مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/القصص والفكاهات
→ طرفة أدبية | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 8 القصص والفكاهات [[مؤلف:|]] |
التربية الطبيعية ← |
بتاريخ: 15 - 5 - 1912 |
رواية فوست
نقلها إلى العربية صالح بك حمدي حماد
(الفصل الأول)
غواية فوست
(المنظر الأول) في قصر فوست - تظهر غرفة معقودة على الطراز الغوثي القديم وفيها مكتبة وموائد عليها كتب وأدوات علمية وعدد من أنابيب وأواني وجمجمة إنسان والدكتور فوست جالس على كرسي أمام مكتبه لابساً رداء أسود وعلى رأسه قلنسوة سوداء وهو شيخ هرم ذو لحية بيضاء طويلة وأمامه مصباح ضئيل النور تظهر علامات الاهتمام والتفكير ثم يقول:
فوست - درست الفلسفة والشريعة والإلهيات والطب حتى برعت فيها كلها وصرت أعلم من تقله أرض ألمانيا ولكن ماذا أفادني كل ذلك غير التعب والنصب، أني لعمري أحمق أخرق أراني لم أستفد من ذلك فائدة ما ولم أسعد به وإن عظموني وسموني الأستاذ ولقبوني بالدكتور والحكيم إلى أمثال ذلك من الألقاب الضخمة والنعوت الطنانة الرنانة وما هي لعمرك إلا غرور وزهو باطل.
ثم ينهض فيتمشى في الغرفة جيئة وذهوباً وهو مضطرب قلق ويقول.
فوست - ولقد صار لي منذ عشر من السنوات من الشهرة الفائقة وبعد الصيت والنفوذ والسلطة على تلاميذي ومريدي ما جعلهم يطيعون أمري ويستنيمون لأقل إشاراتي فلم يدخلني من ذلك العجب وغرور أهل العلم قط والآن تولاني اليأس ونفذت سهام القنوط إلى فؤادي الذي ظل أمداً تملؤه المفاخر والمنازع الشريفة حتى أضحيت أغزر معارف وعلوماً من كثير من العلماء والأساتذة والكهان والرهبان وصرت لا أخاف الشيطان ولا أخشى دخول النار ولكني قد حرمت في مقابل ذلك مسرات الحياة ثم يضحك مستهزئاً ويقول:
فوست - أجل أنني قد حرمت مسرات الحياة وملذات البشر وبما أني قد اقتنعت اليوم بغرور ما أنا عليه وقلة جدواه فعلام إذاً أعلمه غيري هل يصيرون به أسعد حالاً مني. أني لا أملك درهماً واحداً وليس لي أقل نصيب من الشرف الدنيوي والجاه في العالم فما أتعس حظي في الحياة وأشقاني بعلومي ومعارفي الطويلة العريضة فلم يبق أمامي سوى الاستعانة بعلم السحر لا على مثال تلك السذاجات التي يزاوله بها جماعة السحرة السذج بل على نوع جدى أستكنه به أسرار هذه الطبيعة وأستكشف به قواها العاملة المؤثرة وأنال منها ما تصبو إليه نفسي من اللذات.
ويذهب إلى النافذة فيرفع السجف وينظر في السماء إلى القمر ويقول مخاطباً له.
فوست - أيه أيها القمر الساطع والكوكب الدري اللامع ألق بالنظرة الأخيرة منك على في نصبي وتعبي أنت أيها الصديق الجميل الذي طالما كان رفيقي في وحدتي وشاهدي في سهري الليالي فكم من مرة رأيتني في هذه الغرفة مكباً على مكتبي أدرس العلوم وأطالع أسفارها فيا ليت لي مثل مالك من القدرة على الارتفاع والتحليق في القبة الزرقاء حتى كنت أشرف من عل على قمم الجبال وفوق المغارات المظلمة واستنكف كثيراً من الأسرار ولكن ليس لي واأسفاه ذلك وليس أمام فوست الشيخ الفاني إلا البقاء بين أربع حيطان هذه الغرفة المظلمة التي لا يكاد ينفذ من زجاجها المغبر ضوء النهار.
ويجيل بصره في أرجاء الغرفة وهو حزين كاسف البال ثم يطرد مقاله:
فوست - فهذا المكان هو سجني نعم هذا المكان محبسي ولكن لم أجلب على قلبي الهموم والأكدار وأحمل نفسي الأحزان في حياتي والأشجان أني خلقت حياً في طبيعة حية فعلام أضع نفسي باختياري في القبور بين الأموات أجل هذا المكان لعمري قبر وهو لا يحوي إلا أشياء تافهة فلأكسرن هذه السلاسل ولأحلن هذه القيود ولأزجن بنفسي في مجاري الحياة الصافية استقي منها لذة كؤوساً منزعة.
ثم يتناول بيده كتاب السحر ويقول:
فوست - هذا كتاب السحر الأعظم والطلسم الأكبر خطه بيمينه رأس السحرة (فوستراد موس) فليكن دليلي وهادي ومرشدي فيما أريد (ويفتح الكتاب ويقلبه ويقول) ولكن لنتجاوز ما عليه من هذه الشروح التي لا فائدة لنا فيها ولنمسك باللباب ويقرأ فيه بصوت عال ما نصه:
إن عالم الأرواح ليس مغلق الباب في وجهك أيها المريد غير أن عقلك ضال وقلبك ميت فتشجع وألق بنفسك وأسبح في أنوار بحر ذلك الفجر الباسق بلا فتور ولا ملل ثم يقول:
فوست - هذا هو الينبوع الصافي والمورد العذب الذي أريد الاستقاء من زلاله والتشبع من شرابه حتى أنال أربي وأحظي بالحب والغرام وارتشاف كأس المدام والثمل بريق غادة حسناء وفتاة في رؤيتها الحياة هذا كل ما أريد وأرغب فيه وتتشهاه عليّ نفسي.
ويتمتم قائلاً بصوت عال:
فوست - أيتها الروح الأرضية التي أحس بوجودها معي وأشعر باقترابها مني أطلب مساعدتك وأسلم نفسي إليك وألقى بقيادي بين يديك فاظهري اظهري ولو كلفني ظهورك شرب كأس الحمام. . . .
(المنظر الثاني) تظهر أشعة من النور بالقرب من مدخنة الغرفة ويبدو بينها شبح إنسان لابساً ملابس ذلك العصر ومتقلداً سيفاً وعلى رأسه قبعة عليها ريش النعام فيقول لفوست بصوت رنان:
ميفستوفيليس - من الذي يدعوني ويطلب معونتي ونصرتي.
فوست - وهو يلتفت إليه ويرتجف - يالك من خيال فظيع وشبح مريع.
ميفستوفيليس - إنك يا هذا قد دعوتني وأن تأثير عزيمتك هو الذي اضطرني إلى مغادرة مكاني ومستقري ومقامي وأقدمني إلى هنا فماذا تريد؟
فوست - وهو يحملق بعينه - أريد ألا أراك فأني لا أقوى على احتمال منظرك وهول رؤيتك.
ميفستوفيليس - إنك كنت مع ذلك تدعوني بتلهف وتطلبني بشدة لتراني وتطلب مني المساعدة فيما تصبو إليه نفسك فما الذي دهاك وأفزع فؤادك إنك كنت إلى قبيل هذه اللحظة تبني (علالى) من اللذات وقصوراً من الشهوات والمسرات فالآن إذ جئت لأنيلك ما تشتهي يأخذك الفزع والهلع. أطلب ما تشاء.
أما فوست فيزداد اضطراباً وفزعاً وترتجف أعضاؤه ثم يستند على مكتبه وهو يقول:
فوست - أخرج من هذا المكان فأني لا أريد لا الحقير ولا العظيم من الشيطان الرجيم.
ميفستوفيليس وهو يقترب من فوست
- هذا كذب صراح وقول هراء أيها الدكتور بل أنت تريد أن تحظى بلثم ثغر فتاة جميلة وارتشاف خمر ريقها وقطف ورد وجنتيها وأن تعود إليك قوتك وشبابك ونضرة أهابك فأنا لعمري بمالي من القوة والسلطان في قدرتي أن أعطيك كل ما تريد وأن أكون في الأرض طوع أمرك وآتيك بكل ما تشتهي نفسك من المسرات واللذات وانظر إلى هذه الناحية من غرفتك تر تلك الفتاة الجميلة التي خبأتها لك وهي على ما تشتهي نفسك ويصبو إليه فؤادك المدنف وهي مرغريت أجمل فتيات ويمار وأخت الجندي فالنتان وخطيبة الشاب سيابل.
فيلتفت فوست إلى تلك الناحية من الغرفة فيرى مرجريت في حلة زرقاء وهي ممسكة بيدها أزهاراً وتبسم له فيطير عقل فوست ولبه فرحاً ويهم باللحاق بها وهو يقول.
فوست - هذه والله طلبتي ومنية قلبي وبهجة فؤادي.
فيمسكه ميفستوفيليس من ذراعه ويوقفه وهو يقول.
ميفستوفيليس - مكانك أيها الأستاذ العظيم والدكتور الحكيم أنها ستكون لك روحاً وبدناً ولكن بعد أن توقع لي على هذا العهد بل هذا العقد بيني وبينك بأنك تكون من نصيبي في الآخرة.
ويقدم إلى فوست ورقة يخرجها من جيبه فيأخذها فوست بلهف ويذهب إلى مكتبه ليوقعها وهو يقول.
فوست - هذا لا يهمني وأني أوقع لك بارتياح على هذا العهد وألف مثله إذا كنت سأنال من وراءه الحظوة بهذه الفتاة الفتانة.
ميفستوفيليس - لا أقبل التوقيع على هذا العهد بيني وبينك بالحبر وإنما ينبغي أن توقع عليه بدمك.
فوست - يتناول دبوساً ويكشف عن ساعده ويغرز الدبوس في لحمه ثم يوقع به على العهد الذي فيه ضياعه ويناوله الشيطان ثم يقول كمن يخاطب نفسه.
فوست - نعم لا يهمني الآن ما سألقاه غداً ما دمت حاصلاً على هذه الغادة الهيفاء ألاعبها وتلاعبني وكفى ما مضى من عناء وما لقيت من تعب وبلاء فلأهنأ الآن ولأسر واغتبط وأرشف الكاسات وأمتع نفسي بهذا الجمال الفتان ثم ليأت ما هو آت.
وبينما هو يتكلم يختفي ميفستوفيليس ومرجريت.
(المنظر الثالث) فيهتاج فوست حين يرى نفسه منفرداً ثم يقول.
فوست - ويلاه أين ذهبت فاتنة قلبي أين ذلك الذي كان يكلمني ويمنيني نيل المنى أفي حلم كنت أنا أم في يقظة ما هذا الحلم الغريب وهذه الأمور الخيالية ثم يفتش في أركان الغرفة وهو يقول ويلاه أين ذهبا أين ذهبا أبلعتهما الأرض أم طارا في السماء ولما يتعبه البحث والتنقيب يسقط على الأرض ثم ينهض وهو يفرك جبينه ويقول.
فوست - الخيال الخيال أين ذهب أين رحت يا مرغريت يا بديعة الجمال وربة الدلال وسالبة اللب أحي أنين قلبي وبلي غلة نفسي وأطفئي لهيب فؤادي تعالي تعالي أكذبي وخوني خطيبك وكوني لفوست خليلة ويا لها من أحلام.
ويسمع قرع الباب فيقول.
فوست - من هذا الطارق على بابي في مثل هذه الساعة من جنح الليل ألا تباً لك أيها الزائر ولعله تلميذي ونيار بل أراه هو بعينه. أني أمني النفس وأناجيها بأمور الغرام ويأتيني هذا الفتى الغر ليصدع رأسي بأسئلته الفلسفية والحكيمة فلنظهر له الاستياء حتى لا يطيل معي جلوسه.
ويقرع الباب مرة ثانية.
فوست - أدخل أيها الطارق.
(المنظر الرابع) يقوم فوست من على كرسيه أمام مكتبه ويدخل ونيار وهو فتى وسيم في الخامسة والعشرين من سنيه لابساً رداء البيت وعلى رأسه قلنسوة الليل ويحمل بيده مصباحاً.
ونيار - ما هذا يا سيدي الأستاذ أتجلس هكذا بلا نور ولا نار على أني استميحك الصفح عن مجيئي في مثل هذا الوقت فلقد سمعتك وأنا أتمشى في الطرقة تترنم بالشعر فخيل لي أن هذه رواية يونانية أنشأها الأستاذ فهو يترنم بما فيها من الرقائق الشعرية فجئت على أمل أن أشنف سمعي بمحاسن أنشاده.
فوست - وهو مظهر للعبوسة - وما هي فائدتك من تعلم ذلك.
ونيار - أريد أن أكون ضليعاً في فن الإلقاء التمثيلي والإنشاد والخطابة فإن هذا لعمري أحد وسائل النجاح العظيمة في هذا العصر والناس يعتقدون أن الممثل قد يصلح لأن يكون واعظاً.
فوست - قول أكثر الناس قول هراء يا ونيار ألا تعرف ذلك.
فيضع ونيار مصباحه على أحد الموائد ويجلس أمام أستاذه بلا استئذان وهو يقول.
ونيار - لا يؤاخذني سيدي الأستاذ فأني لمعيشتي هنا في عزلة عن الناس لذلك لا أعرف دخائلهم.
فوست - وهو يبتسم - وهل عرفت الحي يا ونيار.
ونيار - أما الحب فقد أحببت.
فوست (ويقترب بكرسيه منه) صرح لي بما يكنه قلبك ومن هي تلك الفتاة الجميلة التي شغل حبها قلبك.
ونيار - (وهو ينظر إلى فوست دهشاً متردداً)
- من هي التي أحببتها؟ إنها لعمري إحدى تلك الفتيات الفاتنات والغانيات القاتلات اللاتي يود كل أنسان أن يحظى بقربهن ويشنف الأسماع بشهي حديثهن وهي وأن كانت فتاة فقيرة لا مال لها ولا عقار ولكن لها في دعج عينيها وهيف قوامها وجلنار خديها ما يغني الصب عن كنوز الذهب والفضة أنها ظبية من ظباء حديقة ويمار اللائي يخرجن إليها للرياضة والنزهة فيسبين العقول ويخلبن النهي ويفضلن أزهار الربيع ووروده التي يمشين بينها.
فترجف أعضاء الدكتور فوست ويضطرب ويقول مخاطباً نفسه.
فوست - ويلاه أيمكن هذا الفتى مزاحماً لي في حب مرغريت التي رأيتها اليوم لا لا أظن ذلك على أنه إذا كان ذلك كذلك فالويل له فأني قاتله لا محالة بسيفي وساقيه كأس الردى ولكن لا لا هذه أوهام يضلني فيها ما بدأت أشعر به من حب تلك الفتاة فلنغير معه مجري الحديث حتى لا أثير شبهه وظنونه.
ويضع يده على كتف الفتى ثم يقول.
فوست - أتحب أن تكتسب قلوب الرجال وتعظيمهم لك مما هو بغية أكثر الناس وأمنية كل شاب في سنك فأقول لك لا تؤمل أن تصل إلى ذلك في المجتمع ما لم يكن في قلبك حب وميل حقيقي للناس يكسبك رضاءهم ويحبب فيك نفوسهم.
ولأزيدك بياناً فأقول. إن الوقوف في منصة الخطابة أو التربع في كرسي الوعظ وسردك العبارات المختلفة المقعرة وتكلفك لوك ما قد لاكته الألسن من قبل من المفخمات والنفخ في رماد ذلك لإشعال جذوة القلوب كل هذا لا يكسبك إلا إعجاب الأحداث والأغرار ولا سبيل إلى أكثر من ذلك من النجاح ما لم يكن لك من قلبك دافع ومن نفسك أي وجدانك عامل إذ لا طريق للوصول إلى القلوب إلا بما تعمل القلوب.
ونيار - وهو مطأطئ الرأس أمام هذا النصح وعيناه تتقدان - إذاً أنت لا تعتقد أيها الأستاذ أن الاختبار والتجربة في الخطابة والمران على الفصاحة والبلاغة على هذه الصورة في شيء من إنجاح شأن الخطيب على أني لعمري في حاجة إلى سماع بلاغتك ودرر ألفاظك لأني بفضل تعليمك يمكنني كسب القلوب ولا سيما قلب ذياك الجمال الذي بهرني. . .
فوست محركاً رأسه - كلا كلا لا تعتقد ذلك يا بني وثق أن الحب سراب لامع يخدع عينيك ففر منه واستمسك بالأمور الجدية. أجل يا ونيار دعك من القشور وعليك باللباب. اترك المحسنات والتكلفات وعليك بحسن الذوق وصدق النية تفز بالنجاح ولا تقع في الشطط والخطأ الصريح.
ونيار - ولكنك أيها الأستاذ طالما علمتني أن من أصول البلاغة والفصاحة. . .
فوست مقاطعاً وهو رافع ذراعيه إلى العلاء - أنني معرض للخطأ وواجبي يقضي على الآن بإصلاح ما أفسدته عليك.
ما هذا الذي اتخذته مبدأ لك من خلب العقول بفصاحة لسانك لاستجلاب رضا امرأة. لا جرم أنه شر مبدأ يجب الإقلاع عنه.
ونيار - أنك أيها الأستاذ العظيم لم تكن تجري ذكر النساء قبلاً قط على لسانك. على أنه يلزم الإنسان لتجميل حياته الدنيوية القصيرة أن يلطفها بشيء من المسرات بمشاهدة امرأة له يسكن إليها ويتلذذ بسماع حديثها فإن إدامتي الاشتغال بالمؤلفات العتيقة والمقارنة بينها ينهك قواي فلذلك أسعى إلى إعطاء نفسي شيئاً من الراحة واللعب والمسرة دون أن أهمل مع ذلك حق العلم والحقائق التي أزاول تعلمها.
فوست - إن هذه الحقائق لهي التسلية الوحيدة لقلبك فلا تفارقها ولا تعلق قلبك بشيء سواها ولكن ما هو اسم الفتاة التي تحبها يا ونيار؟
ونيار - لا أعرف اسمها.
فوست - يجب أن تسلو هذه الفتاة وأن تدعها لخاطبها ولا تفسد على الناس بناتهم ولا تعكر على العائلات صفوها فيما تختار لبناتها أما نحن فلنكب على العلوم فهي مسلاتنا الوحيدة يا صديقي وأنها لأعلى منزلة وأسمى مقاماً ويسمع دق الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.
فوست - أسمعت. لا جرم أننا قد أطلنا السهر فينبغي أن نقف عند هذا الحد من سمرنا الليلة.
فيقف ونيار ويمسك مصباحه ويتهيأ للخروج وينهض فوست أيضاً.
ونيار - وهو خارج لقد كان بودي أن يطول سمرنا وحديثنا العلمي الشهي لولا أن يوم غد عيد الفصح المبارك ويجب أن نستريح لاستقبال العيد فاستودعك الله أيها الأستاذ الجليل.
فوست - في حراسة الله يا بني.
(المنظر الخامس) حين يخرج ونيار ويغلق فوست الباب ثم يأتي إلى كرسيه ويقبع فيه وهو يقول:
فوست - أيصدق حدسي ويكون ونيار تلميذي خصمي ومزاحمي في حب مرغريت لعلي أكون واهماً على أن ميفستوفيليس رأ الشياطين قد وعدني بأن تكون هذه الفتاة لي وحدي وأن قوته وسلطانه لحريان بأن ينيلاني مرغوبي ويبلان غليل نفسي الذي يؤجج النار في الحشا، ويلاه أيقوم بنفسي وأنا الأستاذ الكبير والعالم النحرير أمثال هذه المنازع حتى صرت بعد أن كنت أعشق العلم وأسفاره أصبو إلى امرأة وأود لو أني جاثٍ أمامها الآن على الركب.
ويبقى برهة غارقاً في أفكاره ثم يقول كأنه يخاطب تلميذه ونيار متهكماً به.
فوست - سر في أوهامك يا ونيار ما شئت أن تسير واتعب في التنقيب عن العلم وتحر البلاغة ما وجدت إلى ذلك سبيلا، لا جرم أن هذه المنازع واللذات لا تسر إلا أصحاب العقول القاصرة مثل عقلك على أنه ينبغي لي أن أخفض الصوت في هذا المكان الذي ظهر لي فيه الشيطان وأني لأشكر له صنعه وأحمد إليه عطاءه وما مناني إياه وأراني أشعر بما يدب في جسمي من الحياة اللذيذة التي وعدني بها غير أني أخشى أن يكون ما شاهدته ووعدني به غروراً واضعات أحلام سقطت أو تسقط بي إلى الحضيض وقد أضيف إليها شهوة جديدة تزيد متاعبي وتنغيص عيشي.
ثم يقف بجوار فراشه ويقول: فوست - علام التماس الراحة والنوم قد جفا أجفاني زمناً ولزمني الأرق والسهاد وصرت الإنسان الضال المشرد الأفكار الذي يتردد بين اختيار منزل في السماء أو امرأة في الأرض، هل يجب عليّ أن لا أسمع إلا لطالب الجسد فاستسلم إلى ما تميل إليه نفسي من الرغائب؟ هل ما عراني من التصورات المملوءة بالآمال تجسر الآن أن تطوي أجنحتها وتلزم السكون حتى تتلاشى وتموت في نفسي؟ كلا كلا إن كل ما يحيط بي في هذه الغرفة وموضوع على هذه الموائد أو معلق على حيطانها أهو شيء آخر غير مادة ترابية؟ أمور زائلة وغرور باطل يظهر ف ألوف من الصور وما هو الأطعمة للدود وعرضة للفناء على حين أن ابتسامة واحدة من ثغر فتاة جميلة تحيي النفوس وتبل صداها.
ثم يصمت قليلاً ويقول:
فوست - أفي هذا المكان أجد ضالتي وما ينقص قلبي! ما الذي أستزيده من دراسة هذه الأسفار الضخمة التي عذب مؤلفوها أنفسهم باستخراجها للناس. هل يذكر التاريخ فرداً واحداً منهم عاش سعيداً منهما حتى الممات:
ثم يذهب إلى المائدة ويأخذ منها جمجمة إنسان ويقلبها بين يديه ويقول:
فوست - ما تقولين لي أنت أيتها الجمجمة الخالية الجافة. أهاج أفكارك أيام حياتك ما يهيج أفكاري أنا اليوم؟ أنشدت نور الحقيقة وصبحها وواصلت البحث والتنقيب عنها حتى وقفت على تلك الحقيقة التي تفرّ منا وتحتجب وراء حجب الغيوب كلما واصلنا البحث عنها؟
ثم يجيل بصره في الغرفة ويقول:
فوست - وهذه العدد والأدوات إلا أراها تهزأ بي وبمجهوداتي السابقة وقد كنت بواسطتها أعمل على باب العلم وأعالج فتحه معتقداً أنها تعينني على فتحه فوجدتها تزيده ارتاجاً. لعمري أن الطبيعة المملوءة بالأسرار والمعميات لا يسهل عليك حل رموزها وكشف غوامضها وأن مالم ترض هي باختيارها إجلاءه لنفسك من حقائقها فلن يمكنك أن تنزعه منها نزعاً بالدلاء والبكرات فيالك من أدوات عتيقة وعدد لا فائدة منها:
ثم يطرح الجمجمة على المائدة ويضرب بقبضة يده على الكتب فتعثر يده على زجاجة فيأخذها بلهف ويرفعها إلى العلا ويقول:
فوست - هذه هي الضالة المنشودة بل هذا هو الدواء الناجع ليأسي ولئن كان الظلام مخيماً على هذا المكان فإن ما في هذه الزجاجة من العقار ليضيء بنور لامع.
ثم يفتح الزجاجة ويقول:
فوست - أيها الشراب اللذيذ الذي يعجل بالشفاء من جميع الأدواء والذي جمعته من أصول النباتات والأعشاب وكل الجواهر السامة التي تريح الإنسان بالموت على أيسر حال أن برؤيتك تزول الهموم وبتعاطيك تذهب الآلام والغموم التي تحط بكلكلها عليّ فهيا لنسرع باللحاق بعالم آخر غير هذا العالم (ثم يضحك ويقول)
فوست - أجل إن كل ما خُبّرتُ عنه وخَبَرتُه في هذه الأرض إن هو إلا أكاذيب وأضاليل وليس ما وُعِدتُ به من عناق مرغريت والثمل برشف ريقها العذب ما هو إلا خداع بل حلم حلمت به وأن تلاميذي ليهزأون بي فلنغادر هذا العالم ولنفر من على ظهر الأرض ولنترك سكانها وشمسها وسماءها ولنجرأ على اقتحام هذا الباب الذي يتهيبه العوام ولنثبت للناس في هذه البرهة أن من الشجاعة اقتحام هذا الأمر واقتراف هذا الجرم.
وهنا يسمع على بعد قرع الأجراس وأناشيد كنائسية في صعود المسيح عليه السلام فيقف قليلاً ويقول:
فوست - ما ألطف هذه الأصوات الكنائسية وأرق هذه الأناشيد السماوية التي أعرف مبناها ومغزاها ولكنها أضحت وا أسفاه لا تشفيني ولا يلين لها قلبي فلندعها لأصحابها ولنتشجع فيما نحن بسبيله، أجل تشجع أيها الدكتور وتناول هذا السم وسلام عليك أيها الفجر الباسق.
(المنظر السادس) ويشرع في وضع الزجاجة على فيه فيأتي ميفستوفيليس من خلفه ويمسكه وينزع الزجاجة من يده ويلقي بها على الأرض فتنكسر.
ميفستوفيليس - ما هذا اليأس أيها الدكتور العظيم ألم أعاهدك على نيلا تشتهي نفسك: أتظن أن الشيطان ينقض عهده أو ينكث وعده. كلا كلا بل لا بد لي من إعطائك ما تريد فمرغريت ستكون لك وشبابك سيعود إليك.
فوست - لقد كنت حسبت مجيئك وعهدك خيالاً بل حلماً من الأحلام ولكنك إذ جئت الآن للوفاء به فعجل بما وعدتني.
ميفستوفيليس - اذهب إلى هذه المرآة وانظر أولاً صورتك فيها. (فيذهب فوست إىلى المرآة وهنا تتغير صورته ويعود إليه شبابه وزهرته فيدهش ويصيح قائلاً) فوست - عجب عجاب. . أني صرت شاباً وعاودتني صورتي وهيئتي يوم كنت ابن خمس وعشرين سنة فيالسعادتي ويالحسن حظي فمتى أذهب للقاء مرغريت فاتنة قلبي (ثم يعود إلى ميفستوفيليس).
ميفستوفيليس - ستراها قريباً وتحادثها وسأدبر لك الحيلة في الاجتماع بها فنم الآن قرير العين مرتاح الخاطر ولا تظن الشيطان يخلف وعده أصدقاءه.
فوست - وهو ينظر إلى هيئته ويمسك ثيابه بيده - ياللسرور وياللهناء لقد عدت شاباً صغيراً ولكن ما العمل في تلاميذي ومريدي إذا رأوني على هذه الصورة أيعرفونني أم ينكرونني.
ميفستوفيليس - لا تخف فأني سألازمك واتزيا بزيك السابق وأقابل بدلك تلاميذك وأعلمهم علمك فلا تغتم لذلك ولا تجدن فيه غضاضة بل ينبغي لك أن تسر به وتنصاع لأوامري وأني سأسير بك في العالم السيرة التي تشتهيها نفسك من الحظوة بحبيبة قلبك والتمتع بمسرات العالم ودعك من كل هذا التعب الذي تقاسيه والشقاء الذي تعانيه والآن استودعك الله فنمر العين مرتاح الخاطر وسآتيك بعيد ساعات قليلة لآخذك معي لترى مرغريت بهجة نفسك (ويفترقان فيذهب فوست إلى فراشه ويتقدم ميفستوفيليس من المسرح وهو يقول:)
ميفستوفيليس - لقد تم لي إغواء هذا الرجل العظيم وما أوقعه في شركي غير كبريائه ونعاظمه فسلطني الله عليه حتى أغويته قصاصاً منه وعقاباً له على ما دخل نفسه من العجب والغرور بعلمه ومعارفه الواسعة، من كان يظن أن الدكتور فوست عالم ألمانيا الأوحد وحكيمها الأشهر المتبحر في جميع العلوم البشرية يقع في شركي ويعطي بيده في فخي على أيسر سبيل بمجرد أن زينت له ما قام بنفسه من الشهوات التي طالما جاهدها وقمعها في نفسه وحاربها في سواه وقد بلغ من الكبر عتياً، لا جرم أن أحوال الإنسان عجيبة وأطواره غريبة فبينا هو ملك كريم إذا بك تراه شيطاناً رجيماً لأن فيه لعمري جانباً ضعيفاً من الميول إذا هو لم يقومها ويقاومها جهده ويسدد خطاه في حياته حتى النهاية قادته صاغراً إلى البوار مهما كان عظيماً وأعنت أنا عليه بسببها وما ربك بظلام للعبيد. (ثم يرفع الستار)