مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/الشعر والمدينة
→ فتاوى الأطباء في التقبيل | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 56 الشعر والمدينة [[مؤلف:|]] |
شهداؤنا الاثنا عشر ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1920 |
للكاتب المؤرخ الكبير اللورد ما كولي
إني أعتقد أن ارتقاء المدينة وتقدم الحضارة يتبعها في الغالب الأرجح تأخر الشعر وانحطاطه. فمع إعجابنا الحار الشديد بأعمال الخيال العظيمة التي أخرجتها العصور المظلمة فإن هذا الإعجاب لا يعظم ولا يزداد لأن هذه الأعمال ظهرت في عصور الظلام، بل على العكس من ذلك أرى أن أعظم دلائل العبقرية وأجلها هو نظم قصيدة كبيرة في عصر حضري متمدن. ولا أستطيع أن أفهم كيف أن أولئك الذين يؤمنون بهذا المبدأ الأدبي الصحيح وهو أن أحسن الشعر على العموم هو الشعر القديم يعجبون من تلك القاعدة التي ذكرناها كأنما هي أمر مستثنى. لا ريب أن وحدة الظاهرة دليل على وحدة السبب.
وفي الواقع نرى النقدة العاديين يستدلون بتقدم العلوم البحثية على تقدم العلوم النقلية. ولكن تقدم الأولى يسير سيراً تدريجياً بطيئاً. فعصور تنقضي في جميع المعلومات والمواد وعصور أخرى تنقضي في تعيين تلك المواد وفصلها ومزجها. فإذا ما انتهى البحث إلى تكوين عمل معين لم نعدم أن نجد شيئاً نضيفه إليه أو نغيره فيه أو نطرحه منه. وكذلك يغنم كل جيل كنزاً عظيماً أهدته له العصور التي قبله، ثم يهديه إلى الأجيال المستقبلة بعده بعد أن يكون قد زاد أيضاً في ذخائره واعلاقه. وبذلك يكون أوائل المفكرين والباحثين غير متمتعين بتك الميزة التي يغنهما من بعدهم تلاميذهم وهم أقل مواهب وعظمة ذهن ويبرزون عليهم في معلوماتهم وأبحاثهم. إن كل فتاة قرأت كتاب المحاورات الاقتصادية الصغيرة تأليف مستر مارست تستطيع أن تعلم مونتاجي أو والبول دروساً عديدة في العلوم المالية. وأن أي إنسان ذكي الفهم يستطيع الآن في سنوات قليلة، إذا انكمش في دراسة الرياضيات بهمة، أن يحرز من المعلومات أكثر مما عرفه نيوتن العظيم بعد التأمل والدرس زمناً أكثر من نصف قرن.
ولكن ليست الحال على شيء من ذلك في الموسيقى أو التصوير أو النقش، بل وأقل من ذاك في الشعر. إن التقدم في المدينة وتحسين مرافق الحياة قلما يمد تلك الفنون بموضوعات أفضل تصوغ منها معانيها. نعم قد يكون هذا التقدم سبباً في تحسين الأدوات التي تلزم الموسيقى أو النقاش أو المصور للقيام بأعماله الآلية فحسب، ولكن اللغة التي ه أداة الشاعر إنما تصلح أحسن ما تصلح له وهي في حالتها من البداوة والفطرة. إن الأمم كالأفراد تحس ثم تفكر. إنها تبتدئ بالصور المعينة ومنها إلى الحدود العامة. ولذلك نرى الأمة الراقية المستنيرة ترى كلماتها فلسفية علمية بينما الأمة البعيدة من التمدين نرى كلماتها شعرية.
وأن هذا التغيير في لغات الناس بعضه سبب وبعضه أثر لتغيير يقابله في طبيعة الأعمال الذهنية، ذلك التغيير الذي يستفيد منه العلم ويخسر الشعر. إن التعميم ضروري لتقدم العلوم ولكنه لازم لاغنى عنه لمبتكرات الخيال. وبقدر ما يزداد علم الناس وتفكيرهم يقل اهتمامهم بالنظر إلى الجزئيات ويعظم بالنسبة إلى الكليات. وبذلك يخرجون إلينا نظريات حسنة وأشعاراً رديئة. ويقدمون إلينا معاني مهمة بدل صور معينة وصفات شخصية للإنسان بدل الإنسان ذاته. قد يكونون أقدر على تحليل الطبائع البشرية من آبائهم وأجدادهم، ولكن التحليل ليس من عمل الشاعر، لأن عمله يقتصر على التصوير ولا شأن له بالتقسيم والتحليل. قد يكون الشاعر من أنصار المبدأ الأخلاقي كشافتسبوري، وقد يكون ممن يرجعون أعمال الإنسان كلها إلى حب المصلحة كما يقول بذلك هلفشياس، وقد لا يكون فكر في شيء من هذا اصلاً. وعلى العموم فإن رأيه في هذه الموضوعات كلها لن يكون له تأثير في شعره الحقيقي أكثر من تأثير المعلومات التي يحرزها المصور عن الغدد الدمعية أو عن الدورة الدموية في تصويره دموع نيوب أو تورد أورورا. ولو أن شاكسبير كتب كتاباً في الدوافع النفسية للإنسان لما كان ولا ريب كتاباً قيماً جليلاً، بل لما كان فيه من القوة والإثبات نصف ما في كتاب أساطير النحل. ولكن هل يستطيع مؤلفه ماندفيل أن يخلق أياجو؟ نعم إنه أحسن تحليل الطباع وردها إلى عناصرها ولكن هل يستطيع أن يحسن ضم تل العناصر بعضها إلى بعض بطريقة يخلق بها شخصاً حياً حقيقياً؟. .؟
ربما لم يكن هناك إنسان يستطيع أن يكون شاعراً، أو على الأقل يستمتع بالشعر ويطرب به. إن لم يكن في ذهنه شيء من النقص - إن صح أن نسمي نقصاً ما يورثنا أعظم اللذة والطرب. ولا نعني بالشعر كل ما هو مقصد، بل ولا كل قصيد حسن وبذلك يخرج من اعتبارنا كثير من القصائد التي قد تكون لأسباب أخرى جديرة بلإعجاب والثناء، ولكننا نعني بالشعر هنا تلك القدرة الغنية على استعمال الكلمات استعمالاً يجسمها في الذهن، أو هو القدرة على أن يستعمل الإنسان الكلمات استعمال المصور للألوان وكذلك وصف الشعر أكبر شعرائنا في أبيات استحقت الإعجاب العام لقوتها وسلاسة تصويرها، وأكثر من ذلك لما فيها من الرأي الصائب السديد عن الفن الذي تفوق هو فيه: - كما أن الخيال يخلق الأشياء من عوالم المجهولات، فكذلك قلم الشاعر يصبها في قوالب الصور، ويعطي لصورة أخرجها شكلاً واسماً.
وهذه ثمرة من ثمرات التهيج الظريف الذي وصف به الشاعر هو أيضاً تهيج ظريف ولا ريب ولكنه بعد يهيج. إن الحقيقة ضرورية في الشعر ولكنها حقيقة المجانين. ان النتائج صحيحة ولكن المقدمات خطأ. لقد كان ينبغي بعد كتابة القضايا الأولى أن يكون التعليلي صحيحاً غير متضارب ولا متعارض، ولكن الحقيقة هي أن هذه القضايا ذاتها بحاجة إلى تساهل شديد لتصديقها يكاد يصل إلى اختلال جزئي مؤقت في الذهن. لذلك كان الأطفال أكثر الناس خيالاً لأنهم يطلقون العنان لأنفسهم في قبول كل الأوهام والأباطيل، وكل صورة مرت بأذهانهم تؤثر فيهم تأثير الحقيقة الواقعة. إن ما من إنسان مهما بلغت عقليته بمتأثر من رواية هاملت أولمير بمقدار ما تتأثر فتاة صغيرة من حكاية القبعة الحمراء. فمع أنها تعلم أن شيئاً من ذلك لم يكن وأن الذئاب لا تتكلم وأنه لا يوجد ذئاب في انجلترا بالمرة - مع هذا كله فإنها تصدق وتبكي وترتعد فرقاً ولا تجسر على أن تدخل غرفة مظلمة مخافة أن ينشب الوحش أسنانه في عنقها!! وهذا مبلغ تأثير الخيال في العقول الجاهلة غير المستنيرة.
ففي المجتمعات التي لم تزل على حالتها من الداوة والفطرة يكون رجالها أطفالاً صغاراً ذوي آراء أكثر أشد تنوعاً. وفي مثل هذه المجتمعات يمكننا أن نتوقع وجود العاطفة الشعرية في أسمى درجاتها. أما في المجتمعات المتمدنية المستنيرة فإننا نجد مواهب أعظم، وعلوماً وفلسفة أكثر، ووفراً من التقسيم الصحيح والتحليل الدقيق، والفصاحة والفكاهة، بل والقصيد البديع الكثير، ولكننا لا نجد إلا الشعر القليل. سيكون أهل هذا المجتمع أقدر على النقد والحكم والمقارنة ولكنهم أعجز عن الابتكار والخلق والإبداع. سيتكلمون عن الشعراء الأقدمين وسيشرحونهم وسيطربون بهم إلى حد معين، ولكنهم لن يستطيعوا أن يدركوا التأثير الذي كان يؤثره الشعر في نفوس آبائهم وأجدادهم من ألم وجذل وقوة إيمان. يقول أفلاطون أن رابسودست اليوناني كان لا يقرأ شعر هومر إلا تشنج وصرع. وأن رجلاً من رجال الموهاك لتنزع السكين من جلد رأسه وهو لا يشعر ولا يتألم ما دام يغني أنشودة الموت وأن السلطة العظيمة التي كانت للشعراء الأقدمين في الفال وألمانيا على الجماهير التي تسمع إنشادهم لما تدعو إلى الدهشة وعدم التصديق في هذا العصر الحديث. هذه الإحساسات وأمثالها قلما تراها في الجماعات المتحضرة، وهيهات تراها بين أولئك الذين ينعمون بمرافق تلك الحضارة ومزايا هذا التمدين. ولكنها تدوم زمناً أطول بين القرى ومزارع الريف.
إن الشعر يجسم الخيال للذهن كما يجسم المصباح السحري الأشباح أمام العين وكما أن المصباح السحري لا يخرج أحسن صورة إلا في غرفة مظلمة فكذلك الشعر لا تسمو درجته ولا يبلغ منزلته الحقيقية إلا في العصور المظلمة، فإن ضوء العلم إذا انتشر على صوره وضحت معالم الأشياء واستبانت ظلال اشك الاحتمالات، إذ ذاك تتلاشى تلك الألوان وتنطفئ تلك الملامح التي رسمتها يد الشاعر لأشباحه وخيالاته. لأننا لا نستطيع أن نظفر بتلك المزية العظيمة مزية الجمع بين الحقيقة والخيال، بين رؤية الواقع الواضح والاستمتاع اللذيذ بالتصورات. . . .
وإن الذي يريد أن يكون شاعراً عظيماً في مجتمع متعلم متمدن عليه أن يصبح أولاً طفلاً صغيراً. ينبغي له أن ينفض رأسه نفضاً مما يحتشد فيه وأن يجهل كثيراً من العلوم التي تلقاها والتي ربما كانت إلى الآن سبب نبوغه وشهرته. إن ملكاته ومواهبه ستكون هي العقبات التي تعترض طريقه. وسوف تكون المصاعب التي يغالبها بمقدار مجاراته وتعلقه بمرافق المدينة التي تحيط به، كما أن اندماجه هذا في الحياة التي حوله سيكون بمقدار ما عليه ذهنه من قوة ونشاط وعساه بعد هذه التضحيات والمتاعب أن يقول شيئاً غير شبيه بالرجل الألثغ أو الطلل الحديث. فلقد رأينا في عصرنا هذا مواهب كبيرة ومجهودات عظيمة وتأملات طويلة تصرف جميعها في مكافحة روح العصر ثم ترجع - لا نقول بالفشل التام - ولكن بنجاح مشكوك فيه وشهرة خافتة ضئيلة.
ط. ر.