها بخمائل الحلد وأزاهير النعيم، ثم تذوب في الجو الساهم الهائم أنفاسا مشبوبة بالعطر، لاهبة بالغناء طافحة بالشوق.
فمن أحب أن يشعر بهنائة الفن، ورغادة الأدب فليقرأ (عمر بن الخطاب).
ومن فاته أن يرى إلى جنائن عبقر، وحدائق الشرق المسحورة، ويتسمع إلى حكايات الحب وأناصيص الحرب، وينظر إلى مواكب المجد وكتائب النصر فيلتمسها في هذه الملحمة الكبرى!)
أنور العطار
سرب (هراقليوس) في أنحاء الكنيسة بين العمد والأقواس والحنايا والقناطر والتصاوير والشموع، فكأنه في سروبه طائف ألقت به دنيا الأموات إلى دنيا الناس، وما كان قاهر الفرس وسيد الكتائب الظافرة في أفريقية وأوربة ليستطيع أن يكافح شجونا علقت في نفسه وملكت عليه إحساسه وشعوره، وتلك هي شجون لم يحسر عنها أمام خلصائه وأصفيائه استبقاء لزهوه وكبره، وحرصا على ذلك المجد الذي بلغ نواحيه في عمره الطويل، ولكنه أحب أن يلقي بحزنه وشجوه إلى هذا الليل الغاسق الذي بسط جناحيه على غابة تمور بالصور والدمى والمرمر والبرفير واللآلئ واليواقيت، وقد يكون من الخير لنفسه أن تطفو روحه على هذه المشاهد والاشياء، فكان كلما مر برواق من هذه الأروقة الممتعة هتف الجرح بقلبه وحسه، فترسل في مشيته، وأقبل إلى العمد المرمرية الماثلة فترفق على جذوعها وجعل ينظر إلى أضواء الشموع، ثم إلى هذه الصور التي قبست شحوبها من نفوس عمرت بالألم والتقى والورع، فإذا صدف عن العمد المرمرية ونازعته نفسه إلى الطواف بالأماكن المقدسة، انبسط أمامه فضاء الكنيسة واتسع، وخيل إليه أن الحوائط والجدر تفر منه وتنأى عنه، فما يستطيع لحاقا بها، ولا تستطيع أن تسايره في منازعه فتسكن وتستريح؛ وكان في بعض الأحايين لا يجد معدى من الوقوف أمام هذه الصور الملونة رجاة أن يتعرف إلى أصحابها، فيفتح عينيه ويمد يده إلى مذبح صغير ازينت أطرافه وجنباته بالذهب، ويأتي إلى الصور ويقرأ أسماء الرسل على الضوء، ثم لا تعجبه هذه الأسماء فيرتد عنها في مثل خفة الوميض، ويطرح الشمعة إلى حضيض البيعة، فيخبو نورها، ثم لا يغمه ويحزنه أن يستأنف طوافه في ليلين راعبين: ليل نفسه، وهذا الليل الذي يغشى المعبد!
وربما كان من أحب أمانيه ألا يقول شيئا لأصحاب التصاوير، وقد يكون من أرضى هذه الأماني أن يلقي بدخيلة نفسه إلى المسيح وحده، وذريعته في الحرص على صمته حتى يخلو إلى صورة السيد المسيح أنه ناضل ونافح في سبيله، فأولى للنبي الذي نصره على الوثنية وبارك سلاحه في سوق الوغى أن يفزع إلى الرسول العبقري، وإنما يضيره أن يقص حياته على صور مكان أصحابه من طرازه وعنصره!
ولقد وقف (هراقليوس) بعد إفلاته من القبر المقدس بجوار صخرة قيل إن ملكا من السماء وقف عليها ليتحدث إلى العذراء مريم، فتهافت عليها وتمسح بها، ثم دخل إلى بيعة صغيرة أسماها نصارى القرون العافية (معبد الملائكة)، ثم لم يلبث أن ازور عنها وجاء إلى بيعة محاذية في رحبتها قطعة كبيرة من المرمر الرمادي قيل إن السيد المسيح صعد عليها وتراءى لمريم المجدلية، وعليه لباس جنان يحمل الورد، وكانت البيعة الصغيرة تسبح في ظلام شديد، فثنته الجهمة الراعبة عن شعور الرجل التقي، فجثم مصليا على المرمر وحدق إلى سماء المحراب كأنه يريد أن يتعرف المكان الذي خرج المسيح منه بعد دفنه، ولم يطل مكثه في المحراب، فعافه وغشى المعبد الذي ظهر فيه السيد للعذراء بعد بعثه، فطاف بودائعه طوفة الحاج المنيب، وكانت المصابيح المذهبة الملونة تضيء جوانب المعبد، فرأى هراقليوس على وميضها صورة تمثل المسيح ووالدته، فرق للصورة وابتسم، ولكن ذلك العزاء الذي تمناه لم يخالط نفسه، فجمع ذيول ردائه وخرج من المعبد ليدأب في طوافه، فاستقبلته العمد المرمرية الرفيعة، كأنها خيالات الموتى، فأخافه ما عليها من سعف النخيل وورق الغار، وأنمى مخاوفه احتراق البخور في كل ناحية من نواحي البيعة الكبرى، وإطلال الصور على الحوائط والجدر، وكان يخيل إليه أن حجه قد انتهى، فينبغي له وقد بلغ غايته من زيارة الأماكن الطاهرة أن ينقلب إلى أحراسه الذين أبوا مفارقة أبواب الكنيسة قبل فراغه من حجه، فلما هم أن يخرج لم يستطع أن يتعرف الأبواب، فقد امتد صحن الكنيسة وفاح حتى مائل الحرجة الغبياء، فألقى بنفسه إلى تيه راعب، وبلغ به المطاف محراب القديسة (هيلانة) المائل إلى يساره، فشخص إليه وقرأ اسم هيلانة منقوشا على المرمر بحروف إغريقية، وهو لا يجهل أمر هذه المرأة التي لبست التاج في كنيسة الرسل، وابتعثها شغفها العنيف بقصة حياة المسيح على فراق القصر، فجاءت إلى بيت المقدس لتبحث عن خشبة الصليب، فلما عثرت عليها بالغت في تكريمها، ثم رفعت هذه الكنيسة تخليدا لذكريات تلك الحياة الماجدة!
لألأ الفرح على جبين هراقيلوس فتشاجى ورق، وجعل يستعرض تاريخ تلك المرأة التقية التي أزجاها الورع الشديد العنيف إلى الإيغال في منافحة الوثنية، فأكبر حياتها. ثم فاضل بين هذه الحياة وحياته، فراقه تساوق عجيب في الحياتين، ولذه أن تبدأ المرأة العاقلة أمرها في البحث عن الصليب حتى حصلت عليه، وأن يبدأ هراقيلوس أمره في إرجاع الصليب إلى مكانه الأصيل بعد انتصاره على جيوش ملك الملوك كسرى!
وكانت هذه المفاضلة التي ذهب إليها ساعة وقف إلى جانب المحراب مثارا لذكريات نبيلة في نفسه، فاطمأن البطل المقارع إلى خاتمة حياته، ووثق بقدرته على اجتناء النصر حتى يغيب في رمسه! وما عاد يخيفه هذا البغض الذي يشعر به الناس في الشام وفلسطين ومصر، بل عاد هراقيلوس يخاف أمر هذه الصحراء التي أخرجت الأبطال والمساعير إلى مشارف الشام للثأر بدم الرسول الذي قتله أمير من غسان! ومن أين لهذه الصحراء الغارقة في الرمال، والتي لا يسمع لها نشيد في البلاد الوارفة الظل، حظ هراقيلوس اللامع وجده الساطع؟ وهذا الملك الطويل العريض الذي استعبد الشعوب وأذل الملوك؟ بل من أين لهذه الصحراء الغطشاء السادرة في حر الهاجرة، هذه الأنهار الجارية، وهذه البحار الطاغية، وهذه الشطآن التي لا حد لها ولا انتهاء!
قد تغري الحماسة فرسان الصحراء بالوثوب على القرى والمسالح، ولكن دون وصول هؤلاء الفرسان إلى المدن الضاحكة على ضفاف الأنهر وشواطئ البحار، حمية هؤلاء الملوك الذين مشوا في ركاب قيصر لقتال كسرى في مدائنه! وبسالة الجيش الذي ظفر بأسلاب العدو في جبال الألب وفي سهول مقدونيا، وعلى شواطئ البحر اليوناني!
وماذا يستطيع (فروة بن عمرو) الذي ثار على سيده ومولاه أن يفعل، وفي جيش هراقيلوس قواد ما تزال صدورهم تخفق بتلك الأناشيد التي سمعها العراق وسمعتها فارس، ولا يزال صليلها الراعب يرعد في سمع هذه الدنيا التي لا يرتفع لها علم بجوار علم قيصر!.
لقد همس هراقيلوس باسم فروة، وهو منحدر إلى الهاوية العميقة التي نقرت على جلامدها كنيسة القديسة هيلانة، همس الساخر العابث، ولما جاز السلاليم إلى ذلك المنحدر الأوهد رفع يده إلى الفضاء كأنه يتوعد الفيلارك فروة بن عمرو الجذامي، ثم تضاحك، حتى لقد رن ضحكه في جوف الهاوية وأردف صائحا: (ما أنا بحاجة إلى قتالك أيها الفتى الذي ابتعثته أماني الشباب على الزراية بسيد الجيوش وأمير الجحافل! فمثلك لا يقاتله رجل إلا من طرازه ونوعه، وقد وفقت في العثور على الرجل فاليكه، فأنه الحارث الغساني أمير دمشق وسيأتيك من حيث لم تحذر، ويقاتلك من مأمنك).
جاز قيصر السلاليم في رفق وهوادة، فاستقبلته الظلمة الفاحمة، وارتمت على جبينه الرطوبة، وسرت إلى نفسه عفونة ما كان يستطيع عليها صبرا، ومع هذا كله مضى هراقيلوس لما شاء، ودأب في انحداره حتى انتهى إلى الهاوية، فإذا عليها سحب من ليل صارد، وإذا الرطوبة التي استقبلته على وصيد الباب تستقبله عند كل خطوة، وإذا هو لا يبصر غير بريق الفسيفساء على الحياط والجدر والحنايا، فانكمش وتقاصر وردت إليه هواجسه، وثابت إلى قلبه وساوسه، وامتلأ رأسه بالتهاويل والتصاوير، فاطرح عبقرية الرجل الأريب، وأخذته جنة الرجل السروب، وفكر في الرجوع على عقبيه فما جرؤ على رجعة وشيكة، فقد سالت نفسه على الحياط والجدر، وأنمى مخاوفه بصيص من ضياء يتسرب إلى حضيض البيعة من ثقوب في قبتها السامقة، وقد تسايل على الجدر والحياط فضوءها، فنظر هراقيلوس إليها فإذا عليها تصاوير غاتمة شاحبة تمثل أشخاصا ذوي وجوه كامدة، وقد قعد هؤلاء القرفصاء، وحسروا عن صدورهم فإذا هي قد أكلتها القروح وأثخنتها الجروح، فسال صديدها على أطمار بالية عافية، وبين هؤلاء المناكيد المشائيم فقراء متسولون يغشى وجوههم الناصلة أثر غير يسير من بؤس ويأس، ومن حولهم فتى رائع الجمال، ضاحك الأسارير قد سدر شعوره الشقر على منكبيه حتى ماثل المسيح في ملامحه البارعة؛ ولكنه ضرير لا يبصر ما حوله!
خيل إلى هراقيلوس وهو ينظر إلى هذه التهاويل أنه في مكان يسوده العذاب، فتلطفت نفسه ورجفت أسنانه ووضع يده على عينيه كأنما هو يحاول ألا يرى إلى هذه الأشياء الجاهمة، ثم فكر في الرجوع إلى المعبد، ليلحق برجاله الذين ينتظرون معاده على الأبواب فما استطاع إلى ذلك سبيلا، فلقد أمالته مخاوفه إلى الإيغال في الطواف فمشى بين صفين متقابلين من أشباح وصور ثم لم يعد في ميسوره أن يدأب في طوافه، فوقف تحت قنطرة المعبد وجعل يستمع لفحام مؤلم ينبعث من صدره.
ليس بين هذه المحاريب التي غصت بها أنحاء كنيسة القبر المقدس ما يماثل محراب القديسة هيلانة في ظلمته وروعته، وفي ذكرياته الحافزة المثيرة، فلقد يستطيع الإنسان أن يمر بالمعابد جميعا وينسل إلى الأروقة جميعا، ويتجسس العمد والتصاوير جميعا فلا يحس خوفا، فإذا ألقت به حظوظه العاثرة إلى معبد القديسة هيلانة بدت له نواحيه وأطرافه صامتة ذاهلة، فإذا تدفق في سيره ألفاه خياليا عاطلا إلا من هذه الأشباح والأطياف الجاثمة على سلاله ودرجاته وعند مداخله، وإلا من هذه التصاوير التي لا تفارق جدره وحياطه، فإذا طاف بهياكله ومنابره لم تتبدل في عينيه هذه الصور التي أبصرها على عمده وحناياه وأقواسه، ثم لا يلبث أن يفر من هذا المكان الراعب الذي يماثل في تهاويله وتصاويره معابد الوثنية.
لم يجد هراقيلوس معدى عن الصلاة فخافت بصوته لعل صلاته تنسيه هذا الضجر الأحمق الذي علق بنفسه، أو لعل هذه الصلاة التي همس بها في الراموس الراعب ترجع به إلى حزمه ومضائه فينقلب على أحلامه وهواجسه، ويجفو هذه العزلة الجاهدة، ويفيء إلى سريه صحيح العقل موفور الذكاء، ولكن الرجل الذي أوفى لنصرانيته وبر بمسيحه ما كان يجد في هذه الصلاة التي رددها أمام التصاوير، ذلك الصفاء الذي كان يشتاقه، وذلك لأن ماضيه مثل له في الراموس النابي، فزحمته طيوفه وأشباحه، وخرجت على فمه أسماء معاركه وملاحمه، وانفلتت من صدره ذكريات مخازيه ومساويه، فوازن بين انتصاره على الوثنية وبين إيغاله في تنكيد أبناء الشيع النصرانية، فرجحت كفة رذائله على كفة فضائله، فتشاجى ورق وهام على وجهه في فضاء المعبد حتى بلغ هيكله المرمري، فوقف خياله كأنما هو يريد أن يعترف بذنبه، أو كأنما هو ينزع إلى إلقاء جرائمه في هذا المكان المخوف، فذكر أمام الهيكل اسم: (مارتينا) زوجه، وقد نهاه البطريرك (سرجيوس) عن مخالطتها، فأبى ذلك مسايرة لميول قلبه، ثم تزوجها وألبسها لباس القياصرة ومشى بها إلى كنيسة أيا صوفيا من غير أن يفطن إلى عظيم ذنبه عند ربه.
وكان كلما طافت به هذه الذكر الشجية لا يمنع عينيه البكاء حتى لقد استفاض أنينه في أنحاء المعبد، فاستمعت لها التصاوير ووعتها السدفة، ثم غشيته ذهلة قاتلة، فجعل يهذي هذيانا بليغا، وانكفأ يخلط ماضيه بحاضره، وقذف فمه أسماء ضحاياه، وبين هذه الأسماء التي لا تحصى اسم فتاة وطئ قيصر عفافها في ليلة عاصفة بالبروق والرعود، وأرادها على فراق وطنها فخرجت منه إلى ربوع الشام وفي نفسها المحطمة من الذكر الراعبة ما ليس في كتاب.
وكان هذا الخوف الذي تولاه ساعة نظر إلى صورة الأعمى مبعث حيرته ومصدر وساوسه، فسأل نفسه عن هذا الجزع الذي غشيها وهو الزعيم الكمي الذي جاز بفرسانه شواهق إنطاكية وسهولها ليلحق بجيوش (كسرى) عند (تدمر) فتنة الصحارى، فلما فرت جيوش كسرى أمام كتائبه ثارت حميته واستأنف زحفه في أرض محصبة واعرة، حتى لقى كسرى عند دجلة فنهد إلى مقارعته وحمله عار الانكسار، ولحق به إلى المدائن وأقسره على إرجاع الصليب الذي حمله ملك الملوك من بيت المقدس.
وليس هذا كل ما فكر فيه، بل لقد ذهب في تفكيره إلى أبعد مدى، فتمثل دخوله إلى هياكل الوثنية في موكب ضاحك ينس تلك الحماسة البالغة التي لقيها في معابد (جوبيتير) و (منرفا) فوازن بينها وبين هذا الفتور الذي استقبلته به معابد النصرانية! وعيناه لا تزالان تنظران إلى صورة الفتى الأشقر الذي لا يبصر! (البقية في العدد القادم)
معروف الأرناءوط
-