الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 58/الانسانية المجنونة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 58/الانسانية المجنونة

بتاريخ: 30 - 11 - 1920


وخصومة القضاء والطب عليها

يعلم الناس أن القوانين الجنائية في العالم قد نصت على أن الفرد الذي اختل شعوره وارتكب جرماً يقع تحت طائلة القانون. لا ينبغي أن تلقي عليه أية عقوبة. بل ينبغي أن يدفع إلى عناية المستشفى. ويلقى في ذمة الأطباء لمعالجته. ذلك نص لا يقل دحضً في النظام الحاضر. ما دمنا نعلم أن القانون بالقائه العقوبة وتقرير القصاص لا يريد إلا إزالة أسباب الجرائم. وردع الناس عن ارتكاب الجنايات. ولكن موضوع رأي القضاة في المجانين ومبدأ القوانين الجنائية في معاملتهم قد أثاروا في هذه الأيام ضجة كبرى بين العلماء. وجدلاً وحواراً شديدين ولعل الناس يتساءلون ما السبب. ويقولون ما الباعث.

ونحن ننشر لهم ملخصاً مما كتبه المستر بوين رولاندس تحت هذا العنوان قانون الجنايات والمجانين وأجاب فيه عن هذا السؤال. ومجمل الباعث هو اختلاف الآراء بين رجال القضاء وبين الأطباء وبين عامة الناس.

وقد قال الكاتب من أين نشأ هذا الجدل. وجواب ذلك ما قاله احد المحامين الكبار وهو يقول القانون أن ليس في الدنيا أحد مجنون ويقول الطب. ليس في الدنيا أحد عاقل. ويقول الإنسان العادي أن خمسة وثلاثين في المائة على وجه التقريب من سكان أي بلد مجانين صرف.

هذا كل ما في المسألة لأن الناس ك لهم في اعتبار القانون عقلاء. ولا يستطيع أحد أن يفلت من العقوبة إلا إذا ثبت أنه في الحقيقة ونفس الأمر مجنون من غير شك. ولكن الأطباء في رأيهم أن كل الناس مجنون. والعالم بأجمعه مجانين. وأن كل إنسان يريد أن يثبت أنه ليس على شاكلة من هذه الوجهة يجب أن يقنع الأطباء الأخصائيين في الأمراض العقلية. لا القضاة والمحلفين. ويقول الإنسان العادي، أو هو كما قال أحد الكتاب. الإنسان الذي في الشارع. إذ يرى جريمة وحشية ترتكب - أن الرجل الذي ارتكبها لا بد من أن يكون مجنوناً ذهب لبه.

فبصرف النظر عن رأي الإنسان العادي. ينحصر الخلاف بين القضاة وبين الطب. إذ يقول الأطباء أن المجرم يجب أن يترك لمحكمة مؤلفة من بعض الخصائيين في الأمراض العقلية. حتى تبت جنونه أو تقر سلامة عقله. ويؤيدون مطلبهم بقولهم أن درجة جنون أي شخص موضوع ينبغي أن يترك كلية للذين يصح لهم أن يدلوا برأيهم بفضل درسهم وعلمهم وهم يشكون من أن الطبيب الأخصائي في النظام الحاضر يعد كمية مهملة في محاكم الجنايات. فإذا نحن نظرنا إلى شكواهم فلا شك في أن شهادة الطبيب قد لا تحدث أي أثر في رأي القاضي أو المحلفين، وقد لا يقام لها بينهم وزن وليس ذلك لأن رأيه لا يقيد به. وإنما لأنه قد يدحض بشهادة أخصائي آخر. كما وقع أخيراً في المحكمة العليا إذ قال رجل من كبار الأخصائيين في لأمراض العقلية أن المجرم الذي طلبت شهادته عنه ضعيف العقل، ثم جاء أخصائي آخر لا يقل عنه شهرة فقال أن المجرم عاقل في تمام عقله. وإنما كل ما فيه أنه تحت تأثير نسائية شديدة فيه راسخة في تركيبه عواطفه ثم إذا نحن نظرنا إلى مطلبهم القائل بوجوب تقرير جنون المجرمين المشكوك في صحة عقولهم بمعرفة أخصائي أو أخصائيين عديدين، وجدنا أن الأخذ برأي طلب واحد مضر بمصالح العدل. وإذا تركنا جمعاً من الأطباء يدلون بآرائهم الفنية، ألفينا كثيراً من الاختلاف بين الآراء وبعضها البعض، ولا ينبغي أن نأخذ في العدل والقضاء بين الناس على طريقته القرعة والتصويت لأنه لا بد من القطع والجزم. ولكن إذا نحن فرضنا أننا وجدنا طبيبين قد اتفقا على رأي واحد، فهل نظن أن اتفاقهما يبنى على أسباب واحدة، وعلل متشابهة؟ وقلم يحدث ذلك، وأقرب حادثة لأثبات ذلك ما وقع في أحدى القضايا إذ قال أحد الأطباء عن الجاني أنه مجنون لأن طبيعته النفور من الناس ولأن له نظرات زجاجية ثم جاء طبيب آخر فقال بجنونه وإنما ذهب إلى أن جنونه ثبت من استغراقه زمناً طويلاً في لعبة البروج!

من كل هذا الجدل والحوار يخشى أن يخسر الأطباء القضية ويكسبها القضاء بالطبع.