مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/سعد زغلول
→ البولشفية | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 59 سعد زغلول [[مؤلف:|]] |
الصورة المشؤومة ← |
بتاريخ: 31 - 12 - 1920 |
بطل مصر العظيم
سعد زغلول
لعل قراءنا لا يزالون على ذكر مما كتبه البيان باستفاضة أوائل سنة 1914 عن بطلنا العظيم، ورسول هذه الأمة القوي المتين الأمين - سعد زغلول - لمناسبة اختياره وكيلاً عن الأمة في الجمعية التشريعية - وكأنا بما كتبنا إذ ذاك كنا نتنبأ بما سيكون من سعد، ونقرأ بظهر الغيب تلك الآيات التي خبأها القدر مسطورة في صحيفة بطل مصر - وإن كل من عرف سعد قبل اليوم وخالطه كما خالطناه، وكان ثاقب البصر نافذ البصيرة نيرها، لا بد متنبئ نبوءتنا، قاض بأن سيكون لسعد هذا الشأن أو مثل هذا الشأن. وهكذا نبأنا التاريخ بأن عظماء الدنيا وأبطال العالم من أنبياء ومصلحي أديان وفاتحين ومحرري أوطان ومن إليهم قد عرفهم وتنبأ بما سيكون منهم - قبل أن يكون - كثير ممن رآهم.
واليوم - وقد تحققت نبوءتنا وأصبحنا نرى البطولة تغدو وتروح بين ظهرانينا ونري حتماً لزاماً علينا أن ننبه الغافلين إلى هذه البطولة الخالدة وإلى وجوب تقديسها وحبها واحترامها والاغتباط بها والتملي بجمالها وجلالها، إذ يعد جحودها أو عدم تقديرها سبة العصر ووصمة الجيل وعنوان الكفر والإلحاد وفساد القلوب وخبث الأرواح وموت الضمائر - نعيد الكرة ونأخذ في الكلام على البطولة وخصائصها ومزاياها وآثارها الصالحة في العالم، وإنها كلها الآن بحمد الله ماثلة بمصر، في شخص سعد. وإننا نفتتح الكلام في ذلك بكلمات لصاحب هذه المجلة حول بطولة سعد هي بنت الساعة وعفو الخاطر، خرجت من القلب عسى أن تقع في قلب من له قلب، ثم نردفها بمقالين وضعا خصيصاً للبيان في هذا الشأن، أحدهما تام في هذا العدد للكاتب علي أدهم والآخر طوال مسلسل ننشر بعضه على أن ننشر باقيه في الأعداد القادمة - للكاتب محمد السباعي.
(1)
كل خصائص البطولة من الرجولة الحقة القوية المتينة، ولا صراحة التامة الخالصة النقية، والإخلاص الحار العميق والإيمان القوي الراسخ والصدق، واليقين والثقة بالنفس والمضاء والجرأة والإقدام وقوة العارضة ونصوع الحجة، ووضوح المحجة. كل أولئك موفور في بطل مصر العظيم سعد زغلول باشا، فهو بلا شك بطل من أبطال الدنيا وعظماء العالم الذين ترسلهم السماء إلى هذه الأرض في الوقت المناسب. ومن الحين إلى الحين رحمة للعالمين.
لا يعرف البطل ولا يقدره حق قدره ولا يحبه ويحترمه ويؤمن به ويشد أزره ويهتدي بهديه وينقاد إليه إلا كل من كان فيه عنصر البطولة،. فكل من يفطن إلى بطولة سعد فيقدسه ويؤمن به إيماناً تاماً مطلقاً لا شوب فيه ولا حد له، فذلك لأنه هو الآخر رجل بطل صادق مخلص طيب العنصر كريم المنبت كبير القلب عظيم الروح إلهي النزعة وقد ما قيل (إنما يعرف الفضل من الناس ذووه) وكل من لا يؤمن بسعد كبطل من إبطال الدنيا فلا يستشعر حبه واحترامه وتقديسه والتفاني فيه والاستماتة في ذلك إلى حد التهوس والجنون فهو إما رجل جبان مروع منخوب القلب، أو رجل حقود حسود رانا على قلبه القوة الغضبية، وهوت بها إلى ما هو دون مستوى الإنسانية العالية، أو رجل خاوي النفس فاتر الروح بليد القلب، أو رجل ماكر خبيث ملحد ناضب معينت الإيمان فلا قلب ولا صدق ولا إخلاص، وبالتالي لا خير فيه لنفسه ولا لأهله ولا لدينه ولا لوطنه.
من أكبر خصائص البطل أن يكون أشياعه ومريدوه من ذويي الأرواح الطاهرة النقية البريئة أو القلوب الحارة المتأججة المضطرمة، ومن ثم نرى أول من يؤمن به وببطولته هم أولئك الذين لم تلوث فطرهم، ولم تدنس من اللؤم أعراضهم، من الشباب والنساء والأطفال والعامة والمصطفين الأخيار من الخاصة. وترى أشد الناس عداوة له ومناوأة، أو المتثاقلين في أمر الإيمان به، هم أولئك الذين يعبر عنهم في هذا العصر الغريب بأرباب المصالح أو المعتدلين أو المفكرين، لأن هؤلاء لأنهم ماديون أرباب غايات دنيوية عاجلة، أو لأنهم فاتروا الأرواح خائروا النفوس ومتبلدوا القلوب، أو لأنهم لؤماء ماكرون، يظنون أن البطولة تقف عثرة في سبيل غاياتهم، أو هي حجة قائمة على بلادتهم وفتور أرواحهم، أو هي إعلان عن ضآلتهم وحقارة نفوسهم.
ليس انفضاض الناس من حول البطل مما يعيبه أو يتنقصه أو يصح اتخاذه سبيلاً لغمره أو غمط بطولته - وفي الحق، أن ذلك من أحمق الحمق، لأن انفضاض الناس من حول البطل إنما هو على العكس آية على انحطاط الجيل، إذ تنوء البطولة بأهله ولا يطيقون لها احتمالاً فيدركهم الإعياء والكلال ولا يستطيعون مضياً في سبيل البطولة فيتراجعون متخاذلين. وهذ1انابليون العظيم أنبأنا التاريخ أن أشياعه ومريديه لما دب إليهم الضعف والوهن صاحوا قائلين ما معناه (كفى نابليون - لقد شبعنا نابليونية).
ليس منت مستلزمات البطولة أن يحالفها النجاح فيما تنهض به وترمي إليه من الغايات والمقاصد. وكل ما على البطل أن يسعى إلى الخير جهده وليس عليه كما يقولون أن يساعده الدهر، وهل أزرى ببطولة نابليون أن انهزمت جيوشه في واقعة واترلو؟ ألم يبق نابليون بعد ذلك هو نابليون؟
يعيب البطال في نظر الحمقى أن يغيروا ويبدلوا في أنظارهم، وأن ينقضوا اليوم ما أقروا بالأمس، وأن لا يستقروا على حال من القلق، بينما هم يبررون أفاعيل الساسة وتلونهم بكل لون ولبوسهم لكل حال لبوسها بأنها السياسة. وأن السياسة تكذب وأمثال ذلك - أو ليس الأنبياء المرسلون أنفسهم كانوا يعمدون الحين بعد الحين إلى نسخ ما اشترعوا من الأحكام، واستبدال بعض ببعض مراعاة للظروف وتبدل الأحوال كانوا يعمدون إلى ذلك ويعمدون إليه كثيراً وما عليهم به إلا السفهاء من الناس.
من المعروف لدى كل من تتبع حركة الإصلاحات الفكرية أو الانقلابات الاجتماعية أن رجال الدين دائماً أعداء لهذه الحركات وأعداء لزعمائها والقائمين بها. لأن رجال الدين في الأعم الأغلب جامدون يأبون إلا بقاء القديم على قدمه. فهم يخشون أن يكون من وراء هذه الحركات قضاء على نفوذهم الديني وما يجر إليه هذا النفوذ من المصالح والنافع وإذا كنا نرى من بينهم من يخرج على هذه القاعدة فإنما يكون ذلك لأسباب راجحة غلابة، كأن تكون هناك روح حارة وثابة، أو مصلحة آجلة، ترجح بالمصلحة العاجلة، أو تشبع بالروح الدينية البريئة الصحيحة، أو المبادئ القويمة السامية الصريحة.
جرت سنة الله في خلقه أن الناس لا يرون العظماء والأبطال بالغين الحقيقة فيقدرونهم حق قدرهم ويقدسونهم التقديس الواجب ويتعلقون بهم التعلق التام إلا إذا حيل بينهم وبين الأبطال بأي حائل كان: وتكرم أوصال الفتى بعد موته، وعلى ذلك فكلما كانوا لاصقين بهم قريبين منهم رأوهم أقل مما هم عليه، وفترت قوة الإيمان بهم وضعف إجلالهم في نفوسهم، والأبطال في ذلك كالشمس لا تستطيع العين المجردة أن تجتليها اجتلاء صحيحاً تاماً أتم ما تكون ساطعة مشعة متلألئة، أما إذا كان هناك حائل كثيف من غيم أو منظار أمكن العين إذ ذاك أن ترى الشمس أدنى ما تكون إلى سنخ نفسها، ورحم الله من قال:
والنجم تستصغر الأبصار صورته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
كنت كلما سمعت أو قرأت لأحدهم أمثال هذه الكلمات. نحن إنما نجل سعد لأنه رمز أمانينا - لسنا عباد أشخاص وهلم جرا - يعروني لذلك امتعاض أليم، لأني لا أدري لماذا لا نجل سعد لذات سعد؟ وأي ضير علينا في ذلك؟ بل على العكس كل الضرر والسوء في عدم تقديس الأبطال لتلك البطولة التي هي ضرب من النبوة، والتي اختص الله بها هؤلاء الأبطال. ولكنها روح الإلحاد السائدة في هذا الجيل الكافر، والروح الارستقراطية المنكوسة الآخذة بنفوس الشرقيين، والتي هي سر ما نرى من معاني التخاذل والخلاف والشقاق - أقول أنه كان يعروني لذلك امتعاض شديد لم أجد له متنفساً إلا عندما قرأت كلمة الأستاذ وليم مكرم عبيد التي ألقاها في حفلة الموظفين التي أقاموها لإكرام بطلنا العظيم وقال فيها ما معناه على ما أذكر: إنا إنما نكرم سعد لا لأنه رمز أمانينا القومية كما يقولون بل لتلك الشخصية البارزة المتفوقة التي خص بها سعد: عندما قرأت هذه الكلمة ونظيراتها من بعدها سرّى عني وروّح، وأكبرت هذا الفاضل كل الإكبار، وقلت هكذا فلتحلل البطولة، وهكذا فليجل البطل البطل ولا جرم إن كان وليم مكرم عبيد نابغة من نوابغ مصر وبطلاً من أبطالها وذا عقل كبير وقلب أكبر ومثلاً أعلى يؤتى به، وجديراً أن يجعل حبه واحترامه لذلك شعاراً لنا ودثاراً. . تحيا مصر - ويحيا بطلنا العظيم - ويحيا كل من يحبه ويجله ويقدسه. . .
(2)
التاريخ هو هو قصيدة الحياة الطويلة المطربة المشجية، وإلياذتها الحماسية المسلية وسفر أناشيدها المؤثرات، وتراتيلها المبكيات، وهو الرواية التمثيلية الكبيرة التي افتن في خلق أشخاصها فن السماء المبدع الفائق الذي يرسل لنا من وقت لآخر شخصيات من صنع الحقيقة أوفر بطولة وأعمق حكمة من كل مبتكرات الخيال وتلفيقات الأوهام ترتسم، في طبائعهم القوية الصافية ظلال تلك القوة الرهوبة الجانب المسيطرة على الكون - ويحيى هؤلاء الأبطال لتمثيل أدوار متعاقبة مختلفة الصورة متحدة المغزى فوق مسرح الحياة الكبير المخيف ذلك المسرح المشيد من الزمان والمكان والممتد بين الأزل العتيق والأبد السحيق، والذي تنيره مصابيح النجوم السرمدية وتشرق من سقوفه أضواء الشمس الخالدة.
وأجل ما في التاريخ نهضاته فإن كل نهضة مهما كانت الفكرة التي قامت عليها ومهما كان نصيبها من الحق والجمال جديرة بالنظر وأعمال الروية لما يظهر فيها من نفائس النفس وكنوز الروح، فإن من شأن النهضات أنها ترفع الأستار عن حياة الشعب الداخلية فتظهر خصائصه ومزاياه في شكل أخاذ ورونق خلاب.
وإذا كان من أجل ما في التاريخ نهضاته وكانت كل نهضة أدبية كانت أو سياسية أو دينية تنما. برجل كبير يسمها بميسمه ويكون منها بمثابة محور الدوران فإنه يصح لنا أن نستخلص من ذلك أن العظماء هم عصارة التاريخ ولبابه وسره وجوهره، ومن يقلب الصحف المطوية في بطون التواريخ لا يمكنه مهما كان منكراً لعقيدة البطولة هادماً لمذهب الشخصيات التاريخية أن ينكر ما لهؤلاء الأفذاذ النوادر من خطارة الشأن في إقامة موازين الحضارات وتأثيل مجد الشعوب، وهم أشبه بالآلات الرافعة توجدهم الطبيعة عندما يسئمها سير التطور التدريجي لأحداث الطفرة فلا عجب إن هي حبتهم بتلك القوة العادية اللازمة لتلك الفعلة الكبيرة - وليس العامل الفرد في خلق أمثال هؤلاء الأفراد الظروف والوسط فإن رجالاً مثلهم لا ترفعهم الظروف وإنما هم الذين يرفعونها ولا يخلع عليهم الزمن أبراد المجد وإنما بهم تكتسي الأزمان جمالاً قشيباً وجلالاً مهيباً والوسط هو الذي يستمد من صادق وحيهم ويستنير يثواقب آرائهم ويستند على مواضي عزماتهم ويستقي من ينابيع قواتهم الروحية والأخلاقية، ومن الغبن والتوهين من أمر تلك الشخصيات الكبيرة أن نعتقد أنها من صنع الظروف وأنها جاءت محمولة على تيار النهضة.
وإنما سبب بطولة البطل ترتد إلى أسباب وراثية بعيدة الأعراق من فوق منال المفكر الاجتماعي لأن بارقات أفكاره لا تنير في غياهبها المتكاثفة ونافذات نظراته لا تتغلغل إلى أغوارها المتقاصية والبطل يحمل في دمه جرثومة عظمته وبين جوانحه سر بطولته وإنما فضيلة الظروف هي في أنها تجلو الحياة الداخلية وتهيئ له الفرص وتعد له المعدات وتفسح له المجالات والعظيم أشبه بالزهرة تستتم نموها وتتفتح كمائمها ويتفاوح أرجها إذا هي أصابت جواً صالحاً تتغذى منه عناصرها الكريمة.
من أولئك الرجال الذين تزخر في عروقهم دماء البطولة والذين يرسلهم القدر مزودين بالقوة الخفية، ومن تلك الشخصيات الغلابة الجاذبة التي تطالبك في كل وقت أن تفكر فيها وتقتادك نحوها - سعد زغلول بطل مصر في نهضتها الأخيرة والذي في وجوده بيننا معنى سام يملأ نفوسنا ثقة ويقيناً فإن الأرض التي تنبت الدوحة الباسقة - الوطن الذي ينجب مثل سعد جدير أن يحمل ثراه أدواحاً فارعات نظائر سعد - وظهور بطل كسعد يدل على سلامة عضوية الأمة وقوتها صلبها لأن الأمم الواهنة الدارجة إلى الاضمحلال يندر فيها ظهور العظماء والقوة المكتنة في سعد دليل قوة الأمة وعنوان حيويتها وهذا مما يغمر نفوسنا بنور الأمل الوضاء، إن الرجل الكبير لا يبتكر أفكار عصره ولا يبتدع مبادئه ولا يخلق أمانيه ومنازعه، لأنها كلها مجموعة عضوية مكونة لذهنية الشعب، وهي أكبر وأكثر تعقيداً من أن يوجدها فرد ولكن العظيم ينفخ فيها كلها روحاً من أنفاسه فتتحول الفكرة إلى إحساس دافق والمبدأ إلى عاطفة مستفيضة ويجعل للأمل المتردد الحائر والنزوع القلق الثائر وجهة يتخيلها وتنصب إليها متزاخر تياراتهما وهذا يزيدهما قوة وتدفقاً. وإنه من جانب سعد هبت تلك النسمة المتأرجة التي أحيت القلوب وشدت العزائم، وفي معبد فؤاده الكبير كانت تجول الأفكار البركانية الحارة حتى أصابت من الظروف مخرجاً. وسعد هو ذلك الكاهن الإلهي الذي أوقد النار المقدسة بين أضالعنا وهو الذي جدد أمامنا نواظرنا صوراً شتى من أفاعيل الأبطال، وهو الذي نقل الشعب من التفكير في سفاسف الأمور ومحاقرها إلى التفكير في الغايات العامة الكبيرة ومطالب الحياة السامية النبيلة والعظيم هو الناطق عن الذات العامة لشعبه والناشر لمطوى خوالجه، فآلاف النفوس الصامتة تجد من سعد أصدق معبر عن أمانيها ومطالبها وأفصح ناطق عن آلامها وشكواها وآلاف من الأبطال الراقدين في ظلمة الدهر يتاح لهم منه مجدد لبطولتهم باعث لمجدهم الملحود، وليس العظيم هو أكبر الناس عقلاً فحسب بل هو أسماهم مقصداً وأشرفهم غاية وأقدرهم على التحليق في الأجواء العالية. والعقل أشبه بالضوء ليست له غاية أخلاقية ولكن الإخلاص هو الذي يجعل للعقل الكبير قيمة ولذا فإن عظمة سعد قائمة على صخر مرضم لا تؤثر فيه معاول الهادمين لأن أساسها العقل الكبير والإخلاص العميق، وما دامت نوادر صفاته باقية لا يعتريها التبديل فعبثاً يحاول الأفاكون النيل منها، وليس يكربنا إن غابت وجوه عظمته عن الأغمار الأغبياء من كل خاو النفس فاتر الروح ولئن كانوا يقومون عليه صلابته ويجيلون الألسنة في تشدده ومتانته فإن هذا لمما يزيدنا يقيناً ببطولته، فما كانت الصلابة يوماً مما لا يوصف به زعماء الأحزاب العظماء، ولئن كان قد انفض من حوله كل موصوم الوطنية متهم المأرب فإن هذا مما يزيد عرش ملكه استقراراً في القلوب ويجمع حوله العناصر القوية المخلصة خالية من الأخلاط والشوائب، ولئن تخونه الأتباع ونال منهم الكلالة والإعيار ورأوا أن الطريق طويل والغاية بعيدة فإنه سيمضي وحده، فهو من نفسه الكبيرة في جيش لهام وجمع ضخم، ومن تأبيه وعزته في معقل أشب متعاسر، وقديماً كان البطل أشد الناس إقداماً على المكروه واقتحاماً للمخاطر بل هو الذي يتقدم وحيداً إلى الهاوية التي تكمن فيها أهول المخاوف لإنقاذ وطنه.
إن تلك الوفود التي تتسايل من حواضر القطر ومدنه وقراه وكفوره هي دليل حياة مشرقة ستنجلي عنها أحلك الحوادث ولا يصغر من شأنها إلا من كان يود لبلاده الخراب والاستعباد الأبدي، ويوجد فارق كبير بين الإيحاء الطبيعي للبطل إلى أذهان الشعب الذي تنطبع على قلوب أفراده صور منازع البطل وأمانيه فيلقي إليه المقادة طائعاً مختاراً مقراً بنبله وفضله، وبين إرغام الشعب على قبول فكرة خاصة - ذلك الإرغام الذي يجيء من جانب الحكومات، ولئن كان الأول من أجمل مظاهر تقديس الشعوب لرجالها العاملين المخلصين فإن المظهر الثاني مما يبعث على الحزن والقلق لأنه يشل قوة الشعب ذلك الشلل الذي يسمونه تداهياً بالنظام ويسبب الجمود الذي يخلع عليه اسم الحكمة ويدعو إلى التفريط في الحقوق المقدسة الذي يعرف بالاعتدال وهو ينضب موارد التفكير الحر ويطعن الأمة في صميم رجولتها وأنفتها وإن وراء عواطف الجماهير السريعة التأثر والانفعال عقلاً أعمق من عقل ذوي الفتور والنظرة المقرورة، ومن يتعمق في تفهم نفسية الجماهير يمكنه أن يصل إلى المعنى الجدي الكامن وراء لجاجهم وانفعالاتهم، ومن الخطأ أن نقيس حركات التاريخ بمقياس العقل المدرك ونهمل جانب الخوالج والخياليات وتأثيرها في أرواح الجماهير، وأسمى مزية لرجال التاريخ هي استجاشتهم للعزائم وإثارتهم لرواقد الإحساسات ولذا كان تأثر روسو أوسع مدى وأرمى أطرافاً من تأثير فولتير وإن في قولهم أن صوت الجماهير من صوت الله لمعنى مستدقاً أعمق من أن يدركه الزارون بالجماهير والدين يجهلون أن مشاعر الجماهير الصافية البريئة من الغايات أسمى من كل منطق خسيس مسف، وما دام لا يمكن لكل إنسان أن يكون ذا رأي خاص ومذهب مبتكر وعقيدة مختلقة، ومادام هناك رجل كبير العقل مخلص جاد وآخر كاذب مستخف فإن المساواة مفقودة، وليس هناك من عار في أن يقودنا أكبرنا روحاً وأخلصنا سعياً، وإذا أصبح لكل إنسان من نفسه دليل وقائد فإن هذا مما يرخي أواصر أي مجتمع مهما كانت قوية متماسكة ويسوقه إلى أشنع حالات الفوضى. وأليست الحياة معركة أبدية كبيرة ونحن كلنا جنود نحارب بقولب ملؤها الحزن أو بقلوب مفعمة بالبشر وإن كنا نجهل الغاية البعيدة لهذا التقاتل والتلاحم، فلماذا لا نسلم قيادتنا إلى أكفأ قوادنا وأوفرهم إخلاصاً ونسير تحت لوائه الخفاق؟
قال شاعر خالد (إننا نحيا بالحب والإعجاب والاحترام) وأمامنا الآن عظمة خالية من الشوائب ستتبدد السحب المحتشدة في جونا المتردي بالغيوم فتظهر في نصوعها وجلائها. فلنثبت للعالم أننا خلقاء بالحياة الجليلة بحبنا وإعجابنا واحترامنا لتلك العظمة. عظمة سعد زغلول.
(3)
مما يؤثر عن الذين لاقوا كبار المصلحين وأرباب المذاهب الجديدة وزعماء الثورات الفكرية والانقلابات الاجتماعية أمثال نابليون بونابرت وميرابو والسيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وأمثالهم من الزعماء والقادة أن المنصتين إلى أحد هؤلاء العظماء كانوا يحسون أن وراء ألفاظه معنى خفياً هو أروع وأجمل من أعظم ما ينطق به من الصواب والحكمة، وخلف إشاراته وكلماته قوة كامنة وسراً عجيباً لا يعرف كنهه وماهيته ولكنه يحس أثره ومفعوله، فهو في ذلك ضرب من الكهرباء والمغناطيسية وكذلك لما ألف النابغة كارليل (تاريخ الثورة الفرنسية) الذي شهد العالم أنه أدق وأبرع ما أخرج للناس في وصف ذلك العهد فتناول سيرة (ميرابو) فصورها للناس صورة حية تتفزز تكاد تلمس باليد وتوشك أن تثب من الصحيفة فتمشي على وجه الأرض إنساناً حياً ناطقاً - صاح النقاد صيحة واحدة (أين هذا من ميرابو الحقيق!) لقد عجز كارليل - وما هو إلا بشر - عن تصوير ذلك المعنى الخفي - ذلك السر العجيب - تلك الفكرة الكامنة - تلك المغناطيسية والكهرباء - التي يصح لنا الآن أن نسميها (الشخصية).
هذه الشخصية التي هي قوة مستكنة كامنة تؤثر في قلوب من حولها تأثيراً مباشراً بلا واسطة بمجرد وجودها - هذه القوة المتعذرة الوصف والتكييف والتي يمكن تقريبها إلى الإفهام بأنها أشبه شيء بروح أو طيف يكمن في فؤاد البطل يوحي إليه ويلهمه ويحثه ويدفعه ويجعله غنياً بنفسه عن المؤازر والمعاون ويتركه وكأنه قبيلة في فرد وأمة في شخص - هذه القوة الهائلة والنار المقدسة التي نزلت من السماء على أفئدة أعاظم الأبطال ممن ذكرنا آنفاً فرفعتهم بقوة لهيبها إلى مقام القديسين والملائكة - هي أيضاً مما أراد الله أن يمتاز به زعيم الأمة المصرية وبطل النهضة العصرية سعد زغلول.
إن صاحب مثل هذه الشخصية ينال انتصاراته بغريزة تفوقه وسبقه وبفضل تغلبه وسيطرته وليس بحد الحسام ولا بقذائف المدفع بل السر في في انتصاره هو أن مجرد ظهوره على مسرح الدنيا يبدل صورة الأحوال ويقلب نظام الأمور والمسائل. لقد جاء في أساطير اليونان أنه لما سئلت (ايولي) كيف عرفت يا ايولي أن هرقلاً اله أجابت (لأني عندما وقع عليه بصري انشرح صدري واطمأن قلبي. وهذا ما لم أحسه حينما أبصرت (ثيسيوس) ولذلك طلبت أن أراه يصارع الأبطال في حومة الوغى أو على الأقل يركض أفراسه في المضمار، أما هرقل فلم ينتظر فرصة الصراع والجلاد ليثبت تفوقه وغلبته كلا. ولكنه نال الظفر والنصر سواء أكان واقفاً أم سائراً أم قاعداً أم على أية حال غير ذلك).
هذه الشخصية هي قوة طبيعية كالحرارة والضوء. فإذا هي عملت فإنما الطبيعة بأكملها معها تعمل وتشترك وإياها، تساعد وتساند. وإذا كان الرجل الاعتيادي الضعيف يكون دائماً مفكك الصلة بالعالم الذي يعيش فيه فإن البطل القوي صاحب هذه الشخصية يرى كأنه يحيا بنفس الروح التي تحيا بها الكائنات وينبض فؤاده على نبضات قلب العالم وكأنك تبصر فيه أحد القوانين والنواميس التي تضبط مسرى النجوم والأفلاك وحركة المد والجزر. ولست أرى في مسألة تأثيرنا وخضوعنا لشخصية هذا الإنسان دون غيره إلا أمراً بسيطاً جداً لا يختلف عن نظرية الجاذبية التي تشمل العوالم والأكوان جميعاً - أعني انجذاب الأصغر إلى الأكبر. بيد أن مقياس الصغر والكبر والضؤولة والعظمة في الإنسان هو مقدار ما فيه من عنصر الصدق والحق. فالرجل الطاهر النقي المفعم بروح الحق والنزاهة والإخلاص والإيمان يتسلط على من هم أحط منه وأدنى فيخضع أرواحهم بما هو أشبه بالتنويم المغناطيسي إذ تخشع أمامه هذه الأرواح وتطأطئ وتفقد قوة الدفاع إلا ما كان منها ينطوي على قسط من العظمة غير زهيد فهذا ينهض بجاذبية الشخصية العظيمة نحوها ويسمو إليها. وهذا هو ناموس الطبيعة العام فإن الأرواح العليا إذا عجزت عن أن ترفع إلى مقامها الأرواح السفلى شلت حركتها وخدرتها وأخمدت قواها كما يصنع الإنسان بالحيوانات السفلى. وكم رأينا من شخصية عظيمة كان لنا في قوة نفوذها وسلطانها مصداق ما لم نزل نسمع من حكايات السحر والسحرة. ولا غرو فإنك لا تبصر صاحب الشخصية الكبيرة كأنما يتدفق من عينيه تلقاء من حوله تيار نفوذ وسلطان - سيل من الضياء الثاقب يسري إلى الجماعة فيفشي فيهم مبادئه وأفكاره ويصبغ جميع الأحوال والحوادث بصبغة روحه وذهنه. ولما سئل مرة أحد الساسة (بأية حيلة استطعت أن تستميل خصمك وتحمله على ما قد أردت؟) أجاب (لم أستعمل حيلة سوى تأثير الذهن الأقوى على الأضعف) أوليس في طاقة يوليوس قيصر مكبلاً بالأغلال والسلاسل أن يتملص منها فينقلها إلى السجان؟
إن البطل ينفث روحه في كل من حوله وكل ما هو واقع في متناوله من الحوادث والأحوال هو كالمطر الغزير يحيي موات الأرض وكالعين النرة تترك الصحراء بستاناً. وإن روحه المتدفقة الفياضة تنفسح حتى تشمل أوطانه من أقصاها إلى أقصاها وتحدق بها إحداق السوار بالمعصم فتصبح هذه الأوطان له كأساس تقوم عليه شخصيته الهائلة وكميدان تجول فيه فيالق عزيمته وكتائب نفوذه وهمته.
هذا البطل إذا صادف ظهوره أوقات التطورات الاجتماعية والانقلابات السياسية كان له الأثر الأقوى في تعجيلها والإسراع بها إلى النضج والتكون فظهوره في هذا الوقت الحرج هو كتوافر الدفء المنعش والجو الموافق الملائم واصطلاح هذا وذاك على إنضاج الغرس وإزكائه وإيصاله إلى أقصى غاية الإنتاج والإثمار - فهذا الجو الملائم هو الواسطة الوحيدة لتحقيق هذا الغرض، ولن يقوم مقامه ولن يؤدي وظيفته كل ما يخترع الزارعون من وسائل الإنتاج الصناعية.
لقد جاء بطل النهضة الحالية - سعد زغلول - في عهد تطور وانقلاب ما زالت الأسباب الطبيعية والعوامل الكونية ترشح له وتهيئ وتمهد حتى بلغ الدرجة التي كان عليها ساعة ظهر ذلك البطل العظيم وبرز من مكمنه إلى ميدان العمل ولم يك بعد قبل بلغ تمام اختماره ونضجه. فلما برز ذلك البطل بجلال شخصيته الكبرى وروح بطولته العظمى أرسل شعاعاً من نوره المقدس على تلك القوى البطيئة المتلكئة فإذا هي احتدمت وتوقدت - وسلط على تلك العناصر المصطدمة المتنافرة شعبة من روح ذلك النظام والوحدة الذي يملأ كيانه فإذا هي قد تآلفت وانتظمت وعادت قوة هائلة عظيمة جديرة أن تنفض عن أعطافها غبار الكسل والتبلد وتقوم في الحق قومتها وتثور في وجه البغي والعدوان والعتو والطغيان. فلا غرو إن قلنا أن سعد زغلول هو - على هذا الاعتبار - صاحب هذه الحركة ومؤسس هذه النهضة بما أنه هو القادح لهيبها من زناد الحوادث والمستثير ثروة تبرها من مناجم المقادير والمرسل جنينها من بطون الليالي ولولاه ما قامت النهضة حين قامت، وهب أن لديك أكواماً مكدسة من الحطب فهل تراها تشتعل من تلقاء ذاتها؟ كلا ولو بقيت مليون عام. فأما إذا أرسل الله عليها شرارة من ملكوته في صورة بطل عظيم كسعد فغنها لا محالة مشتعلة فمتأججة حتى يستطير لهبها ويستفيض سناها ويسمو إلى عنان السماء شعاعها ويطبق على الأرجاء نورها. فالرجل العظيم شهاب يسقط من السماء. والناس في انتظاره كالحطب في انتظار الشعلة فما هو إلا أن يسقط عليهم من السماء حتى يلتهبوا ويضطرموا.
إن العظيم شهاب يستضاء به ... وصارم من سيوف الله مسلول
وكذلك الصدق والإخلاص والإيمان هو أكبر قوة في العالم وهو مبعث الحياة ومنبع الرفعة وما زال للأمة رقي في درج الفضل وتعاريج إلى ذرى المجد ما دام مذهبها اليقين ومبدؤها الإيمان.
الرجل العظيم ضروري لنهضة الأمة من الضعة إلى المجد ولخروجها من الظلمات إلى النور ومن العبودية إلى الحرية. فالأمة لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بمعونة البطل الذي يسد مسده كما أسلفنا أية واسطة أخرى من محاسن الصدف والظروف أو المزايا الجغرافية والمناخية والجوية، نضرب لك مثلاً على ذلك جزيرتي (ساردينيا) و (كورسيكا) بالبحر الأبيض المتوسط - فقد آثرتهما الطبيعة بأحسن المواقع الجغرافية وأغزر منابع الثروة المعدنية والزراعية وقد لبثتا برغم ذلك مجهولتين مهملتين على مدى الحقب مسافة ثلاثين قرناً من تاريخ أوروبا. هاتان الجزيرتان لهما عادات ولا قوانين، ولهجات شتى ولا لغة، وروايات حروب وغارات ولا تاريخ، واحتياجات وثروة ولا تجارة، وأخشاب وموانئ ولا أساطيل، وأساطير ولا شعر. وثارات وأوتار ولا قضاء، وجمال مناظر ولا تصوير، وأغاريد بلابل ولا موسيقى. هاتان الجزيرتان تقعان في بؤرة مدنيات الشعوب الأوروبية بأكرم بقعة وأحقها دون غيرها بأحسن الرقي المادي والعقلي والتجاري والسياسي، وهما بالرغم من ذلك قد نامتا أطول نومة فوق معزف التاريخ الموسيقي الرنان، فإلى ماذا ينسب ذلك السبات التاريخي؟ يقول العلماء سببه عدم الاستقلال والرسوف في قيد العبودية إذ ما برحتا تابعتين لبعض الدول الأوروبية. أنا لا أعارض في ذلك ولا أناقش. ولكني أقول لماذا بقينا في الرق والعبودية؟ لماذا لم تنالا الاستقلال وتظفرا بالحرية. وأجيب على الفور، ذلك لأنه لم يظهر بهما ذلك البطل العظيم الهائل الشخصية المملوء نجدة وهمة وإيماناً وإخلاصاً - القادر على إشعال قلوب مواطنيه بلهيب الوطنية والغيرة والحمية والطموح إلى الاستقلال والتعطش إلى الحرية. ما أظن أهالي (ساردينيا) و (كورسيكا) قد خلقوا من طينة أخبث وأردأ مما خلق منه سائر الشعوب الأوروبية، أو أنهم الأم عنصراً من تلك الشعوب أو أخس جوهراً - ولكن أجود كومة من الحطب لا يمكن أن تشتعل - كما قلت - من تلقاء ذاتها. بل لابد أن تسلط عليها ثقاباً أو شعلة، ولا مشاحة في أن الطبيعة قد ضنت على هاتين الجزيرتين طول هذه الحق المديدة بالشعل الوطنية اللازمة لها الأساسية لنهضتها وقيامها.
إن البطل يكون له من قوة التفكير ونفاذ البصيرة ما يسبر به أغوار الأحوال الاجتماعية والسياسية في وطنه حتى يمس موضع الحاجة ويلمس مكان الألم ويدرك من الشؤون والمسائل ما قد اختمر ونضج وأصبحت تتمخض عنه أحشاء العصر فيرى أن هذا وحده - لا سواه - هو لباب الحق بالنسبة لجيله وهو أمس حاجات أمته وشعبه، فليس غير البطل الذي يبعثه الله لشعبه يستطيع أن ينفذ ببصره إلى هذه الحقيقة الكامنة المخبوءة الآخذة في دور النشوء والتكون في ضمير الغيب وفي طي المستقبل العاجل - ليس غير البطل يستطيع أن يتبين هذه الخطوة الضرورية التي تهم بها الأمة ويتحفز لها الشعب ويشمر. هذه في نظر البطل هي مسألة المسائل وحقيقة الحقائق، هذه هي همه الوحيد وغايته وغرضه وبغيته، وفي سبيلها يبذل أقصى جهده ومن أجلها يطلق دنياه ويهجر شهواته وينسى نفسه وينكر ذاته. فواجب على الجماهير إذن أن يعرفوا في بطل النهضة أمام العصر وقائد الجيل النافذ البصيرة الصادق النبوة، وإن قوله الصدق واعتقاده الحق ومنهاجه الرشد وسيرته الصلاح وسراطه الهدى. وسخف من بعض الأفراد وحماقة وغباء وعماية أن يحملوا بطل النهضة على اتباع آراء الغير ممن يخالفونه ويعارضونه وما كان البطل قط ليتنزل إلى ذلك، وما كان له ومعه عقله وحزمه أن يحيد عن الحق إلى الباطل وعن الهداية إلى الضلال، وما كان للشمس أن تشرق من المغرب ولا للسيل أن يتدفق من أسفل إلى أعلى ولا للقمر أن يعطل طوافه حول الأرض ولا للعذب الفرات أن يملح ولا للملح الأجاج أن يعذب ولا للذهب أن يحور رساساً ولا للسكر أن يصير ملحاً وقد قلنا أن بطل النهضة هو في كيانه وجوهره وفي حركته وسيره كبعض نواميس الكون وقوانين الطبيعة لا يغير نهجه ولا ينكب عن سراطه إلا بعد أن يفسد الكون ويتبدد نظام العالم وتنشق السموات والأرض وتخر الجبال هدا. فالبطل نبي العصر يأمر فيطاع ويسير فيتبع وخليق بالشعب أن يؤمه إذ كان يبصر فيه علم وطنيته ورمز حريته وإذ كان في صورته وشخصه تتمثل تلك النزعة الجديدة التي نبعت في نفوس الشعب عامة وتتجسد تلك الروح الناشئة التي نجمت في ضمائر الأمة كافة - فهم إذا انجذبوا إليه فإلى أرواحهم ينجذبون، وإذا لبوا نداءه فنداء أرواحهم يلبون، ووحي قلوبهم يجيبون وإذا آمنوا به فبحقيقة النفس البشرية وبسر الروح الإنسانية يؤمنون، وإذا عرفوه فالحق والله يعرفون.
هذه النزعة الجديدة - هذه الروح الناشئة - روح العصر تتقمص البطل فتستولي عليه وتستحوذ على لبه وشعوره وكيانه فيظل وليس فيه إلا هي فكأنه مطية لها شاءت أن تمتطيها إلى غايتها المقصودة، وكأنه سفينة لها اتخذتها مركباً تمخر بها عباب الحوادث جريئة على الأنواء والعواصف جلدة على الأهوال والمصائب صبوراً على اصطدام العناصر وثورة الزوابع - تندفع بها في بحر ثائر من الخلاف والشقاق والعناد والخصام. والنزاع والصدام. تعاني البلاء وتقاسي المحنة والشقاء. حتى تصل إلى ساحل الأمن والسلام والفوز والظفر.
بسم الله مجراها ومرساها - هذه سفينة الأمل تسير بنا في موج كالجبال قد حفتها عواصف الخلاف وزوابع الفتنة وكمنت لها تحت جبين المياه الطلق الوضاح صخور الغدر والخيانة ورمال المكر والدهاء وداهمتها شياطين الكفر والجحود تساورها من بين يديها ومن خلفها ولكن لا بأس عليها ولا ضير والله وليها وحارسها والمبدأ دقلها والإخلاص شراعها ولهيب الوطنية الصادقة مرجلها وقوة الإيمان والغيرة والعزم والحمية ريحها وأربعة عشر مليوناً من الأيدي الجادة الكادة مجاذيفها وشعب مخلص النية صادق العزم ركبانها - ستسير بقوة الحق إلى ساحل الحرية والفوز والنجاة وهنالك تطمئن نواها. وتستقر عصاها. (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوا آمنين.)
عقدنا النية على أن نخصص في البيان صفحات عدة لنشر صور مختلفة لبلدان وأقطار واختراعات وملوك وعظماء ونوابغ وما إلى ذلك لمناسبات تبدو لنا وليس من الضروري أن يكون هناك كلام أو مقال يتعلق بالصورة لأن الصور كأنها عمل قائم بنفسه. وهنا نشرح الأسباب التي حدت بنا على نشر بعض صور هذا العدد.
السير طالب النقيب باشا
جاء في الأنباء البرقية أن السيد طالب النقيب عظيم العراق والذي كان رئيس حكومة هاتيك البلاد، وقف في وجه الانكليز وهددهم بإهاجة العراقيين عليهم أن هم لم ينزلوا على ما يريدون، فكان ذلك سبباً في إبعاد السيد طالب عن البلاد. ولسنا ندري هل أطلق سراحه أم لا يزال في منفاه. .
أما السيد طالب النقيب فهو من رجالات الشرق العظام وأكبر زعماء العراق ومن سلالة بيت النبوة، وعريق في المجد والسؤدد، وقد أقام في مصر نحواً من ثلاث سنين أيام الحرب العالمية الكبرى.
وكان من حسن حظنا أن تعرفنا بالسيد وخالطناه وأنسنا به وأنس بنا ومال إلى عشرتنا ميلاً صادقاً ينم عن طيب عنصره ونبل إحساسه وسمة أخلاقه. فأصبنا منه رجلاً عظيماً كبير الروح كبير القلب عظيم الإباء والشمم وكان عضواً في مجلس المبعوثان ويحسن عدة لغات من التركية الفارسية والفرنسية والألمانية والانكليزية، وهو جريء مقدام صريح قوي والحق لا يخشى في سبيله شيء ولعلنا نعود إلى الكلام عليه بأوفى من هذا في فرصة أخرى.
محمود بك نصير
جميل جداً أن يكون أعيان البلاد من المتعلمين المهذبين المستنيرين، وأجمل من ذلك أن يظفر الإنسان من بينهم برجل عالم فاضل واسع الاطلاع لا يلهيه ماله وبنوه ونعيم هذي الدنيا عن النظر في شؤون قومه ومشاركة مفكريها في تلمس النافع لها الناهض بها إلى مستوى الكمال مثل صديقنا محمود بك نصير أحد أعيان المنصورة وعضو المجلس البلدي فيها والذي عرفناه أخيراً بعد أن عرفنا آثاره الطيبة قديماً والذي أصبنا منه مؤخراً فاضلاً واسع مدى الاطلاع له مشاركة في كثير من العلوم، عاملاً مخلصاً غيوراً على دينه ووطنه وقد أهدى إلينا مقالات له تناول فيها وصف تلك البلدان والأقطان التي تقطنها الشعوب التركية التترية المسلمة ووصف أهلها وزعمائها في هذا العصر وسننشر هذه المقالات في الأعداد القادمة تحت باب العالم الإسلامي الذي سنعنى بها العناية كلها.
إبراهيم بك الزهيري
نشرت الجرائد أخيراً أن إبراهيم بك الزهيري أحد أعيان الدقهلية أوقف150 فداناً للإنفاق منها على مستشفى ومدرسة. وإبراهيم بك الزهيري الذي نعرفه حق المعرفة من أعياننا الذين تفخر بهم مصر فقد عرفنا منه رجلاً ذكياً ألمعياً مهذباً مستنيراً صادقاً مخلصاً أريحياً يجمع إلى ذلك الجد والنشاط كأنه الحركة الدائمة، هذا إلى استقامته التي لم نر لها نظيراً بين نظائره أكثر الله من أمثاله النافعين من أعيان البلاد.