الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/روح الشعب الانكليزي

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/روح الشعب الانكليزي

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 59
روح الشعب الانكليزي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 12 - 1920


في هذا العصر

منذ بدء هذا العام تولي رئاسة مجلة المجلات الانجليزية التي أسهها ذلكم الكاتب الغريب المعروف بأبحاثه النفسانية وعجائب الوحي الروحاني والذي استشهد غريقاً في سفينة التايتنك، وليام ت ستيد. كاتب آخر من سادة الصحفيين الانكليز وكبرائهم وهو السير فيليب جيبس. فدخل على المجلة بدخوله مظاهر التحسين والإبداع. وأقبل الكتاب الأعلام في الشعب الانكليزي على المجلة يسهمون في تحريرها ويخصونها بمقالات خطيرة وقد صدر العدد الأخير من المجلة بمقال لرئيس التحرير بهذا العنوان الذي وضعناه في رأس هذا البحث فآثرنا نقله للقراء لما فيه من الحقائق الغريبة والمعاني السامية.

كل ما أقصده ببحثي هذا الكلام على الشعب الانكليزي عامة. لا عن الاسكوتلنديين فحسب أو أهل الغال (ويلس) فحسب. والسؤال الذي أريد أن أجيب عليه وأتحيل على حله واستكناه حقائقه هو سؤال ليس بالسهل ولا بالذلول. وأعني به هذا (ماذا بقي لنا من خلقنا الانكليزي القديم المتأصل فينا وروح شعبنا ومزاجه وغرائزه القوية، بعد ما أفنت الحرب الكبرى أبدع رجولتنا، وقتلت أعز شبيبتنا، وطاحت بأنضر فتيتنا، ولا سيما في هذا العصر الذي أصبح نظام المجتمع الإنساني فيه مهدداً بالأخطار يريد أن ينقض، لا شك عندي البتة في أنه لو سقطت انجلترة إلى هوة الفوضى أو لو تداعى بنيانها الاجتماعي فجأة. فلا يكون من ذلك إلا أن تجفل أوروبا بأجمعها من أثر هذه الصدمة وتتزعزع أركان العالم كله ويرتج صرحه. بل لا يكون من ذلك إلا الضربة القاضية على جميع الآمال والأماني الكبرى في شفاء الإنسانية من جراحات هذه الحرب الأخيرة وتأسيس مجتمع سامي عام يشتمل الأمم كلها ويمشي إلى مدينة منتظمة متخلصة من هذه المقاذر التي تلوث المدينة الحاضرة وذلك لأن انجلترة ما فتئت منذ أبعد العصور ساحلاً آمناً في وسط زوابع التاريخ وعواصفه. وعاملاً من العوامل المؤثرة في نظام العالم وقوته. ولئن كان أكثر أمم العالم ينظرون إلينا بعين الكراهية ويبغضوننا البغض كله فلا يزالون ينظرون إلى انجلترة نظرهم إلى صخرة مكينة ثابتة. وهم يتهموننا - ويتهموننا بحق - بأن ترنمنا بالمبادئ العالمية التي نخفي بها في غالب الأحايين أطماعنا ونياتنا ومقاصدنا الذاتية ينطوي على شيء كثير من النفاق والرياء. وهم يروننا - وما أظنهم مخطئين - بالغباوة المدهشة. والحماقة والجهل الفاضح الذي لا سبب له إلا موقعنا الجغرافي وانفصالنا بمكاننا من هذه الجزيرة عن بقية القارة الأوروبية. ولكنهم على رغم هذه التهم كلها لم يستطيعوا يوماً أن يخفوا اعتقادهم في حكمتنا الغريزية وسداد رأينا الذي أعاننا على أن نسير دفة سفينتنا وسطاً بين التطرف في القول والعمل وأن نوازن بين الحرية والنظام ونلائم بين الأمانة والسياسة. ولا زالت طرق المعاملة الانجليزية ومظاهر الشجاعة الانجليزية واللياقة الانجليزية والأخلاق الصخرية في المتانة الحكومية الانجليزية ذات تأثير عميق في الحياة الأوروبية وهي إلى الآن الدعامة التي يعتمد عليها القوم في أوروبا في إنقاذ العالم من الخراب والاضطراب اللذين أرسلتهما الحرب في الدنيا جمعاء.

فما هي الروح السارية اليوم في الشعب الانجليزية وهل ماتت فينا فضيلتنا القديمة. وهل زال عنا خلقنا المعروف قدماً. وهل قدر لنا أن تكون الأمراض والجراح التي أحدثتها الحرب لنا عاملة على أضغاننا وزوال متانة خلقنا وهل نحن من جراء الويلات التي أعقبت الحرب وخمود الحمية وهذا الفساد والظلم النازلين بالعالم ومخالفة الفقر المتوقع المنتظر، والمرض العام والسآمة المتفشية في نفوس الجماعات، فاقدون تلك الحكمة الغريزية التي امتزنا بها كشعب بين الشعوب على رغم الحماقات والسخافات التي نرتكبها والجهل الفاضح الذي نعاب به. وما هو ذلك العامل النفساني الذي يسري الآن في روح الأمة الانجليزية.

هذه هي الأسئلة التي يتساءلها أكثر الناس في هذا العصر إذ تهتاج نفوسهم من أثر شكوك وريب كثيرة، ومخاوف مقلقة. إذ لا يمكننا أن نتجاهل ما نرى من مظاهر الوحشية التي نرتكبها والشراهية التي نبدو بها وهذه النزوات والسورات النفسانية التي تتجلى فينا، والأميال الهدامة المخربة التي يجنح إليها كثيرون من أفراد هذه الأمة من كبيرهم إلى أحقر حقير فيهم. ثم يلوح لنا أيضاً أننا مقبلون على أزمة اقتصادية يريد فيها أصحاب رؤوس الأموال أن ينجوا بأنفسهم على حساب العمال والعاطلين، ويود العمال أن ينقذوا أنفسهم، مستيئسين من شرة الحاجة وآلام الفاقة، بإسقاط أصحاب رؤوس الأموال ودك حصونهم دكاً.

وإنني لا أنكر أنني كلما مررت بشوارع لندن يخيل إليّ أن هذه الجماهير التي تتكون منها الأمة الانجليزية لم تتعلم شيئاً من هذا الدرس الأليم الذي لقنته الحرب أهل الدنيا، وأن هذه الجموع العظيمة لا تحفل البتة بهذه العلة الفاشية في أوروبا وتريد أن تمس أرضنا وتنزل بسوحنا، فلا شاغل لهم إلا همامات أنفسهم ومطالب عيشهم وأطماعهم وشهواتهم وملاذهم أنهم صاروا من الانحطاط الذهني والخلقي بحيث لا أثر في نفوسهم البتة من هذه المعرة التي تلصق بنا من المأساة القائمة اليوم في إيرلندة، ولا من احتضار أمة كبيرة كالنمسا ولا من الحالة السوأى التي وصلت إليها جنودنا الذين سرحناهم بعد الحرب، ولا من هذا الفالج الذي أصاب متاجر العالم وأسواقها الاقتصادية، ولا من هذه المبادئ السامية التي بدأت تبذر بذورها في العالم كعصبة الأمم، ولا شيء من هذا أصلاً.

إن الإنسان ليشهد اليوم أن أشد ما يجتذب نفوس هذه الأمة رواية تافهة أو حادثة مقتل، أو طلاق، وهي أكثر اهتماماً بأمثال هذه السفاسف من قصة أمم بأكملها تنتابها المجاعات أو نبأ نذير يهدد حريتها ويذهب بشرفها ولا تقل أنانية الأغنياء وأصحاب الأموال عن غباوة الطبقات العامة والفقيرة وضيق عقولهم، وإني لأشهد جموعاً عظيمة تموج كلجج البحر دافعة إلي مشاهدة لعَب الكرة، فيأخذني العجب ولا أدري هل ذهب عن هؤلاء الجموع صوابهم وتولت عنهم حكمتهم، وأرى أن هؤلاء الحمقى هم نتاج مدينة لا تستحق الإنقاذ، وإني لأجد الشباب - وهم آمال العالم - مسرعين جماعات حاشدة إلى قاعات الرقص، ودور السينما، للفرجة على روايات كاذبة لا تصور الحياة على حقيقة واحدة من حقائقها، روايات خالية من الخيال الرائع، غير محتوية شيء من السمو وبراعة التصوير، فيخيل إلي كما يخيل للكثيرين في ساعات اليأس أن روح انجلترة قد ماتت وأننا قد فسدنا وضعفنا وحمقنا وصرنا إلى البلاهة والطيش، وأننا لا نجد منا زعماء يتصدون للقيادة، لأننا لا نرى جماهير تتبع الزعيم أو تمشي في أثر الصائح. ليس لدينا مثل أعلى لأن الصدق زال من قلوب أفراد هذه الأمة.

إن انجلترة قد انحطت وتدهورت وانتهت إلى الحقارة والعبث ونحن بعد أن أنهكنا أنفسنا في هذه الحرب التي سقط في ميدانها أعز رجالنا وأفضل شبابنا منحدرون الآن في طريق السقوط حيث يزول من أيدينا ما كان من قبل لنا وطوع بناننا.

ولكن دعونا لا ننكر بل نعترف صراحة بأن هذا الحلم المظلم الذي يعتم أرائي هذه كما يسوّد أفكار كثيرين منا يريدون أن يروا قومنا ناهضين على وقدة حمية جديدة بعد متعبة هذه الحرب، لا يزال رأياً ظالماً لا حقيقة فيه، وإن الشعب أعقل مما يلوح في الجماعات. وإنهم لا يخدعون بما يقدم لهم لأجل خديعتهم وإنهم أقوى وأصح أرواحاً من الذين يتصدون لقيادتهم والترأس عليهم.

نعم ولا نكذب إذا نحن قلنا أنهم يؤثرون قراءة رواية تبسط حوادث القتل أو تصور شنائع الطلاق على قراءة الأبحاث العامة التي تبسط أمام أعينهم الحالة الدولية السيئة وتصور لهم مشكلات الحياة وأمهات مسائلها، ولكنهم إنما يفعلون ذلك لأنهم أكثر انشغالاً بحوادثهم الشخصية ومشاكل حياتهم الخاصة عن التفكير في المسائل العامة المطلقة البعيدة عن مواقع حسهم ومما لا شك فيه أنهم لا يزالون (جزائريين) معتزلين لا هم لهم إلا مصالحهم الشخصية، على الرغم من هذه الحرب التي التحمت فيها القارة الأوروبية كلها وأنهم لا ينظرون إلى أبعد من مطالب العيش وحاجيات الحياة وملاذها التي تجري في وسطهم.

نعم إن الازدحام على رؤية لعب الكرة، أو مشاهدة أسراب من النساء في رواية هزلية أو قراءة شذرات من الكلام الفارغ وسقط المتاع الذي تمتلئ به الصحائف المصورة لا توحي إلى الإنسان شيئاً من الذكاء أو الحكمة التي وصفتها بالحكمة الغريزية. وإنه ليلوح لي أن وبع الجماهير وطبقات العامة بلعب الكرة الذي اتخذوه اليوم صنعة وحرفة تحترف، لا يزال ضرباً من الجنون والحماقة الكبرى، ولكنا إذا نظرنا إلى هذا الولوع دون تحيز لرأينا أن هذا الضرب من الرياضة البدنية هو أقرب سبيل للعمال والعامة إلى التمتع بشيء من هذه الرياضة، وهي تقوي أبدانهم وفي الوقت عينه ترد عليهم عقولهم صحيحة سليمة قوية منعشة، على ما فيها من عدم المبالاة بمستقبل الحياة وبشؤونها وإن الشباب لعلى حق إذا هم لم يبالوا بالمستقبل لأنهم يطلبون من الحياة مراحاً ويبتغون أبدع ما فيها من ملهاة وترويح.

ولا يزال كثيرون منا يفكرون ويتلمسون بلوغ الحقائق، ولا تزال في أعماق نفوسهم عواطف ومشاعر وأمثلة عليا. ولئن كان يلوح لنا في أغلب الأحيان أن الحرب لم يبق لها أثر في نفسية الشعب الانكليزي ولم تترك شيئاً، فالناس كما كانوا، يغضبون لما يفقدون، ويقنعون بما يعانون، ولا يحفلون بالمخاطر تقف في طريقهم، وتعترض سبيلهم، ولا يغضبون إذ يحاولون الانتقام من زعمائهم الذين وهموا وغلطوا شنع الأغلاط. ولا يجن جنونهم ولا يثورون طلباً لتجديد الحياة وتغيير أنظمتها الحاضرة، ولكنك إذا تحدثت إلى جمع من الجنود الذين سرحوا بعد الحرب، والعمال الذين أسهموا في ميادينها، وجدت لهم آراء وخواطر لا يمكن أن تكون وليدة عقول فارغة وأدمغة مجوفة سخيفة فإنهم لم ينسوا بعد شنائع الحرب، وهم يتطلعون إلى حياة جديدة غير هذه التي جلبت هذه الحرب المجنونة المعتوهة وإنك لتلمح منهم اشمئزازاً واستنكاراً للحرب ورغبة في إبطالها والحذر من وقوع مثلها ثانية لهم أو لأولادهم.

وعلى ذلك ترى روح المزاح والمجون والاستهتار آخذة بنفوسهم، مانعة لهم من التحمس لشيء من الإصلاح بتة، أو الغضب من شيء أو التمرد عليه، والشعب الانكليزي ينزوي من طلب الأمثلة الخيالية والمبادئ الاجتماعية الكمالية.

وهم أعداء كل شيء متطرف، شراً كان أم خيراً، وهذا ما يجعلهم غير مكترثين بما يقع في إيرلندة، إذ يقولون لأنفسهم: ما لنا ولهؤلاء الناس. لأنهم لا يفهمون ولا يحبون أن يفهموا هذا الولوع الجنوني الذي أخذ بلب الايرلنديين وراء الاستقلال وحكم أنفسهم بأنفسهم ولا يدركون هذا الأسلوب الجديد في الاستشهاد الذي اخترعه ماكس ويني المحافظ. ولا يعرفون هذا الطراز السن فيني في القتال والنضال، إذ يبدو كل هذا في أعينهم عملاً هستيرياً مهووساً غير لائق.

على أن الأخلاق الانجليزية القديمة أكثر ما تتجلى في الريف فسكان الريف على الرغم من جهلهم بالشؤون الخطابية والفنون الكلامية، ورغم بطء تفكيرهم وضيق بصائرهم، وحسر نظرهم إلى الحقائق، لا يزالون مستمسكين بالأخلاق القديمة، ولا تزال حكمة الشعب الانكليزي التالدة متأصلة في نفوسهم، وبفضل المؤثرات التي تبدو فيها قوانين الوراثة لا تكاد ترى عليهم شيئاً من الانحراف عن أسلافهم الانكليز الأولين.

ولئن كان قد استشهد في هذه الحرب شبان كثيرون، فقد رجع منها مجموعة طيبة كذلك لم تمت، وهؤلاء اليوم بيننا، وهؤلاء لم يفقدوا سجيتهم وخالقهم المتين، وإني لا أعتقد أن غرائز الشعب الانكليزي لم تطلق بتة من آدابها الأولى وإن قلب انجلترة على رغم ما ينتابه من المرض والضعف والتسمم لا يزال قوياً رفيقاً وإن الجماهير الانجليزية أفضل من زعمائها، وإن الشعب بمجموعه أرقى من قادته.