الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/كتاب الصور

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/كتاب الصور

بتاريخ: 31 - 12 - 1920


للكاتب الأمريكي الأشهر واشنجتون ارفنج

(وهو مجموعة مقالات وروايات أدبية وأخلاقية ممتعة)

حديث المؤلف عن نفسه

ما زلت مولعاً بمشاهدة المناظر الجديدة، وملاحظة الطباع والأخلاق الغريبة ولما كنت طفلاً صغيراً بدأت سياحتي ورحلاتي الاستكشافية في أنحاء بلدتي ومسقط رأسي، إذ كنت أهيم على وجهي في أنحائها فأضل الطريق وأتيه في جهات منها مجهولة لي غير معروفة ولا مألوفة، وكان في عملي هذا ىأفجع المصاب والذعر لوالدي وأجزل الربح والفائدة لمنادي البلدة، ولم شببت وترعرعت أفسحت لنفسي مجال النظر والتأمل فجعلت أقضي العشيات والأصائل من أيام العطلة بالتجوال في ضواحي الريف المجاورة حتى درست جميع الأماكن المشهورة في عالمي التاريخ والخرافة، فلم تخف عليّ بقعة جرت فيها حادثة قتل أو سرقة أو ظهر بها عفريت وكذلك زرت جميع القرى المجاورة وضاعفت ذخيرة معلوماتي بملاحظة عاداتها وتقاليدها ومحادثة حكمائها وعظمائها. بل لقد طوحت بي يد السفر في بعض أيام الصيف الطوال إلى قمة أقصى تل حتى إذا تسنمت تلك الذروة أبعدت مرمى البصر أسرح الطرف في بقاع مجهولة وأناجي النفس حائراً دهشاً (ما أعظم هذا العالم الذي أسكنه!).

هذه النزعة الطوافية والشهوة التجوالية نمت معي وازدادت على كر السنين فأصبحت أشد ما أكون ولوعاً وشغفاً بكتب الرحلات وأسفار الاسفار ألتهم محتوياتها التهاماً وقد أهملت دروس المدرسة كل الاهمال. وكم كنت أدور وأطوف حول رصيف الميناء في أوقات الصحو والصفاء أرنو - ساجي الطرف شاخص البصر - إلى السفن الراحلة الميممة أقاصي البلدان. وكم كان لي إلتفاتة لهفى مولهة في أثر المراكب الذاهبة أصوب إلى شرعها المتضائلة المضمحلة الحاظ الواجد المشتاق وأقذف بنفسي على أجنحة الوهم والخيال إلى أقصى أطراف المعمورة!.

ولقد كان بعد ذلك في ادماني القراءة والتفكير ما كبح من جماح هذه الشهوة ووقفها عند حد معقول ولكنه جعلها مع ذلك أشد مضاء وتصميماً فزرت عدة من نواحي بلادي.

أني ممن وقفت رغبتهم عند مجرد التلذذ بالمناظر الطبيعية الحسناء لكان لي فيما حوته بلادي من تلك المناظر مندوحة عن التطلع إلى أية بلاد أخرى، ولا غرور فإن الطبيعة لم تكن في بلد ما أسخى يداً ببديع المناظر وروائع المشاهد منها في أوطاني العزيزة. وناهيك ببحيراتها العظيمة كأنها مجارٍ من ذوب اللجين وجبالها الرافلة في وشي ألوانها الزاهية الشفافة ووديانها المفعمة نعمةً وخصباً وشلالاتها القاصفة في خلوات قيفارها. وسهولها المترامية الأطراف مواجةً بدوائب أغراسها الغامرة المتكاثفة وأنهارها العريضة العميقة منحدرةً في صمتها العميق إلى المحيط، وآجامها الوعرة المسلك غير المذللة ولا المطروقة مختالةً من نباتها الوحف الأثيث في مثل الوشى اليمانى. والديباج الخسرواني. رافلة في أقشب حلة وطيلسان. مزدانة بأجمل الحلي والتيجان. وسمائها الوهاجة بصقال السحب الصيفية ورونقها المعجب الفتان. وبنور الشمس المتبلج الأضحيان، ولا يزال الأمريكي غنياً بناظر بلاده عما سواها لا حاجة به إلى أن يلتمس في غير أوطانه جمال الطبيعة وجلالها:

ولكن ميزة آوروبا هي في اشتمالها على كنوز القصص والشعر والرواية فهنالك بدائع التصور ومحاسن آداب الطبقات العالية المهذبة وعجيب خصائص العادات القديمة والمحلية. فأوطاني ملأى بما يبشر بالمستقبل الحسن وآوروبا ملأى بذخائر العصور الخالية وودائع الدهور الغابرة فأطلالها البالية ورسومها العثية تحكي قصة الأزمان الماضية وكل حجر دائر إنما هو سجل أخبار. وصحيفة آثار. وشاهد عبرة وتذكار، ودليل موعظة وإنذار. ولذا تاقت نفسي إلى غشيان مشهد المآثر الجليلة والمساعي النبيلة. والمناقب الغراء والآلاء البيضاء والمفاخر المشهورة. والمكارم المشكورة. والمحامد المأثورة. وحن قلبي إلى أن أقفو آثار شبح الماضي واتتبع أصداء صوت القدم. لفد أحببت أن أجوس خلال القصور الخربة والرسوم التبة. واعتبر بسقوط الأبراج النشيدة. والقلاع الحصينة الموصدة. فاتجرد بذلك برهة عن الأحوال العادية الحالية وانطلق مخلوع العذار جامخ العنان في أودية الغابر الخيالية وشعاب الماضي المبهمة.

وكنت فوق ذلك مشغوفاً بأن أبصر أعاظم رجال الدنيا. لا أنكر أن لدينا عظمائنا بالقارة الأمريكية ولا بلدة إلا قد أوتيت نصيبها من العظماء. ولقد خالطهم حيناً ما فبهرتني أنوارهم وكسفتني شموسهم وأحرقتني لفحات شهبهم. إذ ليس أمحق للرجل الصغير من ظل العظمة الذي يسقط عليه من شخصية الرجل العظيم فيكاد يمحوه محواً، ولكني على الرغم من ذلك شغفت بأن أرى عظماء آوروبا إذ كنت قرأت في بعض مؤلافات الفلاسفة أن جميع الحيوانات ينحط نوعها وتفسد طبائعها في أمريكا وفي جملتها الإنسان، ينتج من ذلك أن العظيم الآوروبي يكون أسمى من العظيم الأمريكي بمقدار سمو جبل ألبى على ربوة من ربى هدسون ومصداق ذلك ما نراه من العظمة والأبهة النسبية لكثير من السياح الإنكليز بيننا بعد انحطاط مكانتهم وصغر أقدارهم في بلادهم الأصلية. لذلك قلت في نفسي لأزورن هذه القارة الآوربية معرض العجائب والغرائب فأُبصر ذلك الجنس القوي العظيمالذي أنا أحد ذريته الضعيفة المنحطة.

وكان من حسن حظي أو منم سوء حظي أن قضيت وطرى وحاجتي من ذلك التجوال والطواف. فلقد طوفت في آفاق شتى وشاهدت كثيراً من مناظر الحياة المتنقلة وصورها التحركة، ولا أقول أني درست هذه المناظر دراسة فيلسوف ولكن مثلي وإياها كمثل عاشق المناظر الغريبة إذ يتلوم على معارض الصور المختلفة بحوانيت المصورين ينتقل من واحد إلى آخر فتارة تستهويه صورة غادة حسناء وتارة مقابح صورة شوهاء، وآناً محاسن منظر طبيعي، وكما من عادة السياح اليوم أن يحملوا ريشة التصوير أثناء رحلاتهم فيعودون إلى أوطانهم مملوءة حقائبهم بالصور والرسومات فلقد عزمت أن أصنع بضع صور اتحف بها صحبى وخلاني، بيد أني اذا أملت ما قد أعددت لهذا الغرض من الخطرات والمذكرات ساءني وأحزنني أن تكون أميالي وأهوائي العابثة قد صرفتني عما يعمد إليه السائح الرشيد من شريف المقاصد والأغراض حينما يريد أن يؤلف كتاباً. وإني لأخشى أن يبوء كتابي من الخيبة والخسران بمثل ما يبوء به تصوير المصور الذي يسيح في القارة الأوربية فلا تحدوه أمياله الشاذة وأهواؤه الشاردة إلا إلى تصوير الأركان الخفية والزوايا المستترة والأماكن الغامضة، فمصوره يجيئ بناء على ذلك غاصاً بالأكواخ والمناظر الخلوية والدمن والأطلال المجهولة الخفية ولكنه خلو من صورة كنيسة القديس بطرس أو تياترو الكولوسيوم أو شلال (ترنى) أو خليج نابلي ولا يرى به واحدة من نهر ثلجي أو بركان.

ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل

مقالة السوء إلى أهله ... أسرع من منحدر سائل

لم أجد كثرة الأخلاء إلا ... تعب النفس في قضاء الحقوق

فاصرف الناس عن كثير من الن ... اس فما كل من ترى صديق

ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه