مجلة الرسالة/العدد 100/شاعرنا العالمي أبو العتاهية
→ هراقليوس في المعبد | مجلة الرسالة - العدد 100 شاعرنا العالمي أبو العتاهية [[مؤلف:|]] |
محاورات أفلاطون ← |
بتاريخ: 03 - 06 - 1935 |
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ويجب أن نضيف إلى تلك الأدلة على أن حب أبي العتاهية لعتبة جارية المهدي لم يكن حبا صادقا، دليلا آخر هو ذلك الشكل الذي ابتدأ به حبه لها، وحب صاحبه لخالصة صاحبتها، فإن وقوف كل واحد منهما في الطريق لتمر عليه أي امرأة كانت، فيتفق أن تمر عليهما هاتان الجاريتان، فيقول أحدهما قد عشقت عتبة، ويقول الآخر قد عشقت خالصة، لا يدل إلا على أنهما كانا يريدان حبا كيفما اتفق، حبا يتخذانه وسيلة للظهور والمران على الشعر، لا حبا صادقا يملك عليهما حياتيهما وشعريهما، كما ملك ذلك على الشعراء العشاق قبلهما.
ولم يكتف أبو العتاهية باتخاذ عتبة وسيلة له إلى الاتصال بالمهدي، بل اتصل أيضاً بيزيد بن منصور خال المهدي، وكان بارا بأبي العتاهية، كثيرا فضله عليه، وكان أبو العتاهية منه في منعة وحصن حصين، مع كثرة ما يدفعه إليه، ويمنعه منه من المكاره، ومن أجله كان أبو العتاهية يتعصب لليمانية أخوال المهدي، ويمدحهم فيما يمدحه به من شعره، ومن ذلك قوله:
سُقيت الغيثَ عليك نورا ... فنعم محلَّةُ الملك الهمام
لقد نشر الإله عليك نوراً ... وخفَّك بالملائكة الكرام
سأشكر نعمة المهديَّ حتى ... تدور عليَّ دائرة الْحِمَام
له بيتان، بيتٌ تُبَّعِيُّ ... وبيت حَلَّ بالبلد الحرام
وقد اتصلت مدائحه بالمهدي فقربه منه، وعظم مقامه في دولته، ونال من جوائزه ما لم ينله غيره، وكان الأمر يصل بينهما أحيانا إلى التبسط في أوقات اللهو إلى حد تسقط في الكلفة، وينسى الفارق بين المهدي وبينه، ومن ذلك أنه خرج معه يوما إلى الصيد في بعض من حاشيته، فوقعوا منه على شيء كثير، وتفرقوا في طلبه، وأخذ المهدي في طريق غير طريقهم وكان معه أبو العتاهية، فعرض لهم واد فسيح، وتغيمت السماء وبدأت تمطر، فتحيرا في أمرهما، وأشرفا على الوادي، فإذا فيه ملاح يعبر الناس، فلجأ إليه وسألاه عن الطريق، فجعل يضعف رأيهما، ويعجزهما في بذلهما أنفسهما في ذلك الغيم للصيد؛ ثم ادخلهما كوخا له، وكاد المهدي يموت بردا، فقال له الملاح: أغطيك بجبتي هذه الصوف؟ قال: نعم، فغطاه بها فتماسك قليلا ونام، فافتقده غلمانه، وتبعوا أثره حتى أتوا إليه، فلما رأى الملاح كثرتهم علم أنه الخليفة فهرب، وتبادر الغلمان فنحوا الجبة عنه، وألقوا عليه الخز والوشى، فلما انتبه قال لأبي العتاهية: ويحك ما فعل الملاح فقد والله وجب حقه علينا، فقال: هرب والله خوفا من قبح ما خاطبنا به، فقال إنا لله، والله لقد أردت أن أغنيه، وبأي شيء خاطبنا؟ نحن والله مستحقون لأقبح مما خاطبنا به، بحياتي عليك إلا ما هجوتني، فقال: يا أمير المؤمنين كيف تطيب نفسي بأن أهجوك، فقال: والله لتفعلن فإني ضعيف الرأي مغرم بالصيد. فقال:
يا لابس الوشى على ثوبه ... ما أقبح الأشيب في الراح
فقال له زدني بحياتي فقال:
لو شئت أيضاً جُلتَ في خامة ... وفي وشاحين وأوضاح
فقال له: ويلك هذا معنى سوء يرويه عنك الناس وأنا أستأهل، زدني شيئا آخر. فقال: أخاف أن تغضب، فقال لا والله، فقال:
كم من عظيم القدر في نفسه ... قد نام في جُبةِ ملاَّح
وهذه حادثة أخرى له مع المهدي تدلنا على أن اتصاله به لم يكن اتصال الشاعر المستجدي الخانع، بل اتصال الشاعر الذي يعرف لنفسه قدرها، فإذا رأى شيئا أمامه من ممدوحه لا يرضى عنه، نسى فيه ماله وجوائزه، ولم يذهب فيه معه على ما يرضى هواه، بل يذهب فيه على ما يرضى نفسه هو، وإن كان يتلطف في ذلك بقدر ما تسمح به ظروف عصره في مخاطبة الملوك، وتهدئة ثائرتهم عند غضبهم.
دخل على المهدي وزيره أبو عبد الله، وكان قد وجد عليه في أمر بلغه عنه، وأبو العتاهية حاضر مجلسه، فجعل المهدي يشتم أبا عبيد الله ويتغيظ عليه، ثم أمر به فجر برجله وحبس، ثم أطرق المهدي طويلا فلما سكن أنشده أبو العتاهية:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلما كبرت عليه
تهين المكرمين لها بصُغر ... وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه ... وخذ ما أنت محتاج إليه
فتبسم المهدي وقال لأبي العتاهية: أحسنت، فقام أبو العتاهية ثم قال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيت أحدا أشد إكراما للدنيا، ولا أصون لها، ولا أشح عليها، من هذا الذي جر برجله الساعة؛ ولقد دخلت إلى أمي المؤمنين، ودخل هو، وهو أعز الناس، فما برحت حتى رأيته أذل الناس، ولو رضى من الدنيا بما يكفيه لاستوت أحواله ولم تتفاوت. فتبسم المهدي ودعا بأبي عبيد الله فرضى عنه، فكان أبو عبيد الله يشكر ذلك لأبي العتاهية.
فإذا قيل لنا كيف صار الفتى بائع الجرار إلى هذه المنزلة من علو النفس، بحيث يسمو ذلك السمو على وزير المهدي، إذا بدا للناظر غريبا أن ينقلب هذا الشاعر الماجن ذلك الانقلاب الذي يتنافى مع ماضيه كل المنافاة، فإن هذا لا يجعلنا نتعجل درس هذا الشاعر العظيم، ولا بد أن ننتظر ذلك الإرهاص إلى غايته، ونمضي في درسه مرحلة مرحلة.
ومن مدائحه في المهدي تلك القصيدة التي مدحه بها أمام بشار وأشجع السلمي وغيرهما من الشعراء، وقد إذن لهم المهدي فجلسوا وسكت أهل المجلس، فسمع بشار حسا، فقال لأشجع: من هذا؟ فقال أبو العتاهية، فقال: لا جزي الله خيرا من جمعنا معه، ثم أمره المهدي فأنشد:
ألا ما لسيدتي ما لها ... أدَلاَّ فأحمل أدلالها
وإلا ففيمَ تجنَّت وما ... جنْيتُ سقى الله أطلالها
ألا إن جارية للإما ... م قد أسكن الحب سربالها
مشت بين حور قصار الخطى ... تجاذب في المشي أكفالها
وقد أتعب الله نفسي بها ... وأتعب باللوم عذالها
فقال بشار لأشجع: ويحك يا أخا سليم! رأيت أحر من هذا؟ ينشد مثل هذا الشعر في هذا الموضع! حتى بلغ قوله:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلو ... ب لما قبل الله أعمالها
فقال بشار: أنظر ويحك يا أشجع، هل طار الخليفة عن فراشه طربا لما يأتي به هذا الكوفي؟
والناظر في هذه القصيدة يرى أبا العتاهية إلى هذا العهد يبتدئ مدائحه بالنسيب على عادتهم في ذلك، ولكنه لا ينسب بليلى ولا هند كما كان ينسب الشعراء قبله، وإنما ينسب بالجواري البغداديات الحسان، ليجاري في ذلك عصره الذي يعيش فيه، ولا يجمد على ما كان يجمد عليه غيره، ولم يكن مع هذا يعني بتطويل النسيب أمام المديح حتى يستفرغ فيه وسعه، بل يلم به إلماما، ثم يدخل في مقصده. قال صاحب الأغاني حدثنا الصولي، قال حدثنا الغلابي، قال حدثنا عبد الله بن الضحاك أن عمرو بن العلاء مولى عمرو بن حريث صاحب المهدي كان ممدحاً، فمدحه أبو العتاهية، فأمر له بسبعين ألف درهم، فأنكر ذلك بعض الشعراء وقال: كيف فعل هذا بهذا الكوفي! وأي شيء مقدار شعره؟ فبلغه ذلك، فأحضر الرجل وقال له: والله إن الواحد منكم ليدور على المعنى فلا يصيبه، ويتعاطاه فلا يحسنه، حتى يشبب بخمسين بيتا، ثم يمدحنا ببعضها، وهذا كأن المعاني تجمع له، مدحني فقصر التشبيب وقال:
إني أمنت من الزمان وريبه ... لما علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حر الوجوه نعالا
عبد المتعال الصعيدي