الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/العلاقة بين الفرد والمجموع

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/العلاقة بين الفرد والمجموع

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 59
العلاقة بين الفرد والمجموع
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 12 - 1920


وأثرها في النهضات الاجتماعية

(التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموع - إلى أي حد يجب أن يرتبط الفرد بالمجموع - النظرية الصحيحة - استقلال الفرد الألماني - الفرد شعب وحده - الانكليزي في زمن الحرب - الأثرة غريزة والةاجب فضيلة - الفرق بين أمة بأفرادها وأمة بتعدادها)

يظهر أن مسألة التوفيق بين مصلحة الفرد وسعادة المجموع والعلاقات التي بينهما أصبحت من المسائل الدقيقة التي قلما يعثر الإنسان فيها على الوجع الصحيح ويظهر أن الرأي القائل بان الفرد يجب أن يكون للمجموع رأي فائل كنظيره القائل بأن على الفرد أن يعمل ولا شك في أن النتيجة سعادة المجموع، فالحقيقة أن استقلال عن المجموع أو المجموع عن الفرد يؤدي إلى تصادم كثير بينهما. إن اندماج الفرد اندماجاً كلياً في كتلة المجموع خطر عظيم كما ان استقلال الفرد إلى حد كبير خطر أيضاً عظيم. ينبغي أن يكون هناك قصد واعتدال. فإن الامة التي يندمج أفرادها في المجموع تصبح أمة مجموع لا وجود للأفراد فيها ولا أمارة عليها إلا تعدادها. وتصبح شخصية الفرد على حدة ضعيفة لا تثبت ولا تقاوم. والمجموع ليس مستعداً في كل لحظة أن يلبي استصراخ الفرد إزاء كل مأزق أو مشكلة يجب أن يكون الفرد قوياً في ذاته إلى الحد الذي يجود فيه على قوة المجموع كما أن المجموع يجب أن يكون قوياً في ذاته إلى الحد الذي لا يطفئ معه شخصية الفرد. ولعل أبلغ ما عرفنا من ذلك اجتهاد الألمان في أن يكون كل فرد في ذاته شعباً وحده فيهيئون له من تربيته وتعليمه وسائل تمده يقول في مستقبل أيامه (أنا الأمة). وكثيرون يعتقدون خطأ هذه النظرية ويظنونها منافية لارتباط الفرد بالمجموع، على أن التأمل القليل يثبت فساد هذا الظن. إن الأمة التي يعتبر أفرادها كل منهم نفسه أمة قائمة بذاتها لا شك في أنها الأمة السعيدة القوية، لأن كل فرد فيها يعد نفسه لحياة عاملة مجدة ويؤدي جميع واجباته الاجتماعية وهو يعتقد أنه الوحيد المكلف بأدائها والمتمتع بنتائجها. فلو أنه لم يبق غيره لظل كيان الأمة قائماً. هذا مع الاحتفاظ بأمة الفرد غيره أعني مع الاحتفاظ بالأمة كلها المكمونة من أمم أولئك الأفراد. وأخيراً تلتقي في مثل هذا الفرد الصفات من قوة وغنى وعزة نفس وشجاعة قلب وحب للبلاد وغيرة على الوطن.

ويظهر أثر ذلك المبدأ جلياً في أوقات الأزمات الحرجة التي يحتاج فيها المجموع إلى قرار سريع حاسم. فبينما ترى الأمة التي لا تمثل إلا مجموعاُ أشبه شيء بقطعان الغنم دهشة ذاهلة مترددة في أمرها يتربص كل فرد فيها عمل أخيه ويلقي عليه تبعة التقصير والتأخير، إذا بالأمة الاخرى قد اشتمل كل منهم درعه ولأمته ينادي (بيدي لا بيد عمرو). لقد خرج كل فرد انكليزي من بيته في الحرب الكبرى يبحث عن عمل له. فغني يدفع الاموال وقوي يجر المدفع وعامل يشتغل في المصنع وامرأة تخدم في المستشفى. وحق كل منهم أن يقول: لقد كسبت الحرب بساعدي!؟

من هذا كله يمكننا أن ندرك السر العظيم في متانة البناء الذي يقام على هذه القاعدة قاعدة استقلال الأفراد إلى الحد الذي لا يعبثون فيه بالحقوق العامة أو الصلات المدنية التي تربطها بالمجتمع نفسه ويقتضيها تمتعهم ببقائه.

إن الفرد الوطني الغيور إنسان على كل حال لا يمكنه أن يتنازل بالمرة عن استقلاله الشخصي أو يفطن دائماً إلى سبيل الحق والواجب. وعلى ذلك فإذا ما اعتقد أنه وحده الأمة فكأنه اعتبر مرافق الأمة ومصالحها مقومات لمرافقه الشخصية ومصالحه. ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا نجاحه وثباته وإخلاصه لاننا إذا قلنا أنه ذو غيرة على وطنه وشديد الحب والإعجاب بأمته فإنما نعني في الحقيقة من طرف آخر أنه شديد الحب والإعجاب بنفسه غيور على شخصه وما يتعلق بشخصه من المصالح والأعمال. وإن سعيه فس سبيل ترقية نفسه ونجاح أعماله ليكون أثبت وأقوى إذا ما اعتبر أنه يؤديه إلى نفسه بصفته أمة وحده لا بصفته يهدي إلى المجتمع مصلحة أو يضحي له بمنفعة. إن فكرة الإهداء إلى المجتمع فكرة خطرة تسوق إلى الاضمحلال، وإن العزاء الذي تسمعه من أفراد كثيرين بأنه يعمل هذا لنفع المجتمع دون نفعه لعزاء مخيف يجب أن لا يشكر عليه صاحبه، لأنه يكون عمل الكليل البليد الذي يلمح الفشل في طيات الافق البعيد. والذي لا يبالي أن يبادر إلى ترك العمل واثقاً أن حبوطه فيه لا يسوق عليه اللوم ما دامت كانت وجهته وجهة النفع العام.

ليكن كل فرد في امته شعباً بمفرده ولا أريد بهذا أن يحارب وحدات الشعوب الأخرى من بقية الأفراد. بل إن الشخص الذي يحارب بقية الأفراد في مثا هذه الامة أو يعبث بأواصرها المدنية يكون فشله وهلاكه محققاً سريعاً لأن كل فرد من الآخرين سوف يتاقدم دون انتظار نجدة من المجموع ليقوم بالواجب الذي يعتقد أنه موكل به من بقية الأمة بصفته شعباً بمفرده يدفع عن نفسه عوادي الزمن. وعلى النقيض من ذلك ترى حالاً غريبة في الأمة التي وصفناها بأنها أمة بتعدادها. فالذين قد يعملون فيها على تفيل مصالحهم على مصالح المجموع ليسوا قليلين. والغالب أن الذين قد يعملون بهؤلاء ليسوا كثيرين وإذ كانوا لا يعدون أنفسهم أمة مستقلة داخل أمة المجموع فإنهم سوف يحجمون عن أداء ذلك الواجب. وإذا بدرت منهم همة وحمية فلا يتجاوز ذلك أن يستصرخوا المجموع وينادوا فيه وينبهوه إلى وجود تلك الجراثيم منتظرين حتى يصحو المجموع كله ويتحد على مقاومتها ودرئها. وتلك طريقة إن نجحت أحياناً فإنها تحتاج إلى زمن طويل. والغالب أنها تموت في الطريق كما تموت أصوات السفينة الغرقى وهي تستنجد بالشاطئ.

(2)

(استقلال الأمة نتيجة كلية لاستقلال الفرد - مثال للأمة المستقلة المستعبدة - خلاق الفرد محور استقلال المجموع - استقلال المجتمع وسط طسابي - الاتحادج لاتحاد مصيره للزوال)

وعلى القاعدة السابقة ينبغي أن يشاد أيضاً الاستقلال القومي. ليكن كل فرد مستقلاً أولاً وعند ذلك يتكون المجموع المستقل. أما إذا كان المجموع مستقلاً وليست عند الأفراد روح الاستقلال ولانزعته فلا شك في أن مثل هذا الاستقلال لا يعتمد عليه كثيراً.

إن الفرد الانكليزي مثلاً يفخر بأنه مستقل أولاً بصفة كونه فرداً. ويشعر أن استقلال المجتمع نتيجة كلية لاستقلاله الجزئي. ويعلم أيضاً ان ذلك الجزء من الاستقلال الذي يقوم به إذا قصر فيه أو أهمله وةاتبعه في ذلك غيره فسوف يعدم في الحال استقلال المجموع.

وهذا غير الفكرةالتي لا يعتقد فيها الأفراد أن استقلالهم عنصر حيوي من عناصر استقلال المجموع. بل هم يعتبرون استقلال المجموع أمراً لا دخل له في استقلالهم الشخصي، وأن الواحد منهم غير مؤثر بشكل حاسم في أمر الاستقلال غاب عنهم أنه ربما وجد المجموع المستقل بينما الأفراد غير مستقلين. فصعف الخلاق والاتكال والاعتماد على الغير وخوفه والخضوع له. كل هذه قد تفقد الأفراد استقلالهم على حين يظهر للناظر أن المجموع مستقل - والخطر الأكبر أن نكتفي باستقلال المجموع مستخفين بمسألة استقلال الأفراد - بل بالله أية أمة تستطيع أن تتصورها مستقلة إذا كنت ترى كل فرد من أفرادها يرتعد أمام الأجنبي، وغذا كانت نفوس أهلها على وجه عام نفوساً ذليلة وأخلاقاً ضعيفة وهي في الواقع فانية في غيرها من الأمم أو مسوقة وراء أمة متعلقة بأذيالها. ليست المسألة مسألة التخوم والحدود ووجود الجيوش. بل غن هذا الايتعباد الخفي الظاهر في الأفراد المختفي في المجموع لأشد نكاية وأعظم وبالاً. إذ أن كل فرد يحمل على عاتقه نير العبودية ولا يستنطيع أن يشكو لأنه يعلم ويرى أن المجموع مستقل.

لا أعد الأمة التي تفني شخصيتها أو قوميتها في أمة أخرى أو في أمم متعددة أمة ذات استقلال وإن كانت من الوجهة الفعلية غير محكومة أو خاضعة لغيرها وهذه النظرية بسيطة وتظهر واضحة جلية في الأمة التي تنال استقلالها السياسي بتوفيق الظروف أو الحظوظ فإنك بينما تراها مستقلة سياسياً إذ تراها تظل سنوات عديدة خاضعة في الواقع لغيرها متأثرة بحكم أجنبي عنها. إلى أن يتعلم كل فرد من أفرادها معنى الاستقلال ويشربه روحه. عند ذلك ينقلب الاستقلال السياسي إلى استقلال حق صحيح لأنه ناشئ عن استقلال كل فرد. نحن لا نطلب الاستقلال السياسي فقط. ولكن نطلب الاستقلال الأخلاقي. نطلب التحرير من القيود والأثقال التي تحملها أعناقنا لا أرضنا. إن اليوم الذي تتحرر فيه النفوس هو اليوم الذي تتحرر فيه الأرض. وإن يوم شعور كل فرد بأنه مستقل وأخذه نفسه بهذا المبدأ لهو اليوم الذي تتحقق فيه حريتنا لأن الأمة التي يرفض كل فرد من أفرادها أي نوع من أنواع العبودية والخضوع لا تلبث أن تتحرر وتستقل.

إن مبدأ استقلال كل فرد استقلالاً ذاتياً يؤدي إلى شيء آخر. إذا كان كل فرد مستقلاً فإنه يرى من التمتع بذلك والاستفادة ما يحمله على صون ذلك الاستقلال. وإن تجمع هذه الوحدات على صون استقلالها هو صون لاستقلال المجتمع الذي هو عائد عليهم ومتمم لاسشتقلالهم على النقيض من الآخرين الذين إذا سألتهم لماذا تريدون استقلال المجموع؟ أجابوك لأنه مفيد للمجموعوأخذوا بيسطون ويشرحون ما تتمتع به الأمة المستقلة! ولكن هل يتمتع في الوقت نفسه الأفراد؟

ولنوضح ما تقدم نقول بعبارة أخرى أن الفرد المستقل يدافع عن استقلاله لأنه يعود إليه عن طريق المجموع لأنه يتمتع به بعد أن يكون قد حفظ استقلال المجموع. أي أن هناك ثلاث خطوات تبتدئ وتنتهي بنفسه ويتوسط بينها المجموعز على النقيض من الآخرين الذين يدافعون عن استقلال المجتمع ليتمتعوا بذلك الاستقلال أفراداً. أرى أن هناك خطوتين إحداهما المجموع. وهذا خطأ، ففي الحالة الأولى لا يتخذون من المجموع غرضاً ولا غاية. وفي الحالة الثانية يتخذونه كل الغرض والغاية. إن الذي يبدأ بالفاع عن استقلال المجموعليجني وهو فرد ثمرة ذلك الاستقلاليعكس القضية ويدبر عن الغاية لانه قد تمر السنون الطوال قبل أنيءشعر بذهاب استقلال المجموع الذي يكون قد مضى عليه دهر وهو ينحدر نحو الهاوية. فإذ أفاق كل فرد أخيراً وجد من الثيود المثقلة لكاهل المجموع ما يحمله على التراخي واليأس، وليس أصعب ولا أشق من أن تجمع الأفراد للمدافعة عن المجموع إذ قد لا يشعرون بالحطر في وقت واحد وإذا شعروا فمنهم الغبي والبليد.

أما إذا كانت المسألة مسألة الفرد المستقل فإنه إذا أشعر بأقل حركة للتعدي عليه أو إذا راى سلكاً شائكاً ينصب أمامه فسيقدم في الحال دون تريث لرفع ذلك الحائل من طريقه معتمداً على نفسه واستقلاله الشخصي، معتقداً أن رفع ذلك الحائل فرض واجب عليه إذا أراد أن يحفظ استقلاله. فهلا تلمح في طي هذا العمل الوسط الحسابي لاستقلال المجموع؟ إن كل فرد يرفع قطعة من السلك الذي يوضع أمام بيته هو في الحقيقة يهد حلقة من حلقات الاستعباد التي تريد أن تحدق بالمدينة. ولكنه يفعل ذلك من غير انتظار المجموع ومن غير أن يتسرب إليه أنه يفعلى ذلك كواجب للمجموع عليه بل واجب على نفسه لنفسه. إن القيد الذي يعتقد أنه رفعه عن نفسه قد رفعه في الواقع عن جاره أيضاً. وإلا فلو ترك السلك يحدق بالجميع لكان ضرره هو وجاره على السواء.

هذه هي خلاصة الفكرة التي أرى فيها المجموع يختفي إزاء فكرة الفرد إلى الحد الذي لا يجور فيه على قوة المجموع. لأنك مهما صفيت الخلق الإنسانهي ومهما رقيته وهذبته فلن تستطيع أن تنزع منه حب نفسه وتفضيلها وأثرته. كما أن الاتحاد مهما طال عليه الزمن في ظل التعليم والرقي مصيره إلى الانهيار والتدابر إذا كان قائماً على فكرة الاتحاد فقط. إنك لا يمكنك أن تحفظ أمة متحدة على مر الزمن بفكرة أن هذا الاتحاد يحفظ المجموع وينفع كيان الأمة. إن صروف الدهر تغير كل شيء. ولكن إذا اعتقد كل إنسان أن لاتحاد مطلوب منه لا ليحفظ به قومه وعشيرته وصحبه ولكن ليحفظه هو نفسه قبل كل شيء، فلا شك ان شعوره ذلك يجعله أكثر رعياً له وإبقاء عليه.

(3)

(الاتحاد المأزوم والاتحاد المركز - الثورة الفرنسية - هياجها وخمودها - اتحاد المجموع غير طبيعي ولا دائم - شبه استثناء لذلك - شواهد من الحركة المصريو - انتهاء الحركة ليس معناه انتهاء العمل - تطور العالم في مدة الحرب - نهضة أبناء الفراعنة جديرة بتاريخهم ومدنيتهم)

كثيراً مكا تصادف المجموع حوادث وظروف تضمهى إلى بعضه وتوحده توحيداً تبهرك قوته وثباته، ولكنه إذا اجتاز هذه الأزمة التي قام من أجلها أو تنحت من طرقه بأي شكل من الأشكال، فمن الصعب أن يستمر على هذا الاتحاد الوطيد والاتجاه إلىجهة واحدة، ولا يلبث أن ينحل إلى مجتمع هادئ عامل، ولا أريد بهذا أنه يكون مجتمعاً متفرقاً متدابراً، ولكنه يعود إلى حالته الطبيعية وتتغلب عليه فطرة الأفراد الإنسانية التي هبة واحدة لنصرة المجموع فإذا انقضت مهمتها فلا يجوز عقلاً أن تطلب منها أن تظل دائماً على حالتها من التيقظ والانضمام والوحدة، لأن ذلك يستدعي مجهودات خاصة تقوم بها حركة استثنائية متجهة بالجميع وجهة واحدة، وهي شغلهم الشاغل طول ليلهم ونهارهم وهي عماد تفكيرهم وأحاديثهم، ثم لا تلبث أن تخمد هذه الجذوة، ولا سيما إذا كان اتقاد هذا المجموع ناتجاً عن مصادمة طارئة أو أزمة مفاجئة أو حادثة مثيرة أو غير ذلك مما لم يسبقه التفكير والروية والبحث ولم يهمد له بالتدبر والتامل ومبادلة الآراء وتوطيد المبدأ وتأسيس الخطط وغير ذلك.

وكثيراُ ما شاهدنا أن قومة المجموع قومة واحدة إذا اتنهت فمن النادر أن تستفزه إلى مثلها ظروف أخرى - ولو كانت أشد وأفظع من التي قام لاجلها أول مرة. وهذه الثورة الفرنسية الكبرى مثلاً قامت نتيجة لهياج النفوس من سوء الحكومة والإدارة - قامت دفعة واحدة وهي تظن أنها ستقلب أنظمة العالم وتنال السعادة التي ترجوها. ثم سكنت فما كان منها؟ أعقبها حكم من أحكام الإرهاب والفأئع والمنكرات وحكومة لم تكن الحكومات السابقة بجانبها شيئاً في الاستبداد والظلم والقوة والغشوم. ومع ذلك لم يستطع هذا الشعب المتشبع بروح الثورة المنطلق من كل القيود النظامية أن يجتمع مرة أخرى وبثل عرش الإرهاب والظلم الجديد لولا أن تادركه رجل عظيم.

نضرب هذا المثل لنقول أن للمجموع قومة واحدة يهدم بها السد الذي يقوم في وجهه ثم ينثني إلى المعامل والمزارع، ويندر أن يعود إلى المصادمة والكفاح إلا في حالة واحدة سنشرحها بعد ذلك. وذلك لأن إنضمام المجموع واندفاعه نحو أمر ما هو بمثابة هياج فكري وثوران نفسي شامل، ولا يمكن أن تطلب من المجتمع أن يظل على حالة من التهيج وثورة الأعصاب وغليان الدم وحمية القلب والفكر واتجاه الروح والنفس لأن هذه الفترات في حياة الأمم هي بمثابة السهر في حياة الفرد ولن تستطيع أن تطلب من الأمة أن تظل ساهرة أرقة متهيجة الأعصاب إلى حد غير محدود. إن النفوس تتوق دائما آبداً إلى السلام والراحة والهدوء. وإن فترة ذلك الصحو أو السهر لا تستمر طويلا بل لا بد من العود إلى الحالة الطبيعية.

قلنا أن ثورة المجموع هيهات أن تتلوها ثورة أخرى مهما حاق بالمجموع بعد ذلك من ظروف أشد واستثنينا حالة واحدة، وحتى في هذه الحالة لا تشتعل الثورة كما كانت ولكن تنحل إلى ثورة سلمية وقد تكون غير عامة ولا شاملة لكل الطبقات وإنما يقوم بها أفراد عديدون من ذوي التأثير والنفوذ فلا يلبثون أن ينالوا ما تريده الأمة. هذه الحالة الواحدة تكون عندما يسبق الانقلاب الذي تحدثه الأمة المتمدينة زمن طويل من التفكير والتمهيد وإنعام النظر، حتى إذا ما قامت الحركة كانت منظمة متينة ثابتة وصارت الأمة إلى بغيتها أو الإصلاح الذي تنشده سيراً ثابتاً قد يكون بطيئاً ولكنه لا يقف ولا يرتد. تتقدم كالجبل الراسخ متكاتفة متعاونة متفاهمة مشتركة في العواطف والآمال غير مندفعة اندفاعاً أعمى أو مستسلمة لكل قائد. فمثل هذه الحركة القائمة على ذلك الأساس المتين لا تنعدم قوت المجموع منها إذا هدأ أمرها، بل إنه لمن السهل العثور على ذلك المجموع وإيجاد تلك القوة في أي وقت تقع حوادث أو تجد ظروف.

نخرج من هذا إلى شيئ آخر، ونلقي نظرة إلى أنفسنا. انتهت الثورة القومية وكان لا بدلها أن تنتهي. وقد شاهدنا جميعاً مع الفوز الذي أصبناه مناحي كثيرة من الضعف الأخلاقي في حياتنا الاجتماعية. وأمثلة عديدة على انحطاط النفوس وسوء الطباع.

لم يكن الانحطاط الأخلاقي الذي لاحظناهجديداً في حياتنا المصرية، ولكن ننتهز فرصة هذا الانتباه الشامل لكل الطبقات وفرصةهذا الصحو الذي عم جميع النفوس لنفهم الناس أن الحركة انتهت، وأن ليس المقصود هو الحركة ثم نعود فننام. إن ماعملناه ليس إلا تمهيداً بسيطاً للغرض الذي نسعى إليه. إن الغرض الأكبر ما يزال أمامنا. ولنفهم الشعب وطبقات العامة التي ظنت أنها انتهت من مهمتها وانصرفت إلى حالتها الطبيعية إنها لم تقم بعد بشيئ وإن المهمة الكبرى لم تأت بعد وإن على عاتقها واجباً هو أعظم من كل ما قامت به. نريد أن ننزع من الأفكار أن هذه الحركة كانت لنا غاية: كلا: لم تكن الحركة لنا غاية وإنما كانت وسيلة بسيطة. كانت أداة من أدوات العمل نحو الغاية الكبرى.

لا ننكر أن الأمة المصرية كانت متأخرة كل التأخر (ولو من باب المقارنة فقط) في جميع فروع العمل والمدنية. وكان التقدم الذي طرأ على أمم العالم وشعوبه في هذه الخمس سنوات والانقلاب الذي أحدثته الحرب في أفكار الجماعات عظيماً جداً. لقد استيقظتالأفكار وانتبهة الأذهان وابتدأت تتجه وجهات جديدة وتفكر أفكار جديدة ونحن غافلون. لقد تطورة العلوم وتغيرت نظريات الشعوب وأنتجت هذه الحرب حرباً فكرية هائلة كانت تدور رحاها ونحن غافلون وقد عم ذلك العالم كله وابتدأ كل من الفكر والعمل الإنساني يسير في طريق جديدة ونحن هنا في معزل عن كل أمر. حتى هبت هذه الحركة.

لا شك في أن هذه الحركة أعظم ما عرف في تاريخ مصر. وإنها فاتحة عهد جديد وأننا قطعنا شوطاً بعيداًَ واستيقظنا من جمودنا الذي خيم عيلنا هذه السنوات ووثبنا وثبة أدركنا بها كثيراً مما فاتنا. نعم استيقظت الأمة بعد أن كان من المستحيل لأمة حية أن تظل نائمة وضجة العالم وصلت إلى الأفلاك ولكن وثبنا نحو المستقبل وثبة جديرة بمجد ماضينا وتاريخنا وقطعنا شوطاً بعيداً نحو العالم المتقدم أمامنا وكذلك كانت هذه الحركة ضرورية لإثارة هذه اليقظة وكان الاستيقاظ الهادئ الرفيق فشلاً تاماً يغري بالنوم مرة أخرى، نعم كان من الضروري القيام بهذه الحركة لنثب هذه الوثبة وندرك بعض ما فاتنا.

(4) بالثورات - حاجتنا إلى التفكير - حاجة العامة المنارة >>.

لننظر نظرة إلى الكلام الذي مضى. لفد هب المجموع دفعة واحدة إلى غاية واحدة. هب على أثر نوم طويل فلم يكن بين أفرادخ سابقة ارتباط وتفاهم واتحاد ولم يكن هناك أساس من التفكير والبحث والنظر ولكننا انطلقنا جميعاً متكاتفين إلى غاية واحدة قمنا لها وأدركناها. وانتهت الحركة. وهنا الخطر الأكبر في أن نعود إلى الحالة التي كنا فيها بعودة الأحوال الطبيعية إلى مجاريها. لأنه لم يكن ثمة رابطة من التفكير أو مبدأ نجتمع حوله أو منارة نهتدي بها. هذه وإن لم نعد إلى ما كنا فيه فإننا نعود مجموعاً مفككاً يصعب ربطه وتوجيهه كما حصل ذلك أي إنه يصعب أن تجمع الأمة على السير في طريق واحد وتوحيدها وربطها كما تم لنا ذلك. لأن هذه اول تجربة لنا ولأنها كانت على إثر نوم عميق. نعم كانت الدفعة عظيمة لان الجمهور كان عظيماً ولكن الذي نخشى منه أن جذور هنا الجمود لم تصتأصل وإنها ربما تلتف شيئاً فشيئاً حولنا ثانية فتعود النفوس إلى الانحلال والتراخي.

لقد كنا كالجبار الذي نام نومة طويلة فلما افاق قام إلى الحائط فضربه بيديه فتهدمت فهو بعد ذلك بين حالين أما أن يعود إلى النوم لتسكين تلك الأعصاب التي تنبهة فجأة وقامت بذلك العمل الهائل. وأما أن يأخذ في تمرين ساقيه وذراعيه ورياضتها حتى يعود إلى سابق قوته ونشاطه. ونحن إذا اعتقدنا ان عملنا انتهى وأن بلغنا غايتنا وان الأمة استيقظت وأصبحت في خير حال فأننا لا بد سائرون إلى النوم والتخدير وأما إذا لم نعتقد أن هذه الحركة انتهت وإنها لم تكن إلا بثابة مقدمة لليقظة وإنه يتحتم علينا بعد ذلك أن نأخذ انفسنا بالرياضة والمران وأن ننظر إلى عيوبنا الاجتماعية لنصلحها وأن نعالج ما ظهر لنا من المساوئ الأخلاقية والنفسية وأن نتظافر ونجتمع ونعين لنا مبدأ نجري عليه ووجهة نسلكها وغاية يسعى كل إنسان منا اليها. نعم يتحتم علينا أن نتدارك أنفسنا ونجتمع لنتباحث ونفكر في أمرنا ولا نفرح باتحاد المجموع الذي أمامنا فإنه وقتي أن لم يأخذ كل إنسان نفسه بمبدأ يجري عليه وإن لم توحد العواطف والأفكار والأعمال. إن اتحاد المجموع غير دائم ولا ثابت ما لم يبن على أساس من تفكير الأفراد وإيمانهم.

وإذا نظرت إلى حقيقة حالنا وجدتنا نطلب كلنا طلباً واحداً، ولكن ذلك نتيجة تلك الحركة، وهذا الشعب الكبير يردد ألفاظاً ويتبع أفراداً. بل إن المتعلمين منا والزعماء لا يعملون عملاً ولا يفكرون تفكيراً. لا يكفي أن نقتنع بطلب وأن نجمع عليه وأن نبيت ليلنا ونهارنا نفكر فيه ونتحدث به. يجب أن نعمل جميعاً لتحقيقه. كل من الناحية التي يخدم بها نفسه ووطنه.

انتهت الثورة القومية فيجب أن تعقبها ثورة فكرية لتظل الروح واحدة والنفوس مرتبطة والحمية موجودة. لقد نلنا بالأولى انتباه الأمة واتحادها فيجب أن نقوم بالثانية لإصلاح عيوبنا الإجتماعية والأخلاقية. ولا أقول أن نبدأ بإصلاح المجتمع. كلا. ابدأ بإصلاح نفسك. انظر إلى العيوب التي تشملك واعمل على إبادتها. اتبع لك مبدأ لا تحيد عنه. فإنك إن فعلت ذلك فسوف تتطهر الأمة من عيوبها الإجتماعية وليست عيوب الأمة إلا عيوبك أنت. لا تناد بكثرة الإقتراحات والمشروعات. ابتدأ بإصلاح نفسك يتم كل مشروع وكل إصلاح. إعمل وحدك ولا تنتظرغيرك وبث هذه الفكرة لكل إنسان وأنشرها في كل مكان.

إن الأمة تريد أن ترتقي ورقي الأمة هو السبيل الحق المحتم لبلوغ كل شيئ والأمة لا ترتقي بالثورات لأن الثورات ليست أعمال كل ساعة ولأنها إنما تحدث في ساعات الإنتقال فقط. تحدث عندما تنتقل الأمة من طور إلى طور. وإنما رقي الأمة يكون بالتفكير. وقد قلنا أن أمتنا محتاجة الآن عقب حركتها إلى ثورة فكرية ولم نقل إلى مجرد تفكير. لأن الحقيقة المحزنة أن الأمة المصرية طالما فكرت كثيراً. وهناك شيئ آخر وهو أنه لا ينفعنا الآن في بركان هذه الحوادث والحركات غير الثورات الفكرية. نريد أن ننتهز الفرصة ونحدث انقلاباً في الأفكار نستطيع بعده أن نفكر التفكير الهادئ المطمئن دون أن نخشى التقهقر والفشل. نريد أن نحدث تطوراً في الأفكار نقيمه على أساسات وطيدة من الإخلاص والإيمان وو عرفان الواجب والتمسك بالمبدأ إلى النهاية وعند ذلك يجري التيار الفكري في مجراه الطبيعي. نريد أن نهز الأفكار هزة قوية تتجه على أثرها إلى غرض واحد كما توجهت بحركتها الإجتماعية إلى غرض واحد. نريد أن يكون بين أفكارنا وعواطفنا ذلك الاتحاد والتحمس اللذان رأيناهما في حركتنا. نريد أن تكون ثورة في الرأس والأذهان لا تصيبها طلقات البنادق ولا يضيرها وجود الجنود في الأقسام. هي حركة دائبة كالفوران الذي في قاع البحر. حركة عملية سلمية لا تنالها أقسى الأحكام العرفية.

نريد أن تتجه الأمة جميعها إلى وجهة واحدة واصلاح كل عيب يبدو لها ولا ضير عليها في أن يكون اصلاحه بطيئاً وتدريجياً ولكن الضير كل الضير أن ننتبه إليه ولا نشرع في اصلاحه. ولكن لابد للوصول إلى ذلك من تجمع الأمة كلمتها وتوحد مطالبها إلى الغاية التي يضعها كل فرد نصب عينيه. لأن الشعب يحتاج دائماً إلى منارة. فلنجتمع ولنبين للشعب هذه المنارة ولنقل له هذه هي فتوجه إليها ولا يمكن أن ننال ذلك بالتفكير العادي المألوف لأنه مرت بنا أوقات كثيرة وظروف عديدة التجأنا فيها إلى مثل هذا التفكير فلم نلبث إلا قليلاً إنما نريد التفكير الذي ينتج العمل.

فإذا ما تهيأت النفوس وأعدت جميع الأذهان وتشبعت كل العقول بمبادئ هذه الثورة الفكرية وكان الإيمان واحداً وعميقاً ومخلصاً في نفس كل فرد. في هذه الحالة يكون الإنتقال إلى أي مطلب من مطالب الحياة سهلاً ميسوراً ويكون بلا صدام واحتكاك كبير. نعم إذا نبت الإيمان التفكيري في نفوس الشعب فإنه يكون من السهل الإنتقال إلى أي تطور اجتماعي دون أي تضحية أو مقابلة قوة. بل لا يمكن لأعظم القوى في مثل هذه الحالة أن تعارض هذا التيار الفكري العام الذي يكتسح كل ما في طريقه.

إذن فالواجب علينا أن نحدد أعمالنا وأن نضع لنا غاية نسعى إليها وأن نربط جميع أفراد الأمة برباط من صلة تفكيرية تؤم بنا جميعاً إلى غاية واحدة وأن يقوم كل فرد منا بأعماله على مقتضى هذا المنهاج من التفكير المتبادل.