الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/اليوجنيون

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/اليوجنيون

بتاريخ: 1 - 6 - 1920


والعلم الحديث الذي يريد خلق إنسانية جديدة

يوجد بين رجالات العلم وأساطينه اليوم قوم يسمون اليوجنين؟؟؟؟ أن روح كل تحسين في العالم هو تحسين الروح، وأنه لما كان الناس محكوماً عليهم بالموت والفناء كانت درجة الأبوة العامل الأكبر في تأسيس بناء مستقبل الإنسانية تهذيب هي خير صناعات العالم وواجب عمل تؤديه الدنيا لحفظ؟؟؟؟ وأن كل طفل يثب إلى الدنيا من أحشاء الكون ينبغي أن توضع لتربيته الخطة ويرغب في مجيئه قبل خروجه وبحب قبل وثوبه، وإن واجبات الحكومة هي انتاج الكفاءة الإنسانية وإبادة الضعف والفسولة والعجز بين الناس، وإنه في سبيل تحقيق جميع هذه الأغراض التي من أجلها خلق العالم ينبغي أن تذلل جميع قوى الإنسان والطبيعة وجميع القوى المادية والروحانية على السواء.

ومن بين هؤلاء العلماء ينهض صفوة جبابرة الأذهان أو أكبر فلاسفة العصر ومفكري العالم. وجميع أولئك الذين جاهدوا وفكروا وعملوا وكدوا وسعوا لأجلنا ونحن ورائهم وحفدتهم، فقد كان أفلاطون يوجينا ولم يكن أقل من غالتون في هذا العالم الجديد اليوم شاؤا بل لقد كان أكبر شعراء الإنسانية يوجنيين كذلك وكانوا جميعاً يدركون كلمات الكاتب المخلد ويثمان إذ يقول: أنتخبوا أناساً أقوياء ثم لا تهتموا بعد ذلك بالباقي وليس ثمت ريب في أن هذه الفكرة ليست طريقة بل هي الفكرة الكمالية الكبرى التي جعل يسعى في سبيل تحقيقها أنبل رجال الإنسانية الماضية ونسائها. وإنما اتخذت شكلاً حديثاً وراحت في صيغة جديدة. وأكبر خاصيتها اليوم انها أضحت علماً. وان كان رجال هذا العلم المنادون إليه إنما يودون ما كان يوده المصلحون من قبل أعني ظهور إنسانية قوية صحيحة. وأن يوجد في العالم رجال أبدع من رجال اليوم ونساء أصح وأنبل روحاً وأقوى جثماناً. وأن تختفي من العالم جميع مظاهر المرض والقبح والدمامة والشقاء والبؤس والشرور والمناقص. وأن نؤسس عالماً أفضل من هذا العالم ونبني إنسانية أمتن من هذه الإنسانية حتى ينبثق فجر العصر الذهبي الذي طالما تغنى شعراء الماضي به وتخيلوه وأرسلوا القصيد تلو القصيد في تصويره.

على أن اليوجنيين يقولون أنه إذا كنا نريد حقاً أن ننفذ هذا المبدأ الجميل فلا ينبغي لنا أ نقصر عملنا على ترداد هذه الكلمات العذبة والتلفظ بها والتنغم بحلاوة مخارجها وأنه لا يكفي لنا الصلاة والتضرع والابتهال والدموع والعبرات والإيمان والاستسلام والتمني والتعلل بل ينبغي أن يكون شعارنا العبادة هي الكد والدأب واكبر حاجة الإنسانية اليوم ومطلبها الإيمان العامل القوي الفعال، لا المستسلم القوام الصوام. وهذا واجب العصر الحاضر، وفريضة أبنائه، لأننا لسنا إلا أعواناً للطبيعة على عملها وشركاء في خلق خلقها. وكيف لا يكون هذا واجبنا ونحن ننشيء الجيل، وكان حتماً علينا أن نهذب نشأته ونقوي أصوله ومتونه. وليس تاريخ الإنسانية الماضية إلا اكبر دليل على امكان انقاذ هذه المبادئ السامية إذا نحن تذكرنا من أية وهدة وثبنا، ومن أي منشأ خرجنا. وفي تاريخ الماضي لنا ألف مرشد ودليل، وإذا كان الماضي يعلمنا بفتح بصائرنا ويهبنا مبادئ وطرائق فإنه يوحي إلينا أننا مدينون له بدين عظيم وأن لا سبيل إلى الوفاء بهذا الدين إلا إذا اختصصنا بالمستقبل، وإن كان غرضنا أن نبني جنساً أرقى من هذا الجنس - وأنه لعمل عظيم من بناء المدائن وإنشاء الحواضر - فليكن أساس ذلك البناء تعظيم الطبيعة نفسها ومبادئها القوية المتينة.

وإذا كان يخيل للناس أن اليوجنية ليست إلا ديناً أو عقيدة فلا تزال كذلك علماً ولا بد للدين من عون العلم. ثم لا ينبغي أن لا ننسى أن هناك علوماً كثيرة لا تجد مرشداً لها إلا اليوجينة ولا تزال تستمد وحيها وأصولها ومقاصدها من تعاليم هؤلاء اليوجيين.

وقد آن الأوان الذي يطلب فيه إلى هؤلاء العلماء أن يبسطوا الطرق التي نستطيع بها أن نخرج عقيدتهم هذه إلى حيز الفعل فقد تقبلت الإنسانية فكرتهم، وارتضت مبادئهم ولم تجد لهذه المبادئ الأولية هذه لها من جميع أبناء الإنسانية الحاضرة إلا التحييذ والقبول والإجماع. ولكن ليس المقصد هو قبول الفكرة وهي معلقة لا تنفيذ لها. فإن لكل إنسان أن يصيح اليوم. إذا كانت هي اليوجنية فنحن كلنا يوجنيون، كما قال السير ويليام هاركور إذا كانت هذه الاشتراكية فنحن جميعاً اشتراكيون ولكن الاشتراكيين جعلوا يردون على هذه الفكرة فيقولون أنها وإن كانت من بعض الوجوه صحيحة لا يزالون هو قوماً منفصلين وطبقة خاصة من الإنسانية. وليس ذلك لأن لهم غرضاً معيناً مخصوصاً لأننا جميعاً نبتغي السعادة كما يبتغيها الاشتراكيون. وإنما لأن لهم نظرية خاصة معينة في كيفية الوصول إلى تحقيق هذه الأغراض. وعلى هذا النحو يقول اليوجنيون انه وإن كانت الإنسانية جميعها تود ما يودون وتبغي ما يبغون، لا يزالون طبقة خاصة لأن له نظرية خاصة في وجوه السعي إلى تحقيق هذه المبادئ السامية.

ونحن الآن باسطون شيئاً من المبادئ العملية التي يقول بها علماء اليوجنية فنقول أننا إذا سلمنا جدلاً أن غرضنا هو تحسين الجنس الإنساني وتهذيبه فأول سؤال ينبغي أن نسأله هو: ما هب العوامل التي نجعل من الناس قوماً أصحاء وقوماً مرضى وأفراداً أقوياء الروح، وأفراد أضعافها أحقارها مهدميها، وأناساً أقزاماً قصاراً، وأناساً طوالاً مشذبين كباراً. وتجعل من الناس حمقى أغبياء، وألمعيين أذكياء، وقساة غلاظ الأكباد وحِداباً رقيقي العاطفة رحماء. والجواب سهل للغاية. وهو أن كل مزية في الإنسان، وسجية وخليقة ليست إلا نتاج عاملين كبيرين الطبيعة والتغذية وقد استمد السير فرنسيس غالتون البطل الأول الذي ظهر في ساحة هذا العلم الجديد هاتين اللفظتين من كلمة للشاعر شكسبير. فمما يدخل تحت كلمة الطبيعة الوارثة وما يتلقاه الإنسان عند نشوءه وتكوينه وإن لم يكن شبيهاً لما في الوالدين والآباء. وأما التغذية فتلك التي تشمل جميع وسائل الغذاء التي يتلقاها الطفل من بدء تكوينه وتأثير الوسط النفاتي والاجتماعي والجثماني. وكذلك نرى أن تحت هاتين اللفظتين تختفي جميع القوى التي تنشئنا والتي تنشىء كل مخلوق في هذه الحياة. ونحن ندرك أنه لا تقوم واحدة دون الأخرى. ولا عمل لعامل منهما دون عون صاحبه، فإذا لم تكن الطبيعة فلا أثر للتغذية. وحيث لا تكون التغذية تتهدم الطبيعة، ولا تكون شيئاً مذكوراً.

فإذا سلمنا بهذا واعترفنا به فقد أدركنا المبادئ الأولية لهذا العلم. وكذلك نرى أن اليوجيين وإن كانوا ينادون الإنسانية إلى عقيدة جديدة لا يزالون ينشرون عقيدة قديمة. ويجب أن يعترفوا بفضل التغذية بجميع وجوهها، وليس غرضنا في الحياة إخراج خليات لقاح قوية وإنما أفراد أصحاء أقوياء وما كان طلبنا الخليات القوية إلا لأنها تنمو فتكون أفراداً طيبين. ولهذا كان واجبنا أن نعمل على تغذية هذه الخليات من المبدأ إلى النهاية. في كل دور من أدوار التكوين والنمو. وهذا يؤدي بنا إلى فكرة وجوب العناية بالأمومة. قبل حصولها ولكن كثيرين من هؤلاء العلماء يقفون إزاء هذه الفكرة معارضين محتجين ويعدون طلب العناية بالطفل قبل ولادته وهو في دور الجنين اشتراكية استخفافاً وسخرية. ويسمون عنايتنا بالأطفال في مستشفيات الأطفال واللقطاء والتعويض عن إهمالنا قبل ولادة الطفل تصدقاً. والتصدق مادة غير موجودة في قوانين العلم الحديث.

وهناك فكرة أخرى يعارض فيها اليوجييون. إذ يقولون أننا نجاهر بقولنا الناس جميعاً أحرار بالفطرة متساوون إنما نعلن حقيقة سياسية فقط. ولكنها من الناحية البيولوجية أي من الوجهة الحيوية: ليست إلا اكذوبة صريحة. وهم لا ينكرون أن هذه الحقيقة السياسة خليقة بالتحبيذ والقبول والاحترام. ولا ينبغي مقاومتها أو العمل على هدمها ولكن ينبغي أن لا تخلط بالحقيقة الحيوية وهي أن الناس لم يخلقوا أحراراً ولم يثبوا إلى العالم متساوين وإنما لا يزالون مختلفين وأن فريقاً منهم قد حكمت عليه الطبيعة بالعبودية والوقوف في الصفوف الخلفية من الإنسانية وفريقاً آخر خصته الطبيعة بالحرية والمكانة العليا فإذا كانت هذه الاختلافات بين الناس رجالاً ونساء تحور إلى قوة التغذية أو ضعفها فنحن نقول أن في ذلك إنكاراً لعمل الطبيعة واستخفافاً بقوتها ولكننا إذا ذهبنا إلى أن هذه الاختلافات ليست طارئة عارضة وإنما هي تمشي على قانون ثابت وتجري مع سنة مقررة وتعمّ الإنسانية كلها من أبله مجنون في الحياة إلى أعقل عاقل ومن الغبي إلى الذكي ومن المرض إلى الصحيح فإنما نعترف بأن لقوة الطبيعة العامل الأول في تكوين الناس وهذه الفكرة الأخيرة تنطبق على ما اختبره العلم في العهود الحديثة.

وقد أنفذت الإنسانية المتحضرة في القرن الماضي أو نصفه الأخير شيئاً كثيراً من الإصلاح الاجتماعي. وقد تحسنت الحياة من بعض فروعها. ومن ناحية التربية على أن هذه اللفظة الأخيرة يجب أن تبقى كما هي الآن بين قوسين. حتى تدل على أنه لا يزال يوجد نوع منها أفضل من حالها اليوم وأجدى على الإنسانية. ولكننا على رغم الاصلاحات التي أدخلناها على الحياة لم نتناول بعد الموضوعات الخطيرة التي هي أحق بالإصلاح من سواها فقد عني أهل الغرب بوسائل الصحة فقط الظاهرة السطحية، ولكن العامل الآخر وهو عنصر الطبيعة لم يمسح لأحد بالإصلاح ولم تعمل الإنسانية بعد على تنظيم سيره وضبط قوانينه واحترامه نواميسه. فلا يزال قانون الوراثة مقفلاً لا يؤبه به: ونحن اليوم نخرج للإنسانية أطفالاً عجزة مرضى وندع الأمهات عرضة للأمراض والعلل: ثم لا يكون منا إلا أن نحاول إصلاح ما أفسدنا بالاجتهاد في تحسين هؤلاء العجزة بإيجاد المستشفيات وتشييد الملاجئ ودور الشفاء.

وإذا كان للطبيعة في خلق الناس وتكوينهم كل هذه الأهمية التي بسطناها. وإذا كانت الاختبارات التي ينشرها العلم في كل يوم ويؤيدها الذين يتوفرون على تربية الماشية والأنعام والسوام وتلقيح الخيول والأزهار والنباتات. فقد حق علينا أن نحشد جميع وسائل العلم لتربية الناس بعين الطريقة التي تحسن بها نوع خيولنا وماشيتنا.

هذا هو واجب هؤلاء العلماء قهم يقولون أنه على الرغم من جميع المصاعب التي ستعترض انفاذ هذا الواجب - من جهل وجمود على المبادئ القديمة واستمساك بالأفكار البالية العتيقة يجب أن ينفذ هذا الواجب - وقد آن الأوان لانفاذه وسيتغلب الإنسان على جميع تلك المصاعب يوماً من الأيام. وستذهب سخريات الحمقى والمجانين والهزائين، وضحكات المتشائمين والساخرين - في طخية الظلام. وسيرى العالم أن تلك القوى التي رقت الإنسان من الحيوان ومن الدودة الحقيرة لا نزال مستسرة فيه كامنة في طبيعته، لأنها عمل الكون كله وقدره الذي لا حد لقدرته.

لهذا السبب وحده يقول علماء اليوجنية بان لتنظيم فعل الطبيعة - المكان الأول - ولتنظيم عمل التغذية المكان الثاني. وأكبر سعي اليوجنيين مقصور على العنصر الأول. والمبدأ الأول هو انتخاب البذور القوية لأخراج أناس أقوياء. وإذا كان هناك انتخاب فمعنى ذلك أنه لا بد كذلك من رفض واطراح. فإذا كنا سنأخذ بانتخاب الأقوياء والصالحين فلا غنى عن اطراح الضعفاء والفاسدين. ومن هذا نقسم اليوجنية الطبيعية إلى يوجنية إيجابية، ويوجنية سلبية. فالغرض الأكبر من اليوجنية الأولى الايجابية هو تشجيع الأبوة الصالحة - والغاية من السلبية - منع الأبوة الضعيفة المتأدوة المريضة. وهناك فكرة أخرى، وهي أنه إذا كان ثمت عوامل قد تستطيع أن تجعل من الأفراد الأقوياء الأصحاء الصالحين أبوة فاسدة ضعيفة. فلا بد لليوجنيين من العمل على محاربتها ومقاومتها: وقد شاهد علماء الوراثة أن الرجل إذا فقد عضواً من أعضاء جثمانه. أو أصيب بفقد الباصرة أو تشوه وجهه من أثر الجدري لا يمنعه ذلك من الزواج. ولا يقتضي ذلك أن تكون منه إذا تزوج أبوة غير صالحة إذ لا ينتظر أن يخلف له خلف ناقص البدن. ولا يكون نسله فاقد العضو الذي فقده من بدنه، ولا يثب أبناؤه إلى الحياة عمياً مشوهي الوجوه. وهناك أمثلة كثيرة نستطيع إيرادها للدلالة على أن كثيراً من الخسائر أو الأضرار الصحية التي تقع للآباء لا تؤثر في حالة نسلهم وذراريهم - على أن الذين درسوا قوانين الوارثة يدركون أن هناك عوامل تؤثر في صلاحية الأبوة. ولهذا ينبغي مقاومة هذه العوامل الضارة، ومن بينها الكحول والعقاقير وسائر تلك السموم.

إذا أدركنا هذا كله أمكننا أن نقسم اليوجينة إلى الأقسام الآتية:

اليوجنية الطبيعية

1 - إيجابية - تشجيع تحسين الأبوة بالزواج الصالح

2 - سلبية - منع الأبوة الفاسدة غير الصالحة

3 - منعية - مقاومة السموم الجنسية الضارة

بوجينة التهذيب والتغذية

1 - بدنية. التغذية من المبدأ الأول إلى النهاية. بل من المهد إلى اللحد.

2 - نفسانية. التربية وما إليها

3 - اجتماعية وأخلاقية. في المنزل والمدرسة والأمة.

نلك أصول هذا العلم. وهي واضحة بينة. لكن ستستعرض انفاذ هذه المبادئ حماية من العواطف الإنسانية والغرائز الآدمية والأحوال الاجتماعية. كالزهو والأثرة والأنانية والسياسة والعادات. واهم أولئك عامل الحب. فقد يهدم اليوجنيه ويقلبها رأساً على عقب.

وسأعود إلى تفصيل جميع مبادئ هذا العلم الهام مذ العدد القادم إن شاء الله

عباس الحافظ