مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/العادة
→ روح الشعب الانكليزي | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 59 العادة [[مؤلف:|]] |
حضارة العرب في الأندلس ← |
بتاريخ: 31 - 12 - 1920 |
بحث فلسفي سيكولوجي أخلاقي بديع
للكاتب الفيلسوف العظيم البروفسور جيمس
مما يؤثر عن القائد العظيم الدوق أوف ولنجتون أنه صاح يوماً وقد جاء ذكر العادة وقوة سلطانها فقال (أوكل ما يقوله الناس عن العادة أنها طبع ثان؟ كلا لعمرك إنها الطبع مضاعفاً إلى عشرة أمثاله!) وإن أولى الناس بأن يتخذ قوله حجة في مثل هذا الموضوع من كان أخبر الناس به وأشدهم مزاولة له ومعالجة أعني الجندي الذي حصر مجرى حياته وحياة جنوده داخل قيود حرجة من العادات وحواجز شديدة من أقسى القواعد والنظامات فاتضح له من ذلك أن تأثير العادة لا يزال بالإنسان حتى يبدل شخصيته تبديلاً ويخلقه خلقاً جديداً فيما يتعلق بمعظم طبيعته وأخلاقه.
وقد ذكر البروفسور هسكل على سبيل الفكاهة وإن كان ذلك من الجائز المحتمل (إن ماجنا بصر بجندي مستودع ذاهباً بطعامه إلى مأواه فصاح به بغتةحازدور! فأرخى الرجل ذراعيه تواً وسقطت منه الشريحة والثريدة في بالوعة الطريق. وعلة ذلك أن عادة التمرينات العسكرية قد كانت تسلطت عليه إلى درجة أصبحت معها قد اندمجت في جهازه العصبي وصارت قطعة من كيانه).
وكثيراً ما شوهد في ميادين القتال أن الجياد وحدها عارية من فرسانها كانت تجتمع على نداء البوق وتجول جولاتها المعتادة من تلقاء ذاتها بلا مدبر ولا مصرف، وهذه الحيوانات المنزلية تراها كأنها آلات ومكنات مضبوطة الأجهزة مطردة السير والنظام تقوم من لحظة إلى أخرى بأداء ما قد علمتها من الأعمال والحركات ولا يبدو عليها البتة أنه من المحتمل أن تشذ يوماً عن هذا المنهج أو تنحرف عن هذه الخطة. ومما يؤثر عن أهل السجون أن كثيراً منهم ممن يغادرون السجن بعد قضاء أعوام عدة ربما تمنوا العودة إليه بعد الخلاص فطرقوا بابه ثانياً وبهم من الحنين إليه ما بالآيب إلى وطنه بعد طول الهجرة والفراق. ويحكى أن نمراً انكسر قفصه أثناء حادثة من حوادث القطارات فأفلت من القفص ولكنه ما لبث أن أصابته حيرة ودهشة من هذا الوسط الجديد الذي أفضى إليه بعد طول المقام في قفصه واعتياده العيشة بين قضبانه ثم بلغ من شدة ارتباكه وحيرته ان انقلب عائداً من تلقاء ذاته إلى القفص فأخذ فيه مجثمه كعادته ودأبه.
فالعادة هي الشكيمة التي تكبح جماح المجتمع الإنساني إذا همّ أن يعدو أطواره ويتجاوز حدوده. وهي التي تبقي كل امرئ في دائرته وقيوده. وتحمي أبناء النعمة والسعادة من ذوي الثروة واليسار من أن يثور بهم ويطغى عليهم حسادهم من الفقراء والوضعاء. وهي العادة ليس غيرها يمنع أوعر سبل الحياة وأصعب مسالك العيش وأمقتها وأخبثها وأفظعها من أن يهجرها أهلوها الذين خلقوا لها وخلقت لهم. فهي التي تهون على العدّان القيام في ظلمات المناجم والغواص في زمهرير العباب والنوتى في ثورة العواصف والفلاح في حقله المنقطع الفريد يقاسي لذعات الفقر خلال أشهر الثلوج. والعادة هي التي تحمينا من غزوات أهل الصحاري والمناطق المتجمدة. وهي تمنع الطبقات الاجتماعية المختلفة أن يختلط بعضها ببعض. وأنت إذا تأملت أرباب الحرف والصناعات المختلفة وجدت أن أحد هؤلاء متى بلغ الخامسة والعشرين من عمره أي بعد قضاء بضعة أعوام قليلة في حرفته لم يلبث أن تنطبع صحيفة شخصيته بطابع هذه الحرفة وترتسم عليها بل على سحنته وشمائله وصوته ولهجته سمات حرفيته وأماراتها ومميزاتها وخصائصها من أفكار وعقائد وآراء ومذاهب وأميال ومحاب ومكاره ثم لا يستطيع الرجل أن يتخلص من هذه إلا إذا استطاع وجهه أن يتخذ سحنة أخرى أو بشرته أن تتبدل صبغة جديدة.
إذا كانت المدة ما بين عشرين وثلاثين من العمر هي مدة تكوّن العادات الذهنية والفنية أي الحرفية (الخاصة بالحرفة التي يحترفها الإنسان) فإن المدة التي دون العشرين هي مدة تكون العادات الشخصية مثل كيفية نطق الألفاظ وحركات الإشارة والإيماء وأساليب المواجهة والخطاب وهلم جرا. ومن ثم ترى أن الرجل إذا تعلم لغة أجنبية بعد العشرين من عمره استحال عليه أن يبرئ لسانه فيها من اللكنة وكذلك الصبي الذي نشأ في بيئة سافلة ثم ارتفع بإحدى فلتات الحظ إلى مستوى طبقة عالية فعاشر أهلها من ذوي الفضل والعرفان أعواماً طوالاً - يتعذر عليه أن ينقي منطقه ويبرئ لفظه من تلك الخنة وما يجري مجراها من معايب النطق مما كان قد اكتسبه أثناء طفولته وشبيبته. وكذلك شأن هذا الإنسان فيما يتعلق بملابسه وأزيائه - فمهما غص جيبه بالدرهم والدينار كان من المتعذر عليه أن يحاكي في نظام الزي والهندام أهل الطبقة العالية العريقين فيها. فإن تجار الأنسجة والملابس وباعة الحلي والزخارف ليتهافتون على مثل هذا الدخيل بشتى سلعهم وفنون بضائعهم ولكنه لا يوفق في اختياره ولا يعرف ماذا يأخذ وماذا يدع. ولا يزال يتسلط عليه ويتحكم فيه سلطان ناموس الطبقة السافلة التي لم يفارقها إلا بعد أن تكونت حسب قوانينها وأصولها عاداته الشخصية ومنها عادة الملبس وقلما يقوم لهذا الناموس الأولي أو يقوى عليه قانون الطبيعة العالية التي اندس فيها على كبر. ثم يقضي أيامه تعجباً من كيفية اهتداء أقرانه الجدد من ذوي الأحساب والأنساب إلى حسن اختيار الملابس ويرى أن توفقهم إلى إيجاد هذه الأزياء فوق أجسادهم واستطاعتهم أن يجدوا هذه الألوان المختلفة والأشكال المتنوعة من مهاب الريح الأربع وتأليفها وفقاً لهذا النظام العجيب على أكتافهم وصدورهم - يرى هذا عجيبة العجائب ومعجزة المعجزات والسر الذي لا يناله الفهم ولا يدركه الوهم.
فرأس الحكمة إذن وأساس الصواب والسداد هو أن نجعل جهازنا العصبي حليفنا لا عدونا ولنا لا علينا. أعني أن ندخر من صالح العادات أكبر رأس مال نتمتع بقية عمرنا بأرباحه في هينة ودعة. وابتغاء هذه الغاية يلزمنا أن نبادر في باكورة الصبا باستشعار أكثر ما يستطاع من نافع الخصال والخلال استشعاراً يجعل إتيانها كلما دعت الحال أمراً محتماً يجري من تلقاء ذاته كحركات الجسم الاضطرارية - وفي الوقت ذاته يلزمنا اتقاء سيء الخصال وضارها كما يتقى الوباء وكلما كثر عدد العادات التافهة والأعمال الحقيرة الاعتيادية التي نكلف الجهاز العصبي بتأديتها عفواً من تلقاء ذاته دون استشارة أذهاننا - كاشتراء غذائنا أو ذهابنا للحلاق أو مساح الأحذية أو خروجنا لنزهة العصر أو ابتياعنا شخشيخة لطفلنا إلى غير ذلك من الصغائر والحقائر من تفاصيل الحياة اليومية وجزيئاتها.
اتسع بذلك لعقولنا مجال التفكير والتأمل في هام الشؤون وعظيم المسائل مما هو أليق به وأشبه. وما إن رأيت قط إنساناً هو أحمق وأغبى وأسخف وأحقر من الذي لم يتخذ لنفسه عادة سوى عدم العادة - الذي لا يزال يتوقف ويتردد كلما همّ بشأن له ولو كان من أدنى شؤونه كإشعاله (سيجارة) أو شربه كأساً أو ذهابه إلى المرقد ليلاً أو قيامه منه صباحاً أو شروعه في أي عمل من أضأل اليوميات المعتادة. هذا الرجل مرزوء في حياته منكوب في عمره فإن نصف أوقاته يضيع سدى بين التردد والتوقف والتحير وإبرام العزم وعقد النية على إتيان أعمال هي من الدقة والضؤولة وصغر القيمة كان الواجب أن تكون مندمجة في حركات أعصابه الاضطرارية تحصل من تلقاء ذاتها فلا يكاد يحسها أو يشعر بجريانها. فإذا كان بين قرائي الذين يتلون الآن هذا المقال إنسان مصاب بمثل هذه العلة فليبدأ لتوه ولحظته بمعالجتها ولمس الخلاص منها.
جاء في رسالة (العادات الأخلاقية) للبروفيسور (بين) بضع نصائح عملية عظيمة الفائدة أخص منها اثنتين بالذكر وهما (1) عند استشعارك عادة جديدة أو تخليك عن عادة قديمة اجتهد أن يكون ابتداؤك مشفوعاً بأقوى وأمضى ما يستطاع من الدوافع. وذلك بأن تهيئ حواليك من الظروف وترشح من الأسباب وتخلق من الأحوال كل ما هو جدير أن يستحث العزيمة ويستثير الهمة أجل يا فتي! ولتضع نفسك عنوة في تلك الظروف التي تعرف أنها مليئة أن تحدوا بك إلى الخطة الجديدة وتحملك عليها. كأن تجدد عقوداً ومعاهدات منافية للقديمة وكأن تشهد الأمة والجمهور على نفسك علناً. وقصارى القول يجب عليك أن تؤيد عزيمتك بكل مل تستطيعه من وسائل التنفيذ والإمضاء. وأعلم أن هذا يعير فاتحة عزمك من المضاء والنفاذ والقوة ما هو خليق أن يجتاح ما لابد أن يعرض لك في طريقك من دواعي الشهوات فيؤجل ساعة انتكاصك وانتكاسك وكل برهة تأجيل لتلك الساعة المشؤومة تبعد احتمال وقوعها وتقل من فرص عودتها.
أما النصيحة الثانية فهي. لا تسمح بأي شذوذ عن عادتك الجديدة حتى تتأكد أنها قد تأصلت في حياتك الجديدة ورسخت. فإنك إن فعلت ذلك فإن مثلك كمثل رجل قد تناول خيطاً طويلاً وأخذ يطويه على هيئة كرة فكلما أفلتت الكرة من يده فسقطت انحل بالسقطة الواحدة من الخيط ما لا يتأتى طيه ثانياً إلا بخمسين لفة أو أكثر. والحقيقة أن مواصلة التمرين وإدامة التدريب هي خير وسيلة لحمل الجهاز العصبي على أداء حركاته بضبط ودقة دون أدنى شذوذ أو إخلال. وبلا أقل تقصير أو إهمال.
لا يستطيع امرؤ أن يبدأ بإصلاح أمره أو تعديل خطته حتى يكون قد بدأ أولاً بإرغام نفسه على ركوب المسلك الوعر المستقيم وعرف كيف يروض نفسه على المضاء فيه مندفعاً منصلتاً مشمراًّ منجرداً غير ناظر حواليه لا يمنة ولا يسرة أما الذي لا يزال يجدد لنفسه كل يوم عزماً فمثله كمثل من يريد أن يطفر من فوق حفرة فهو كلما أوفى على حافتها وقف ثم ارتد وتراجع كيما يتحفز للوثوب من جديد - ذلك شأنه ودأبه لا هو بواثب فماض ولا هو بمقلع فمريح نفسه. والواقع أنه ليس بغير العزمة الثاقبة والهمة الماضية والصرامة النافذة التي لا يعوقها عائق ولا تقف في سبيلها عقبة يستطيع المرء أن يحشد لنفسه من القوى الأخلاقية ما يحرز به النضر الباهر والفتح المبين في معترك الحق والباطل أحسن الوسائل وأضمنها لتكوين مثل هذه العزيمة الماضية والإرادة النافذة المؤدية إلى هذه الغاية البعيدة والأمنية السعيدة - هي المثابرة والمواظبة على أداء العمل باطراد واستمرار وبلا انقطاع ولا شذوذ.
وثمة وصية ثالثة نردف بها الوصيتين السابقتين وهي: انتهز أول فرصة سانحة لإمضاء ما قد أبرمته من العزم لتنفيذ ما يوحي به ضميرك في سبيل اتباع ما قد اخترته لنفسك من العادة الجديدة. واعلم أن الساعة التي يكون فيها للنوايا والعزائم الجديدة التأثير الأقوى في الذهن ليست هي ساعة تكوينها وعقدها ولكن ساعة تحركها وجيشانها وتبجسها عن قوة محركة فعالة.
إن سنوح الفرصة العملية لهو القاعدة الوحيدة التي عليها ترتكز الإرادة الأخلاقية في تأييد نفسها ومضاعفة قواها وفي النهضة والسمو إلى أعلى. أما من حرم سنوح هذه الفرصة العملية فقد حرم القاعدة التي يرتكز عليها ويعتمد فمثل هذا لا يصنع أكثر من الكلام واللفظ والدعاوى والوعود ولا يتخطى مجال الأقوال إلى مجال الأفعال.
إنه مهما امتلأ وعاؤك من الحكم والأمثال والمواعظ والوصايا ومهما حسنت نواياك واشتد ميلك للهدي والصلاح فاعلم أنك لست بمصلح من خلقك ولا مهذب من نفسك مثقال ذرة ما لم تنتهز سانح الفرص وتنتفع بها في إبراز نيتك من حيز الفكر والشعور إلى حيز العمل. فأما مجرد النوايا والأميال والعزائم فهذه لعمرك خدع الشيطان عن الهدى وحداة الغاوين إلى النار وقد قيل في الأمثال (ألا إن بالنوايا الحسنة مجردة يمهد السبيل إلى جهنم).
قال (ستوارت ميل) الخلق هو الإرادة التامة التكوين والإرادة هي مجموعة أميال تدفع المرء إلى العمل لدى جميع مقتضيات الحياة وضرورياتها بأسلوب محدد ومضاء وشدة وثبات، على أن الميل إلى العمل إنما يكون انغراسه في طبائعنا وتأصله في غرائزنا ورسوخه في أعصابنا على قدر تكرار حصول الأعمال وقلة العوائق دونه (وبالتالي) على قدر اعتياد الذهن وتمرنه على تلك الأعمال. لتعلمن أنك إذا تركت جذوة عزمك تخمد أو جمرة شعورك الحي الشريف تنطفئ فتهمد قبل أن تنتج طيب ثمراتها الفعلية فذاك وأبيك شر من إضاعة الفرصة إذ يبلغ من سوء أثر ذلك في نفسك أنه يمنع عزماتك ونواياك المستقبلة من الاندفاع في مجراها الطبيعي إلى غاية الإنتاج الحسن والإثمار الطيب. ولست أعرف في أصناف الناس من هو شر وأخبث من الرجل الخيالي الخائر العزيمة الذي يظهر الرحمة والرثاء لبني الإنسانية والأسى والأسف لمصائبهم وشدة الغبة في إصلاح شأنهم ولا يتعدى ذلك منه مجرد الأمل والأمنية ولا يتخطى مجرد الكلام والهتاف أو العويل والبكاء - تراه دائماً أبداً في بحر من الأحزان والأشجان والحرق والأشواك والحسرات واللهفات يتخبط في لجه ويتقلب في موجه ثم لا تجده بعد ذلك يحرك إصبعاً في سبيل أدنى عمل يدل على الهمة والنخوة والرجولة فإذا أردت مثلاً على هذا الصنف من المخلوقات فلن تجد أصدق من الكاتب الأشهر جان جاك روسو فإنه بينما كان يشعل ببلاغته أفئدة الأمهات في فرنسا ويستعمل سحر بيانه في إغراءهن بإتباع سنن الطبيعة ونواميسها في تربية أطفالهن إذ هو يبعث بأطفاله وأفلاذ كبده إلى ملاجئ اللقطاء لتتولى تربيتهم على أننا كلنا ذلك الرجل أي كلنا (روسو) حينما ترانا نتحرق لهفاً ونتأجج ولوعاً وشغفاً ونتلهب غيرة وحمية وتحمساً لمذهب من المذاهب أو مبدأ من المبادئ ولكننا في الوقت ذاته نناقض أنفسنا بإنكار حقيقة واقعية تدخل في حدود هذا المبدأ وتعد إحدى جزيئات ذلك المبدأ الكلي: كأن ننادي بمذهب الاشتراكية ولا نخرج زكاة أموالنا أو ننادي بمبدأ العدالة ونأكل حقوق الجار وأموال اليتامى وهلم جرا - ونحتج لأنفسنا عن عملنا هذا بأن هذا الشيء الذي نؤاخذ عليه ليس في شيء من المذهب الذي ننادي به بل هو شيء آخر البتة إذ هو شيء ناقص مشوه ملوث بينما المذهب هو شيء كامل طاهر نقي وقد يكون في دعواه هذه شيء من الحق ولكنه إذا أنعم النظر وتأمل الأمر بلا تحيز ولا غرض وجد أن هذه المسألة الجزئية بالرغم من تلوثها وتشوهها باحتكاكها بالشؤون اليومية العادية الحقيرة الخسيسة لا تزال هي جزأ من ذلك المذهب العام السامي المقدس فالويل كله للرجل القصير النظر المظلم البصيرة الذي لا يستطيع أن يعرف الحق ويميز الصواب إلا وهو في صورته المعنوية وشكله البحت المجرد - فإذا ما بدا له متنكراً في هيئة الشؤون العادية ممزوجاً بشوائب ما يجاوره أو يخالطه مما عداه من الأشياء أنكره وجهله!
وقد ظهر أن الإفراط في قراءة القصص ومشاهدة التمثيل مدعاة إلى تفشي هذه الرذيلة في طبقات الأمم، فإذا طلبت دليلاً على ذلك فانظر إلى السيدة الروسية في مركبتها الفخمة تجرها الجياد الضخمة وهي تتلو بعض الروايات التراجيدية ودموعها على الصفحات تنحدر حزناً على شخص بائس من أشخاص الرواية وقد غاب عنها أنه أبأس من ذلك البائس وأسوأ حالاً ذلك السائق المسكين الجالس خارج زجاج المركبة معرضاً لغوائل الجو وجوائحه وسياط الزمهرير تمزق جلده وكلب الشتاء يكاد يسلب روحه. بل إن الإفراط في استماع الموسيقى إذا لم يكن لأغراض فنية وعلى سبيل الرياضة الذهنية بل كان لمجرد الاسترسال في الشهوة الحسية كان جديراً أن يحدث فتوراً وخوراً في القوة الأخلاقية لأن الألحان تبث في فؤاد السامع من الإحساسات والانفعالات والعواطف ما لا يستطيع أن يخرجه من حيز الشعور إلى حيز الفعل فيبرزه في صورة أعمال جليلة ومآثر نبيلة ومن ثم ينشأ في المرء ذلك الخلق الممقوت الجامع بين اهتياج الشعور وجيشان القلب بالعواطف الكريمة وبين الخور والفتور والعجز وسقوط الهمة - فترى أمامك قلباً يتأجج غيرة وحمية ويدين مغلولتين عن الخير والبر وأماني وآمالاً تسمو إلى السماء وتقاعداً وتبلداً وتثاقلاً تهبط وترسب إلى الحضيض. فالعلاج الوحيد لذلك هو أن الواجب على المفرط في سماع الموسيقى أن لا يدع قلبه يمتلئ بعاطفة أو انفعال إلا إذا كان قد عزم على إبراز هذا الشعور بعد قليل في صورة فعلة كريمة أو مأثرة حميدة - ولو لم تكن إلا الشيء القليل الضئيل، كإهداء الكلمة الطيبة أو اللفظة اللينة لأحد الأقارب أو الأباعد أو كإيثار أحد الجلساء بمجلس ألين وأوثر، أو وقاية بعض الزملاء من الحر أو المطر بمظلتك وهلم جرا. هذا وأمثاله من تافه الفعال وضئيلها هو ما يجب عليك أن تصنعه تعبيراً عن شعورك وإبرازاً لإحساسك وضناً بالعاطفة الشريفة أن تذهب سدى وتفني بخاراً ولا عار عليك في ضؤولة مثل هذه الفعال وتفاهتها إذ لم تستطع غيرها ولم تسنح لك الفرصة بما هو أجل منها وأعظم.
وكما أننا إذا تركنا إحساساتنا وعواطفنا تتبخر دون أن نطلقها من مكامنها على هيئة أعمال فاضلة فإنها تعتاد هذا التبخر ويصبح لها ديدناً ودأباً فكذلك إذا نحن أحجمنا عن بذل المجهود ضعفت فينا قوة بذل المجهود واضمحلت وماتت ومن ثم نسوق لك الحكمة الآتية قاعدة مطردة وركناً من أركان الأدب وهي: أحي في نفسك ملكة (بذل المجهود) وجدد نشاطها برياضة نفسك على ذلك بما تيسر من أعمال الخير والمروءة تأتيه على سبيل التمرين ليس إلا أو بعبارة أخرى ألزم نفسك خطة الزهد أو خطة البطولة في صغائر الأشياء غير الضرورية أعني اصنع كل يوم فعلة أو اثنتين وإن لم يكن ثمت باعث على ذلك سوى عدم ضرورتها يكن ذلك رياضة لنفسك على أعمال المروءة وتدريباً لها على مواقف الجلد والصبر والبطولة حتى إذا وقع المكروه وأزفت الآزفة وجدتك جلداً متيناً راسخ القدم رابط الجأش ثاقب العزم وثاب الهمة. فمثل هذه الرياضة والتمرين على الصبر والزهد والخشونة تعد بمثابة الضمانة التي يدفعها المرء لشركات التأمين على المال والحياة. فإن الضريبة المدفوعة لذلك قد لا تعود بالفائدة العاجلة وربما ينقضي العمر ولا تعود بعاجلة ولا آجلة. ولكنة إذا وقع البلاء وشبت النار فعلاً في دارك كان فيما دفعته من تلك الضريبة النجاة من النار والفرار من الدمار. وكذلك الرجل الذي ما برح يروض نفسه كل يوم على الجد والنشاط والهعمة والزهد والقشف في صغائر الأمور ودقائق الشؤون. فإنه إذا أزفت الآزفة وعصفت العاصفة وعاد كل شيء حوله يموج ويضطرب ويميد ويتزلزل رأيته تحت هذه المحن الطائرة والخطوب الثائرة كالبرج المشيد والطود الشامخ.
هنالك تتجلى عنه الغماء. وتنجاب الأواء والعزاء. وتنكشف الظلمة الطخياء. أثبت ما يكون وأرسى. وأصلب ما يكون وأقسى. بينما غيره منت الضغنة العجزة الرعاعيد يتبددون هباء. ويذهبون جفاء.
إلا أن جهنم التي يتوعد بها العصاة في الآخرة ليست شراء من جهنم التي نشعلها لأنفسنا في الحياة الدنيا بصوغ أخلاقنا وتصويرها على صورة كاذبة وصبها في قالب مشوه. فلو أن الصبي أدرك أن لن يكون في مستقبل عمره سوى مجموعة أو حزمة من العادات تسعى على قدم وساق إذن لزاد عنايته بسلوكه وسيرته وهو في دور التكوين إذ عوده رطب الملامس غض المكاسر يلين تحت الثقاف المقوم ويطاول أنامل الطابع المهذب. والواقع أن المرء خالق نفسه وواهب حظه وممهد سبيله ونهجه وحائك لنفسه ثوب العيشة مسعوداً أو منحوساً حوكاً باقياً على الدهر لا طاقة للمقادير بنقضه ولا حلة فما من حركة خير أو شر يأتيها إلا تاركة بجوهر نفسه أثراً لا يزول ما بقي فيه عرق ينبض. لقد جاء في قصة الروائي (جيفرسون) أن السكير (فانوينكيل) يعتذر لنفسه عن كل خطيئة يأتيها بقوله (هذه المرة لا تحسب). سبحان الله! ما هكذا تكون التوبة والأنابة. فهبك أيها المغرور أنك لا تحسب هذه المرة وهب الملك القدوس الغفور الرحيم قد وهبك زلتك وأقال عثرتك فلم يحسب أيضاً هذه المرة فهل ذلك بحائل دون حسابها وتسجيلها؟ كلا! فإن في خلايا أعصابك وأنسجتها ستحسبها عليك الذرات بالعمليات الكيمياوية وستعدها وتحصبها وتسجلها وتخزلها لتقوم ضدك وتتألب عليك متى عاودتك أسباب الغواية والإغراء ثانياً. فما من شيء تأتيه إلا تسجله عليك وتغرزه فيك يد لا ماجى الدهر لأثرها. فعليك من نفسك عين يقظة لا تنام ولا تغفل، ورقيب عتيد يحصي عليك ويسجل. على أن لهذا التسجيل ناحية نفع كما له ناحية ضرر فكما أن تكرار الدفع المتعددة من السكر يؤول بنا إلى رذيلة الإدمان فكذلك تكرار المبرات يرفعنا إلى منزلة الأتقياء الأبرار ومواصلة ساعات الدرس والكد والتمرين تسمو بنا إلى مرتبة المهرة الحذاق الراسخي القدم في العلوم والمعارف والفنون. فلا يشغلن الفتيان بالهم ولا يتعبن أنفسهم تفكيراً فيما عساهم بالغين من درجات العلم ومراتب الحذق والنبوغ في صناعاتهم وفنونهم أياًَ كانت فإن الشاب الذي ينفق كل ساعات دراسته في الكد والاجتهاد مليء بأن يثق بحسن النتيجة وبلوغ الغاية. فاعمل ما عليك ودع النتيجة وشأنها فستعمل أيضاً ما عليها إذ تنتبه يوماً ما من منامك فتجدك معدوداً ضمن الفحول والنوابغ والفطاحل مهما كانت صناعتك وحرفتك. واعلم أن ملكة التمييز والبصيرة والحنكة والخبرة لا تبرح تنمو فيك وتتكون وسط كل ما تعاني وتعالج من تفاصيل الصناعة وجزيئاتها وتافهاتها وحقائرها حتى تنضج لك هذه الملكة وتستتم وتصبح لك ملكاً ثابتاً (أبقى على الزمن الباقي من الزمن).
غموض الحق حين تذب عنه ... يقلل ناصر الخصم الحق
تجل عن الدقيق عقول قوم ... فتحكم للمجل عن المدق
إذا غمر المال البخيل وجدته ... يزيد به يبساً وأن ظن يرطب
وليس عجيباً ذاك منه فإنه ... إذا غمر الماء الحجارة تصلب
إذا طرف من حبلك انحل عقده ... تداعت وشيكاً بانتقاض مرائره فلا تغفلن أمراً وهي منه جانبه ... فيتبعه في الوهي لا شك سائره