مجلة البيان للبرقوقي/العدد 9/حضارة العرب في الأندلس
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 9 حضارة العرب في الأندلس [[مؤلف:|]] |
الحرب ← |
بتاريخ: 1 - 11 - 1912 |
الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية
(تلخيص واستدراك)
نشرنا من هذه الرسالة في السنة الأولى من البيان نبذة هذا تلخيصها: قام الرحالة من الإسكندرية بنية الوفود إلى الأندلس سنة 345 للهجرة في مركب كبير لأمير الأندلس عبد الرحمن الناصر وكان هذا المركب قد قام من الأندلس إلى المشرق ببضائع للأمير بنية بيعها في ثغور المشرق والاستعاضة عنها ببضائع مشرقية فلما مر بالإسكندرية نزل فيه الرحالة ووجد به كثيرا من أهل المشرق يريدون الوفود إلى الأندلس ومن بينهم أبو علي القالي صاحب الامالي وابن حوقل وفضل المدينة المغنية وناس آخرون ثم اقلع المركب ومر في طريقه إلى الأندلس باقريطش كريد وهنا وصف الرحالة هذه الجزيرة بما يناسب حالها في ذلك العصر ثم قام المركب من اقريطش أخذا سمته إلى جزيرة صقلية ولما قارب الجزيرة لمح الرحالة أسطولا كبيرا على وجه الماء يغدو ويروح في بحر هذه الجزيرة وكان هذا الأسطول للعبيديين أصحاب صقلية ثم دخل المركب مجاز مسيني الواقع بين صقلية وبين قلورية كلابره جنوب ايطالية من بر الأرض الكبير أوربة وما زال حتى ارسي على مدينة مسيني وهنا أخذنا في وصف جزيرة صقلية وتقويمها وتاريخها - ولكن فاتنا إن نرسي بالمركب أولا على مدينة ريو الايطالية (رجيو) المقابلة لمدينة مسيني حتى يشاهد الرحلة عز العرب بها وبعد ذلك يعبر المجاز إلى مسيني ويتنقل بين بلدان جزيرة صقلية إلى إن ينتهي به التطواف إلى مدينة بلرم قصبة هذه الجزيرة ثم ينزل منها في مركب قادم من القسطنطينية بهدايا من قبل ملك الروم إلى عبد الرحمن الناصر - وذلك لان الرحلة علم أن أسطول المعز لدين الله الفاطمي يتأثر مركب الناصر أخذا بثأره إذا اعتدى هذا المركب الأندلسي وهو ذاهب إلى المشرق على مركب للمعز كما سيمر بك - فليفرض القارئ أن المركب الآن سائر في مجار مسيني ولم يرس على بلد بعد ومن هنا نستأنف القول في الرحلة - قال الرحالة. بعد إن وصف هذا المجاز بقوله - فرأينا بحرا صعبا ينصب انصباب العرم ويغلي غليان المرجل الخ الخ - إلى أن قال:
ثم تداركنا صنع الله مع السحر ففترت الريح ولان متن البحر وجاءت ريح رخاء زجت المركب تزجيه حسنة إلى مدينة ريو وكان ذلك في فجر اليوم التاسع ليوم انفصالنا عن الإسكندرية وما ارسي المركب على هذه المدينة حتى اقلع عنها كيلا يحسه أسطول العبيدين ويثأر منه وذلك فيما علمت أن المركب الأندلسي تحرش وهو ذاهب إلى بلاد المشرق بمركب للمعز معه كتب ورسائل فقطع عليه المركب الأندلسي وأخذه بما فيه - فتملكنا الذعر لذلك الخبر ونزت قلوبنا خوفا على أنفسنا ومن ثم اعتزمت إن انزل من هذا المركب على اقرب بلد يرسي عليه وكذلك نزلت منه عند إرسائه على هذه المدينة وحمدت الله الذي لا يحمد على المحبوب والمكروه سواه.
بيد إني ما انفصلت عن المركب حتى انفصل عني قلبي وسار مع من فيه وأصبحت المعني بقول القائل:
هواي مع الركب اليمانيين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق
ذاك انفصالي عن فضل المدينة التي هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وانس الوحيد وزاد الراكب ولا بدع فهناك الجمال الرائع، والظرف البارع، والشباب البض، والأدب الغض، ورقة الحاشية، وخفة الناحية، وعذوبة المعاشرة، وحلاوة المحاضرة.
وحديتها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
أن طالما لم يملل وأن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المستوفز
فكأن لفظ حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا
حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا
تنسى الغوا معاده ... وتكون للحكماء ذكرا
وما أنس من الأشياء لا أنس صوتها العذب الذي كأنه مجاج النحل وغناءها الحبيب إلى النفوس حتى كأنه ذوب جميع القلوب وقد كان يخيل إلينا وهي تغنينا في المركب أنا في الفردوس يطربنا نبي الله داود. وأين لا أين مزهرها الذي كانت إذا تناولته تضرب على أوتاره فكأنما تنتظم قلوبنا لتقرع أوتارها. فآه من جمالها وآه من غنائها وآه من عودها.
ولكن نزلت ريو وفارقتني فضل، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
يا وحشتنا للغريب في البلد النازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
يقول في نأيه وغربته ... عدل من الله كل ما صنعا
وهذه ريو هي مدينة عظيمة من مدائن جزيرة قلورية من بر الأرض الكبيرة واقعة على مجاز مسيني بينها وبين مسيني نحو من عشرة أميال وبها مسجد كبير بناه في وسطها أبو الغنائم الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي وإلى صقلية كان من قبل المنصور العبيدي بعد أن اكتسح بلاد قلورية جميعا وتغلغل في أحشائها وشيد بها المعاقل والحصون وأرغم أنوف أهليها من الروم وذلك فيما بلغني أن الأنبرور صاحب القسطنطينية كان قد أرسل ستة تسع وثلاثين وثلاثمائة للهجرة بطريقا في البحر في جيش كثير إلى جزيرة صقلية فأرسل الحسن إلى المنصور العبيدي يعرفه الحال فأرسل إليه أسطولا فيه سبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف راجل سوي البحرية وجمع الحسن إليهم جمعا كثيرا وسار من بلرم قصبة صقلية في البر والبحر فوصل إلى مسيني وعبرت العساكر الإسلامية إلى ريو هذه وبث الحسن سراياه في أرض قلورية ونزل على بلد يسمى جراجة وحاصرها أشد حصار حتى أشرف أهلوها على الهلاك من شدة العطش وأنه لفي ذلك إذ وصله الخبر أن الروم قد زحفوا إليه فصالح أهل جراجة على مال أخذه منهم وسار إلى لقاء الروم ففروا من غير حرب إلى مدينة تدعى بارة ونزل الحسن على قلعة تعرف بقلعة قسانة وبث سراياه إلى قلورية وأقام عليها شهرا فسألوه الصلح فصالحهم على مال أخذه منهم ودخل الشتاء فرجع الجيش إلى مسيني وشتى الأسطول بها فأرسل إليه المصور يأمره بالرجوع إلى قلورية فسار الحسن وعبر المجاز إلى جراجة فالتقى المسلمون والروم يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس فانهزمت الروم وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل وغنموا أثقالهم وسلاحهم وذوابهم ثم دخلت سنة إحدى وأربعين فقصد الحسن جراجة فحصرها فأرسل إليه الأنبرور يطلب منه الهدنة فهادنه وعاد الحسن إلى ريو وبني بها مسجدا كبيرا في وسطها وشرط على الروم أنهم لا يمنعون المسلمين من عمارته وإقامة الصلاة فيه والأذان وأن لا يدخله نصراني ومن دخله من الأسارى المسلمين فهو آمن سواء كان مرتدا أو مقيما على دينه وإن أخرجوا حجرا منه هدمت كنائسهم كلها بصقلية وأفريقية فوفى الروم بهذه الشروط كلها ذلة وصغارا.
أما قنورية فهي جزيرة كبيرة داخلة في البحر مستطيلة شرقي جزيرة صقلية وأهلها إفرنج ولها بلاد كثيرة وأرض واسعة ينسب إليها فيما أحسب أبو العباس القلورى حدث عنه أبو داود السجستاني في سننه، وقد غزى المسلمون أزمان بني الأغلب هذه الجزيرة وأرض أنكبردة وأمعنوا فيهما واستولوا على مدينة بارة الواقعة على جون البنادقيين أيام قارله أنبرور الفرنج وكذلك استولوا على مدينة طارنت من أرض أكنبردة ومدينة ملف وقلعة قسانة وبلدانا أخرى وقرعوا أبواب رومة العظيمة، وغنموا منها غنائم لا يستقام لها قيمة، وضربوا الجزية على البابا عظيم النصرانية - وذلك عدا أنهم فتحوا مدينة جنوة الواقعة على خليج الجنويين وأكثر جزائر هذا البحر الرومي - وجملة القول أن المسلمينا انحنوا في بلاد الأرض الكبيرة والحوافى قهرها، وغلبوا أممها على أمرها، وضربت أساطيلهم بجزائر هذا البحر ضراء الضياغم بفرائسها، وأديل لهم بها على أملاكها وأناسها، وذلك كله بما قوى عزائهم من الحق واليقين، وألف بين قلوبهم من وشائج هذا الدين، وبما ألجأتهم إليه الحال، وامتلاكهم لسيف هذا البحر الجم الأهوال، مما أحكمهم وأشفهم بحبه، وجعل لهم دربة بركوبه وحربه، وأغراهم بإنشاء الأساطيل فيه ينقضون بها على جزائره التي يخطئها العد والإحصاء، وعلى عدوته الشمالية وهي أمنع من العقاب في أجواز الفضاء، وعلى أهلها من أمم فرنجة وهي أعز وأبعد منالا، وإن كان للمسلمين.
شرف ينطح السماك بروقيه ... وعز يقلقل الأجبالا
وهم البحر ذو الغوارب إلا ... أنه صار عند بحرك آلا
وقد كان المسلمون في الصدر الأول يتحاشون ركوب البحر حتى كان من عمر بن الخطاب لما كتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر يستوصفه البحر فكتب إليه عمرو فيما كتب أن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود - أن أوعز بمنع المسلمين من ركوبه فتحرجوا منه وعبروا على ذلك حينا من الدهر حتى إذا كان لعهد معاوية أذن في ركوب أثباجه، والجهاد على متون أمواجه - وذلك لأن العرب لبداوتهم لم يكن لهم مران عليه وحذق بركوبه بينما الروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده للحرب والاتجار مرنوا عليه وأحكموا الدربة بثقافته والحزب في أساطيله حتى كان من ذلك أن أغار الروم من العدوة الشمالية على إفريقية من العدوة الجنوبية والقوط على المغرب منها أجازوا في الأساطيل وملكوها وتغلبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لهم بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة وطنجة وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومه ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد - فكان ذلك ديدن أهل هذا البحر الساكنين حفافيه في القديم والحديث - فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم الأعاجم خولا لهم وتحت أيديهم ومت إليهم كل ذي صنعة بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته شرهوا إلى الجهاد فيه فأنشؤا السفن والأساطيل وشحنوها بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من هذه الأمم الحمراء واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشأم وإفريقية والمغرب والأندلس فأوعز عبد الملك بن مروان إلى حسان بن النعمان عامل إفريقية باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله بن الأغلب كما سيمر بك ثم تسلسل الأمر حتى بلغ شان الأساطيل عند العبيديين أصحاب إفريقية فيما سمعت ورأيت وعند بني أمية بالأندلس كما شاهدت هنا في المرية مبلغا غلبوا معه على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه وصار لا قبل لأمم النصرانية بأساطيلهم به وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل منه مثل أقريطش وصقلية وقبرص ومالطة وقوصرة وسردانية وميورقة ومنورقة ويابسة كما سيمر بك إن شاء الله.
وقد كان أجل عناية العبيديين وبني أمية بشأن الأساطيل وتفوقهم في ذلك على سائر الممالك الإسلامية للسبب الذي قدمناه وهو وجودهم على ضفاف هذا البحر - أن انبعثت قرائح الشعراء في الأندلس وإفريقية بالقول في وصف الأساطيل واختص أدباء هذين القطرين بهذا الباب من الوصف حتى تكاد لا تجد لشعراء المشرق يدا فيه - ومن أحسن ما سمعناه لشعراء المغرب في الأسطول دالية أبي القاسم محمد بن هانئ الشاعر الأندلسي المنقطع الآن للمعز العبيدي وقد تقدمت في صدر هذه الرسالة. وبائية علي بن محمد الأيادي التونسي شاعر القائم العبيدي وهي أبيات أسمعنيها بعض أدباء المرية ها وفيها يقول:
شرجوا جوانبه مجاذف أتعبت ... شأو الرياح لها ولما تتعب
تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طورا وتجتمع اجتماع الربرب
والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرب عقربا من عقرب
وعلى كواكبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المذهب
فكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب
ومنها في وصف الشاعر:
ولها جناح يستعار يطيرها ... طوع الرياح كراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطاره ... في كل لج زاخر مغلوب
يسموا بأجرد في الهواء متوج ... عريان منسوج الذؤابة شوذب
يتنزل الملاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب
فكأنما رام استراقة نقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب
وكأنما جن إبن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب
سجروا جواحم نارها فتقاذفوا ... منها بألسن مارج متلهب
من كل مسجور الحريق إذا إنبرى ... من سجنه انصلت انصلات الكواكب
عريان يقذفه الدخان كأنه ... صبح يكر على الظلام الغيهب
إلى أن قال:
ولواحق مثل الأهلة جنح ... لحق المطالب فأئتات المهرب
يذهبن فيما بينهن لطافة ... ويجئن فعل الطائر المتقلب
كنضانض الحيات رحن لواعبها ... حتى يقعن ببرك ماء الميزب
وبعد فإن لشعراء المغرب من بارع القصيد في هذا الباب مالا يحي كثرة وما ينم عن عظمة الأساطيل عند الدول الإسلامية وبلوغها لديهم الشأو الذي لا يلحق حتى وصول المسلمون إلى ما وصلوا إليه الآن من الصولة واتساخ الملك وضخامة السلطان.
ومن هنا تعرف مكان الأساطيل من الدول ولاسيما دول البحار مثل الدول الإسلامية لعهدنا وأن الأسطول هو سياج الدولة وعمادها، وبه عزها وعليه بعد الله اعتمادها، بل هو درعها المسردة التي تتقي بها سهام الأعداء وتحول، وسلاحها الذي تطول به في البحر وتصول، وجناحها الذي تطير به في سماء المجد وتجول، وأن دولة لم تعنى العناية كلها بالأساطيل، وترسلها على متن هذا البحر طيرا أبابيل، فهي لعمري دولة مقصوصة الجناح، وكالأعزل يقتحم الهيجاء بغير سلاح.
وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير كف لم تؤيد بقائم.