مجلة البيان للبرقوقي/العدد 9/الحرب
→ حضارة العرب في الأندلس | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 9 الحرب [[مؤلف:|]] |
التربية الطبيعية ← |
بتاريخ: 1 - 11 - 1912 |
الإنسان أعرف بالحرب من أن يعرّفها، وأخبر باهو إلهاً من أن يبغض فيها، وهو لا يخوض غمراتها ويقتحم حوماتها لاستثمار العاطفة غير مختار العقل والحرب عريقة في الطبع عراقة الحياة. فأنها شبت من يوم تعدد الطالبون لمطلوب غير محدد، واختلف غرضان في سبيل واحدة. بل إنها لأقدم من ذلك. فأنها نشأت بين ضواري الغبراء، وكواسر، الهواء وسوابح الماء، وشجرت بين الوحش والإنسان زمانا قبل أن تشجر بين الإنسان والإنسان، بل لقد وجدت حيث لا يوجد حس ولا حياة، وظهرت بين النبات كما ظهرت بين الأحياء.
وهي مع قدمها وكونها غير شاذة عن الطبع ولا غريبة عنه، لا يزال الناس يختلفون في لزومها وعدم لزومها ويجادلون في نفعها أو ضررها وهل هي مشروعة سائغة أو أنها محض قوة غاشمة ظالمة.
وترى أنصارها يعتمدون على أنها مظهر من مظاهر تنازع البقاء وأن النوع البشري كالشجر يحتاج إلى التشذيب آناً بعد آن وإلا نما عدده وملأت شعاب الأرض شعبه، وأنها فوق ذلك مرتزق الألوف من الجنود والصناع وتجار المعادن والمناجم. وأنها تهز أريحية النفس وتشب فيها النخوة وفضيلة المفاداة بالحياة. ثم يقولون أنها قوام روح العصبية في الأمة ومساك النعرة القومية، وأن مجد كل أمة إنما هو في ذكرى حروبها وتاريخ غاراتها، ولولا ذكرى هذا المجد لخملت روح الأمم وأنبتت الوشائج بين ماضيها وحاضرها.
ولعل هذا القول الأخير أقوى ما يعتمدون عليه وأشبه بالصدق والصواب. فإن الصبية في الأمة لازمة لزوم الشخصية للفرد. والأمة لا عصبية لها صغيرة في عيني نفسها. ذليلة بين جاراتها. سريعة الاستكانة إلى الحكم الأجنبي. ومتى كانت الأمة منحلة العصبية فأحرى أن لا تكون لها تجارة خاصة بها. أو صناعة تنتمي إليها. أو يكون لها تاريخ تعتز به. وكرامة تغار عليها. وفقد العصبية في الأمة إنما هو إحساس منها بالضعف والجور واعتراف منها بالتخلف عن سواها في فضائل الجنسية والقومية. ولا ينتاب هذا الضعف إلا أمماً توالى عليها الحكم الأجنبي. وألفت أن لا تري من أبنائها حاكماً تكبره أو عظيماً تلتف حوله. فيصبح كل ما هو من جنسها صغيراً لديها وكل ما هو غريب عنها موقراً مرغوباً فيه.
وقد استعان زعماء السياسة وأئمة النهضات الاجتماعية بهذه الفضيلة على نشر دعوتهم وحفز الأمم إلى أغراضهم. ولو بحثت عن سر قيام الدعوات الدينية لما وجدت إلا أنه اعتقاد راسخ في قلوب أتباعها بأنهم على الهدي وأن كل من خالفهم على الضلالة وأنهم وحدهم أولو الحظوة عند الله. وأما من عداهم فمطر ودون من ملكوته. محرومون من رضوانه.
بيد أن لهذه الفضيلة شططاً يضحك أحياناً وقد يفضي بها أهلها إلى حد المغالاة. فإنك لا تعلم كيف ألقى في روع الإنكليزي مثلاً أنه أرقى الناس أخلاقاً وأسماهم محتداً وأنبلهم سجية. ولا كيف يعتقد الفرنسي أنه خير من كل ألماني. أو كيف أن الألماني يري الفضائل كلها مجتمعة فيه وأن ما عند سائر الأمم منها فضلة كالصبابة في الكأس. على أنها مغالاة تحتمل إلى جانب ما للعصبية من النفع. وقد ينتهي ضيق هذه العاطفة إلى السعة. ويؤول أمرها إلى التسامح لاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه تواصل الأجناس المختلفة.
ووقف أبناء كل أمة على مزايا الأمم الأخرى ونقائضها. كما تؤول أثرة الجهول إلى شعور نبيل بالكرامة الذاتية. متى هذبها العلم وصقلتها الخبرة.
فإن كانت الحرب كما يقولون مبعث هذه العصبية فمرحباً بالحرب وأهلاً. وإن لم تكن إلا الحرب وسيلة إلى إحياء روحها وتماسك أجزائها فالحرب قوت لا غنى للأمم عنه. ولا قوام لها إلا به.
ولكن ما أبعد هذا القول عن الحقيقة. فإن لدينا ألف وسيلة إلى حفظ العصبية قد لا تكون عصبية الحرب إلا أوهاها سبباً وأوهنها أثراً. وإلا فما هي عناصر العصبية الحربية؟؟ أليست هي اعتداد بأحكام التسديد ووفرة الذخائر؟؟ وفخراً بكثرة الجنود ومضاء الأسلحة؟؟ وما هي الشجاعة العسكرية؟؟ أليست هي أقدام الأعمى على الهاوية؟؟ أو ليس المسوق مخفوراً إلى ساحة الإعدام، أشبه في شجاعته بمن يساق مرغماً إلى ساحة القتال؟؟ بل ما قيمة مفاداة الجندي بنفسه، إذا لم تكن له يد في اختيار الغرض الذي يفادي نفسه من أجله؟؟ بل ما أشبه الجندي في هذه الحال بالجلاد الذي يقتل كل من يقدمونه إليه ولا يعنيه إن كان مجرماً أو بريئاً، أو كان القاضي عادلاً في حكمه عليه أو جائراً؟؟
إن للأمم مندوحة عن هذه العصبية الشوهاء، بعصبية الأدب السمحاء. فإن في كل أمة رجالاً رفعوا منار ذكائها وزانوا تاريخها بمثل ما تزين السماء نيرانها. فإذا فاخر الإنكليزي بشكسبير، تباهى الألماني بجيتى وتاه الإيطالي بدانتي وازدهى الفرنسي بهوجو. ولقد تردد حول هذه الأسماء صدي متتابع الدوي، وعلا صريف الأقلام بذكرهم، واشتغل بال الأمم بأقوالهم، فدل ذلك على أن سيرة هؤلاء الأبطال ضمينة بأن تملأ حيز العصبية من أذهان الناس، وأنهم أقدر على توجيه الأنظار إليهم من أمثال كروميل وفردريك العظيم وغريبالدي ونابليون، وهي عصبية لا تثير في ذاكرة الشعوب ضغينة ثأر أو حزازة انتقام، وإنما هي آصرة تؤلف بين قلوبهم. وتأخذ بأيدهم إلى التصافح، وبنفوسهم إلى التآخي والتسامح. وتقودهم لا إلى ساحة القتال. ولكن إلى باحة المودة والسلام.
وهذه العصبية وما شابهها من العصبيات الاقتصادية أو العلمية. هي الجديرة دون سواها بهذا الجيل. فقد مضى زمان الأمم الفاتحة، وليس في العالم ليومنا هذا أمة تريد أن تنجب مثل يوليوس قيصر أو نابليون بونابرت أو محمد الفاتح أو طارق بن زياد لأنها في غنى عنهم ولا نفع لها من أمثالهم. إن اليوم الذي تهيء له دول أوربا ما تهيء من آلات الفناء والموت، لن تشرق له شمس. وما على المدنية أن ترهب اليوم لإلا جيشاً واحداً هو جيش الرياء والنفاق الذي تمكن من الطباع والأخلاق وليست بها حاجة إلى شجاعة غير الجرأة في الرأي والصبر على الشدة وآلام النفس، فنحن في حرب مع الرذيلة دونها كل حرب فتكاً وهولاً. وليست هذه الحروب الدموية إلا دخان تلك الحرب المستطير شررها في أعماق نفوسنا. والباسل الباسل من وفق بين سيرته وسريرته ورفع راية السلام بين لسانه وضميره، فإن كانت الحرب تثير نخوة الوحشية والقسوة، فهذه الحرب تبعث في الضمير نخوة الإنسانية والمروءة.
أقدر في حكم الحقيقة وأنفع، وأعلا في معارج الفضيلة وأرفع، رجل يتجرع غصص العذاب في سبيل رأيه، ويتجاوز عن راحته فيما يعتقد أنه الحق والعدل. فإن الصبر على جرح في النفس أدل على قوة الرجل من صبره على جرح في الجسد، وإن دابة المركبة لتحتمل من الجراح ما ينوء ببعضه أجلد الناس وإن كان هرقلاً ثانياً.
يقول أنصار الحرب: وماذا نصنع بالألوف المؤلفة ممن لا مرتزق لهم إلا من الحرب أو من صنع أدواتها وآلاتها؟؟
نقول إذا لم يبق من مسوغات الحرب إلا هذا فاصنعوا بهم ما أنتم صانعون بتجار المحظورات أو بالطرارين واللصوص ومزيفي النقود وأصحاب الاحتيال ومن لا معاش لهم إلا من الفسوق أو الإغراء عليه! أتراكم تحملون القانون على إباحة الجرائم لأن طائفة من الناس لا مرتزق لهم إلا منها ولا معاش لأولادهم ونسائهم إلا بمزاولتها؟؟
بل نقول لهم: اصنعوا بهم ما أنتم صانعون بالأيامى والأيتام ممن تقتل الحروب عائليهم وتتركهم عالة على المجتمع!! وما أنتم صانعون بالعمال والزراع الذين تعطل عليهم الحرب مرافقهم وتمسك عنهم القوت والنفقة. وربما كان هؤلاء أكثر عديداً ممن يشتغلون بصناعة السلاح وحمله.
على أن الدنيا لا تضيق لا بهؤلاء ولا بأولئك. والموارد الاقتصادية كالشجرة، كلما انقطع منها فرع نبت فرع في مكانه، وقد كان استخدام البخار سبباً في ابتداع آلات تعمل الواحدة منها عمل المئات والألوف من الصناع، فما أغنت هذه الآلات عن الصناع ولكنها زادت الحاجة إليهم. فأصبح عددهم اليوم أضعاف ما كان قبل استخدام البخار. وإذا عرفنا أن الجنود إنما يؤخذ أكثرهم من الفلاحين وأنهم يعودون إلى فلاحة الأرض بعد صرفهم من الجيش، وجدنا لنا مخلصاً من الحيرة في أمر معاشهم، ورأيناهم في غنى عن شفقة أنصار الحرب واهتمامهم.
ولكن أليست الحرب ظاهرة طبيعية كما قالوا؟؟ أليست هي غربالاً يتنخل اللباب فيحفظه ويحجز الحثالة فينبذها؟؟ وهل هي إلا تلاحم بين القوي والضعيف، يظهر فيه القوي الصالح ويتلاشى الضعيف الفاسد؟؟
نقول هذا كلام شبيه بالحق ولكنه كذب. فلقد كانت الحرب طبيعية عادلة في زمن من الأزمان ولكنها فقدت معنى العدل في هذا الزمان.
كانت عدلاً أيام كان أصلح الأمم للبقاء أمضاهن سلاحاً وأكبرهن جنداً وأمنعهن حمى، أما اليوم فالصلاح للبقاء شيء غير المهارة في القتال والانتخاب الطبيعي يأخذ مجراه دون أن تقوم دولة على أنقاض دولة، أو تتقمص أمة فتية روح أمة بائدة، ولو أن روسيا أغارت غداً على سويسرا مثلاً لقهرتها وأفنتها، ولكن أيهما أوفق للوجود شعبه ومن منهما أنفع في أرضه بقاؤه؟؟
فالحرب اليوم ليست محكاً يظهر منه النفيس من الخسيس. ولكنها ميزان يرجح فيه أثقل الكفتين جرماً وأكبرهما حجماً. وليس هذا من العدل في شيء ولكنه تنازع اصطناعي لا عمل للطبيعة فيه إلا من بعض جهاته.
ولكن هناك نفراً من الفلاسفة ملكته الرأفة بهذا النوع المسكين.
فأشفقوا أن يربو عدده وينمو نسله. فتضيق به وسائل الرزق ويفضي به الضيق إلى الموت جوعاً. فهم لا يرون في الحرب بأساً. بل هي في مذهبهم لازمة لتقليم النوع أولاً فأولاً. وهم يرحبون بكل ما ينقص هذا النوع ويقلل ذريته. ولا أدري لم لا يرحبون بالأوبئة والطواعين؟؟ ومالهم لا يجذمون أيدي الأطباء الخبثاء الذين ينقذون الناس من الهلاك. كان هؤلاء الأطباء يتركونهم ليموتوا صبراً يوم تعم المجاعة ويبعد الزاد من هذه الدار؟؟!!
بل لقد تمادت الرحمة بهؤلاء الفلاسفة الأبرار. فأشار فريق منهم بخصاء الذكران من العالمين. وأشار فريق سواد بقتل الضعفاء. وقال فريق ثالث بل نوصيهم بالاقتصاد في النسل ونعين لكل عائلة عدداً من الأولاد لا تتجاوزه. إلى آخر ما قالوا.
ظهر مالثوس صاحب هذا المذهب في القرن الثامن عشر فطفق يجمع ويطرح.
ويضرب ويقسم. ويحسب نتاج الأرض في الأجيال المقبلة كأنه خازن أرزاق الله.
ويحصي ما تحمله بطون الغيب من الأجنة. كأنه كاتب عالم الذر. فهداه حسابه إلى أن النسل يتضاعف كل خمس وعشرين سنة. وأن ثروة الأرض لا تزيد في هذه المدة إلا مرة واحدة. أي أنها تنمو على نسبة حسابية مطردة. فظهر له من هذا الإحصاء أن نسبة السكان إلى الثروة ستكون بعد ثلاثة قرون كنسبة 4096 إلى13. فأنذر بالويل والخراب. وصاح بالناس لا تناكحوا ولا تناسلوا إلا بحساب. ولقد مضى نصف هذه القرون الثلاثة تقريباً. ولم تجذب الأرض ولا ضاقت بساكنيها. ونحن نورد هنا ما قاله هنري جورج في كتابه التقدم والفقر رداً على رأي مالثوس هذا. قال:
إذا أردنا أن نتخذ لنا مثالاً من أسرة متوفرة لديها أسباب البقاء والجاه. وقد عبرت أمداً مديداً في بلد لا تتغير فيه أحوال الاقتصاد ولا تطرأ على بيئته الانقلابات. فعلينا أن نرجع إلى الصين
لا تزال أسرة كنفشيوس في تلك البلاد باقية تتمتع بالرعاية ومزايا الراحة والبقاء. وليس في الصين وراثة شرف في غير هذه الأسرة. فإذا سلمنا بحساب مالثوس وجب أن يكون عدد أفرادها في عهدنا هذا:
(859، 559، 193، 106، 709، 670، 198، 710، 528)
ولكن ذرية كنفشيوس لم تبلغ من هذا العدد الذي لا يتصوره العقل إلا أحد عشر ألف رجل أو نحو اثنين وعشرين ألف نسمة. بعد أن مضى على وفاته في عهد الملك كانجهي 2150سنة
فانظر شطط هذا الفيلسوف وزيغ حسابه. وكذلك لا يزال الزلل نصيب من يجترئ على الغيب ويتحكم في نظام هذا العالم الزاخر للمؤرخ أن يقرر أن الحروب الماضية أقلت النسل - إن كان في الباحثين من يزعم أن التناسل يكثر عقب الحروب كثرة لا نظير لها في سائر الأيام - وله أن يعدها ضارة من هذه الوجهة أو نافعة. ولكن ليس له أن يتخذها منجلاً يخترط به ما يشاء من بنية النوع الإنساني. لاسيما إذا كان من الذاهبين إلى إبقاء الأقوى وإفناء الضعيف. فإن الحرب تبقى على العاجز الجبان ولا تقضي إلا على الفتيان الأشداء.
لا نأمن صائحاً يصيح بنا: لقد علا غطيطكم في النوم. وطال بكم الحلم. ونحن نسمع كل يوم أن الحرب يتقشع غبارها وتخبو نارها. ثم لا نرى مع ذلك إلا حرباً بعد حرب وفتنة تتسعر في أثر فتنة.
وهو اعتراض وجيه إذا كان المبشرون قد زعموا أن المريخ قضى نحبه وأنه لن يسفح بعد اليوم دم في ميدان. ولكنهم لا يزعمون شيئاً من ذلك. بل يقولون له إن كانت الحرب تبقى ببقاء دواعيها فقد وجب أن تزول لزوال تلك الدواعي.
فإن الحرب لا تنشب اليوم للذود عن ذمار. أو لإنقاذ مملكة أو لاستنهاض النخوة الملية أو ما شا كل ذلك من المعاذير التي يعلنها الساسة ويبطنون سواها وقد لا يكون المحرك لها محض الرغبة في توسيع نطاق الدولة أو إنماء ثروتها كما يرى بعض من يظن أن مصلحة الأمة المادية هي السر الخفي لكل حركة دولية في هذا الزمان. ولا نبتعد عن الصواب إذا قلنا أنه لولا مطالع أصحاب رؤوس الأموال ومآرب الساسة لما ارتفع سلاح في أكثر هذه الحروب التي دارت بين الأمم الكبرى والأمم الصغرى في هذا الجيل.
فإن لكبار الماليين نفوذاً قوياً بين رجال السياسة. أما لأنهم يسعفونهم بالقروض في الأزمات السياسية. أو لأنهم يمدونهم بالمال في المنافسات الانتخابية. فإذا طمحوا إلى غرض من أغراضهم لم يعسر عليهم إقناع ولاة المملكة بمعاونتهم فيه. واستخدموا الصحافة بالرشى والجاه لتهيئة الرأي العام لقبول ما يقترحون عليه. فلا يلبث هؤلاء الصحفيون أن يستشيروا حماس الشعب ويعبثوا بعواطفه الدينية أو الجنسية. وما هو إلا أن تسري المقالة بعد المقالة بين الجمهور حتى يهب صارخاً بالحرب. ويقال حينئذٍ أن الأمة تريد القتال وأنه لا قبل للحكومة بمعارضتها. فتحرك الجيوش. وتذهب النفوس هدراً وتنفق الحكومة من مال الفقراء ونفوسهم أضعاف ما يبذله أولئك الأغنياء ثم لا يغنم من تلك المجزرة إلا تاجر جشع تحوي خزانته المليون ولكنه يطمع في المليونين. أو وزير يرمي إلى تمكين حزبه. أو ملك يريد أن يضيف إلى اسمه لقباً فارغاً يذكر به في التاريخ.
أما العامل الفقير الذي يتظاهر الساسة بالعناية به ويقولون إنّهم إنمّا يرفهون عنه بالتوسع في الاستعمار وشن الغارة على المستضعفة من الأمم. فسواء لديه أكانت دولته تملك ما بين لابتى الأرض أو أنها واقفة حيث هو يكدح ويكد. فإنه يعول في كل حال على قوة ساعده. ويعتمد في كل بلد نزح إليه على جهد يده. ولو أن اليابان كانت تملك الولايات المتحدة لما زاد أجر العامل الياباني دانقاً عما يناله الآن بغير معونة حكومته.
ولقد كان من بلايا الشرق أن تتوجه إليه مطامع أولئك التجار الأشعبيين. لنزارة أجور عماله. وخصب تربته وقلة المزاحمة الاقتصادية فيه. وجهل أهله بالانتفاع من ينابيع الثروة المتفجرة في أرضهم. فإذا نزل واحد منهم بالبلد الشرقي كان ذهبه نذيراً برصاص دولته. وأبى إلا أن يربطه إلى وتد من الاستعباد والمذلة كما تربط البقرة الحلوب.
ولو أن العامل الشرقي أحس بمعنى الحياة وجاشت في نفسه مطالبها لما قنع بما دون أجر العامل الغربي. ولأبقى تجار أوربا أموالهم في بلادهم. بل لو كان الشرقيون يستثمرون موارد الثروة في أقاليمهم. ويستنبطون الرزق من مناجمه عندهم. لما اتسع بينهم موضع لنزيل يمتص دماءهم ويسلبهم مالهم واستقلالهم. ويجعلهم عبيداً له والله خلقهم أحراراً.
ولقد طالما سمعنا الكاتبين منا يقولون: إن الغرب قد غلب علينا بأساطيله ومدافعه. فلنجادله بسلاحه ولنعد له من عدة الدفاع مثل ما يهاجموننا به.
إلا أنها نصيحة لا ينتفع بها إلا أمة أو أمتان لم يغلل الغرب أيديهما بقيود الاستعمار. ولا تزال فيهما بقية رمق من الاستقلال تمكنهما من استجماع القوة. والتأهب للدفاع عند الحاجة.
ولكن أي نصيحة لديهم يدخرونها لتلك الأمم التي سبق عليها حكم القضاء وطال عليها الأمد في الأسر؟؟
لا والله ما غلب علينا الغرب إلا بتفكك عصبيتنا وصغر معنى الحياة في أذهاننا. إن في الأمم الشرقية المستعمرة من السكان والجنود أهل البلاد أضعاف ما في الأمم التي تستعمرها فكيف يتصور العقل أن الغرب إنما سادوا على تلك البلاد بالسلاح وكثرة العدد.
ليس للشرق إلا أملان في النجاة من آفة الاستعمار، أحدهما منوط برقي العالم عامة، والثاني منوط برقي الشرق خاصة.
العالم اليوم مستغرق في عبادة الدينار. ولكنه دور سينقضي كما انقضى ما قبله من الأدوار. فإن للإنسانية في كل فترة من الزمن روحاً تتشبع بها، فلا تصدر أعمال الأمم والأفراد إلا عنها. فانقضى دور الغزو. ثم انقضى دور الفتح. ثم انقضى دور الحروب الدينية. ونحن اليوم في دور المال.
أفنقول إذن أن هذا الدور باقٍ أبداً؟؟ وهل هذا نتيجة تعاقب الأجيال على الإنسان، وغايته التي ليس وراءها غاية؟؟ ألا يمكن أن تكون هذه النتيجة مقدمة لنتيجة غيرها أجل منها وأحسن عقبى.
إن كل ما نراه ونحسه يشير إلى أننا في دور انتقال وشيك الزوال. وأن العالم سيصل إلى ما يرجو من السعادة ولكن من طريق المال.
فالأمم الكبرى تستكثر من السلاح والجنود لتحمي متاجرها ومصنوعاتها ولكن التباري بين الأمم الصناعية شديد في إتقان تلك المصنوعات. وسيأتي يوم لا يغني عن السلعة في سوق التجارة إلا جودتها وإتقانها. فلا تستطيع كل أساطيل البحر ومدافع البر أن تروج سلعة رديئة أو تبخس سلعة جيدة. ويومئذٍ يكون التزاحم بين مصنع ومصنع. لا بين حكومة وحكومة، يستعين كل منهما بعساكره على ترويج سلعة.
إن حماية الحكومات لمتاجرها هي التي تصبغ المنافسات التجارية بصبغة دولية. فإذا تخلت الحكومة عن التجارة قام كل مصنع بذاته ينافس في السوق العامة، وأصبح سواء لدى التاجر أن يبيع سلعته في إنكلترة أو ألمانية مادام يعتمد على سمعته ومهارته، واتسعت الأرض أمام كل ذي حرفة، يحل منها حيث طاب له الكسب، ويكون له في كل أرض وطن إذا شاء.
يومئذٍ لا يذهب التاجر إلى المستعمرات وهو ينظر وراءه إلى أسطول دولته، ولكنه ينظر كيف ينتقي بضاعته من معمل تروج سلعه ويقبل الناس على مصنوعاته.
وليس في الناس إلا فريق واحد لا تروقه هذه الحرية التجارية. ونعني به أصحاب المصانع الذين يسخرون قوة حكوماتهم لفتح الأسواق في وجوه مصنوعاتهم. ولكن هذه الفئة لا طاقة لها بصد التيار الجارف. وقد أخذت تضمحل سلطتها. ويشاركها في نفوذها قوم لا مصلحة لهم في احتكار الأسواق. وهم أحزاب العمال والزراع وغيرهم ممن يعيشون في ظل كل راية في المعمور.
لقد بدأت هذه الحركة المباركة تظهر في تكاثر المهاجرين من كل مملكة في طلب الكسب. وإباحة الحكومات حقوق التوطن لكل من قضى في بلادها زمناً محدوداً. ورأينا بعض الحكومات تطلق الحرية للتجارة وتبتعد عن الإشراف عليها. وسينتهي ذلك لا محالة إلى الوطنية العامة وانفراد التجارة بنفسها في العالم أجمع.
ومتى كان الرجل لا يحرم في أرض الغربة حقاً يتمتع به في وطنه. فلا حاجة بالحكومات إلى الاستعمار. ولا حاجة بالرجل إلى حماية حكومته.
ومن ثم يصير تنازع طبيعياً يبقى فيه الإصلاح للبقاء حقيقة. ويبطل الاستعمار فيبطل كل ما نشأ بسببه من الخلاف بين الدول الاستعمارية، فإن الخلاف بين هذه الدول قد انقطعت أسبابه إلا من هذه الوجهة، ولولا الاستعمار لما تأهبوا للحرب هذه الأهبة. فإن هذا العصر أندر العصور حروباً وإن كان أكثرها آلة حرب، وتفنناً في أساليب القتال. وليس هذا بالأمر الغريب فإن زيادة أداة الحرب قد زادت نفقاتها أيضاً. واشتباك المرافق الاقتصادية جعل الحروب أعم خسارة وأبلغ ضرراً من ذي قبل، وهكذا يؤدي الاشتباك القليل في المرافق إلى التنازع والخلاف، فإذا تشعب وتمكن كان أقوى ضمانة للسلم والوفاق. وسيتشعب ويتداخل حتى تقع الضربة في البلد فتضرب لها البلدان كافة. فإذا صرفنا النظر عن هذا التقدم المادي إلى التقدم المعنوي رأينا أن قيمة الحياة تعلو في نظر الإنسان وأنه يفهم يوماً بعد يوم أنها كل رأس ماله من الوجود، وأنه متى أضاعها أضاع كل شيء بالنسبة إليه.
هذا هو أملنا المعقود برقي العالم. أما أملنا المعقود برقي الشرق فيتحقق يوم يدرك الشرقي معنى الحياة وتتنبه فيه روح العصبية. فلا يكون تسخيره أيسر على الماليين أو أرخص نفقة من تسخير الغربي. ولا يسهل على كل طامع أن يلتهم ما شاء من ثروته. والأمر بين اثنتين: فأما أن الشرق سيبقى هكذا إلى الأبد. أو أنه سيتقدم مع الزمان.
فأما بقاء نصف النوع الإنساني على هذا الحال من الانحطاط والمهانة أبد الآبدين. فمحال لا يجوز في نظر العقل. وأما أنه يتقدم مع الزمان فهذه سنة ليس في وسعه أن يقاومها. وليس في وسع أحد أن يحول تيارها عنه. فنحن إلى الرجاء أقرب منا إلى اليأس. وهكذا ينبغي أن نكون.
ولا ريب أن ذلك اليوم سوف يكون آخر يوم من عهد المال وأول يوم في عهد الحق والإخاء والسلام.
إن تلك الساعة آتية لا ريب فيها. ولكن كيف ومتى؟؟ قل علمها عند ربي.
عباس محمود العقاد قال بعض الحكماء: احذر الموتور ولا تطمئن إليه وكن أشد ما تكون حذراً منه ألطف ما يكون مداخلة لك.
وقال بعضهم: إذا أحدث لك العدو صداقة فلعلة ألجأته إليه فمع ذهاب العلة رجوع العداوة كالماء تسخنه فإذا أسكت عنه عاد إلى أصله بارداً والشجرة المرة لو طليتها بالعسل لم تثمر إلا مراً وقال دريد بن الصممة:
وما تخفى الضغينة حيث كانت ... ولا النظر المريض من الصحيح
وقال زهير:
وما لك في صديقٍ أو عدوٍ ... تخبرك العيون عن القلوب
وقال بعض الحكماء: ينبغي أن تحظر على الشرار العلوم التي تزيد في قوة النفس وحسن تصرفها ويقتصر بها على الرياضات التي تفتر وقدها وترد إلى الاعتدال ما شذ عنها فإن غير هذه من العلوم إن عدل بها عن أهل الفضل الشرار كانت لهم كالأجنحة للعقارب التي تعينها على الآفات وتباعدها منها.