مجلة البيان للبرقوقي/العدد 55/ماوراء الساحل المجهول
→ روح الإسلام | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 55 ماوراء الساحل المجهول [[مؤلف:|]] |
أشعار منثورة ← |
بتاريخ: 1 - 5 - 1920 |
طائفة من المشاهدات النفسانية الغريبة
بقلم كونان دويل
تحت هذا العنوان ماوراء الساحل المجهول بدأ كبير الروايات في الغرب. وأكبر علماء العصر كذلك - ونعني به السير كونان دويل - صاحب روايات شرلوك هولمز التي دلت على براعة الخيال وأبانت عن طول باع المؤلف في العلوم الحديثة بخاصة وعلوم النفس وما إليها - بنشر طائفة من المقالات الممتعة في إثبات آرائه في اتصال هذا العالم الدنيوي بعالم آخر والحياة بعد الموت. وهذه المقالات تحوي جملة من الشواهد الغريبة والأمثلة المدهشة وقد آثرنا أن ننشرها لقراء البيان تباعاً كما ظهرت في صحائف الغرب.
أشباح الماضي
ليس هناك أعجب ولا أمر أبعد عن التصديق وأقرب إلى الحق أيضاً من أن الحوادث الماضية قد تترك أثراً باقياً في البيئة التي نعيش فيها لا يني يوماً يظهر ثانية للعيان كأن يشعر الإنسان به أو يسمع به أو يراه بعد زمن. وقد وضعت هذه الوجوه التي يظهر فيها أثر الماضي بهذا الترتيب. أعني الحس والسمع والنظر لأن الإنسان في أغلب الأحوال يشعر بالماضي أكثر مما يسمع به أو يسمع به أكثر مما يراه.
هذا ونحن نعلم أن الذهن الحساس يتأثر بسرعة في مكان حدث فيه مصاب أو وقع حادث أليم فقد زارت سيدة من أقاربي يوماً ممرضة في أحد المستشفيات فلم تجدها هناك فسألت إحدى الممرضات قائلة. . . هل السيدة فلانة خرجت. وهل تلقت أنباء سيئة. . . فكان الجواب. . نعم خرجت لأنها تلقت نبأ برقياً بأن زوجها مريض. ونحن نسأل أنفسنا من أين علمت السيدة قريبتي أن هناك أنباء سيئة وصلت إلى صديقتها. والجواب أنها أحست ذلك من الشعور بأن قلبها خفق عند دخولها رحبة المستشفى. والعلماء يقولون هذا هو التليبائي. أو انتقال صور الذهن ونحن نقول أننا إذا كنا نقصد بمعنى التليبائي انتقال فكرة معلقة بهذه الصورة ساعة أو نحوها ثم وقوعها في نفس حساسة بعد ذلك. فإنني لا أريد جدالاً ولا أقصد دحضاً. ولكن إذا قلنا أن في الإمكان بقاء الفكرة المتنقلة ساعة فلماذا لا نقول بإمكان بقائها عاماً ثم قرناً كاملاً.
لي صديق كان يسكن منزلاً عتيقاً كان له زوج سريعة الإحساس وكانت تشعر دائماً بهزة محسوسة كلما نزلت السلم عند وصولها إلى درجة معلومة من السلالم وقد اكتشف بعد ذلك أن سيدة عجوزاً كانت تسكن تلك الدار منذ زمن بعيد صدمها طفل ماجن وهي هابطة السلم عند تلك الدرجة ففقدت توازنها فوقعت من السلالم وليس من الضروري أن نعتقد بأن عفريتاً ظل يختلف إلى تلك البقعة فيحدث نفس تلك الهزة مع السيدة الجديدة بل الشرح القريب للصواب هو أن ذهن السيدة العجوز عند وقوعها من السلم اضطرب أشد الاضطراب فترك أثراً دائماً وراءه جعل يظهر بهذه الصورة العجيبة.
تأثير الوقائع القديمة
كثيراً ما رأينا أو سمعنا برجال أقوياء الأعصاب رابطي الجأش تولاهم الخوف والرعب في أماكن معينة دون أن يعلموا سبب جزعهم ولكن يلوح لنا أن رعباً وقع لهم في الماضي عاد إذ ذاك فأثر في حواسهم دون أن تراه أعينهم مرة ثانية. وليس من الضروري أن يكون الإنسان معتقداً بوجود الأرواح حتى يحدث لديه هذا الشعور بعينه إذا كان في ميدان وقعت فيه حرب قديمة.
وإنني لأشعر بتأثير غريب لا وهماً ولا خيلاً عند زيارتي لأرض كانت يوماً ميداناً للقتال وساحة موقعة حربية كأن يظلم المكان في ناظري، وأشعر بقلبي يخفق وأنفاسي تتصاعد وتترادف بسرعة، وقد وقع لي نفس هذا التأثير، وأخذني في عين هذا الإحساس عندما زرت الأرض التي حدثت عنها موقعة هايستنج الكبرى المشهورة في التاريخ. وشبيه بهذا التأثير ما يعتري أغلب الناس من الظلمة التي تحدث في أذهانهم عند دخولهم بعض المنازل والدور. وخليق بالفقراء وزعماء الاشتراكية الذين يحسدون أهل الثراء وسادات الأشراف والنبلاء على تلك القصور الشاهقة والاطم العالية الرائعة التي يسكنونها أن؟؟؟؟ عليهم تلك المنازل فلعلهم أسعد حالاً ولعله أفضل لهم أن يعيشوا في تلك الأكواخ البسطة والمنازل الصغيرة اللطيفة من العيش في تلك القصور بعيدين عن الاضطرابات والوساوس والهواجس النفسانية التي تعتريهم في تلك القصور الرائعة التي لا تزال عليها آثار مظلمة رهيبة تملأ جو حجراتها وغرفها مما وقع فيها من جرائم وشرور.
وإذا كان بالإمكان أن يشعر ذو النفس الحساسة بأثر حادثة من حوادث الماضي فقد جاز أن يتمكن شخص منه حساسة أن يرى عياناً الشخص الذي وقعت له تلك الحادثة.
ولكني لا أكاد أصدق أن روح تلك الشخص بعينه هي التي تتراءى في مكان تلك الحادثة ولا أستطيع أن أصدق أن شخصاً كان ضحية جريمة من الجرائم منذ مائة سنة أو خمسين سنة يتقمص وتتبدى روحه في عين ألأثواب التي كان يرتديها فيتغشى الأماكن التي وقعت فيها الجريمة ولكن يجوز أن صورة الذهن تبقى ظاهرة في المكان الذي وقعت فيها آلام ذهنية شديدة.
وإن سألت كيف ولمَ فما أحد يستطيع أن يجيبك اليوم ولكن لعل الجيل الذي سيعقب جيلنا هذا قد يتمكن من حل الأسئلة، ولنضرب لك أمثلة ظهور الصور الذهنية للحوادث التي وقعت في ماضي الزمن. وإنني لا أرى مثلاً أبدع من الحادثة التي وقعت للسيدو جورديتش فربير. وهي سيدة جمعت إلى قوة الأعصاب رباطة الجأش بعد النظر والتفكير قبل التصديق والاقتناع فقد نامت تلك السيدة في حجرة من حجرات قصرها مبتون كورت وكان القصر مشهوراً بأن الأرواح ترتاده وتغشاه وقد وصفت ما حدث لها أتم الوصف حتى لا يتردد من يقرأ تلك الدقائق في الاقتناع بأن الحادثة التي حصلت كانت حقيقية ومنطقية على الوصف أتم الانطباق.
وكانت الحجرة التي تنام فيها غرفة صغيرة لا أستار لها ولا حجب. وليس بها إلا باب واحد بجانيب السرير وقد جاءت تلك السيدة إلى القصر خاصة لرؤية الشبح الذي يرتاد جوانب القصر فظلت ساعات من الليل تقرأ في كتاب ثم أخذ بها النوم ولكنها لم تلبث أن استيقظت على أصوات حركة وكان الظلام دامساً وخيل لها أن قوة مجهولة تمنعها من الوصول إلى المكان الذي وضعت عنده ثقاب الكبريت عندما أرادت أن تضيء الحجرة. ولما سألت عن الطارق لم تلق جواباً. وللحال ظهر بصيص من النور في وسط تلك الظلمة الحالكة وجعل البصيص ينتشر ويشع ويضيء حتى بان شبح سيدة مشوقة القد نحيلة جعلت تخطو ببطء في الحجرة حتى بلغت أقصى ركن منها فوقفت ثمت لا تتحرك. وقد استطاعت السيدة رواية الحادثة أن تتبين أن الشبح بكل دقة وقد وصفت تلك السيدة التي تراءت لها فقالت كان لها وجه جميل. وجه امرأة في الثلاثين أو تزيد خمساً. وكانت نحيلة في ثوب رمادي ناعم. قميص ووشاح.
فأعادت السؤال على الشبح فلم تجب كذلك وإما رفعت ذراعيها وجثمت فوق ركبتيها ودفنت وجهها في راحتيها وجعلت تصلي ثم لم تلبث أن زال الضوء واختفى كل شيء. والأثر الذي أحدث ذلك المنظر في السيدة المشاهدة دل على أن تلك المرأة كانت في يأس واستسلام. على أن المشاهدة لم تنزعج مطلقاً ولم تضطرب أعصابها من هذا المشهد بل أخذت بقية الليل تقرأ في كتابها الذي تركته قبل النوم.
وهذه الحادثة وأمثالها كثيرات. ومن بينها ما روته السيدة تويديل في كتابها الأشباح التي رأيتها وهي سيدة مصدقة منة الثقات. فقد روت تلك الكاتبة أنها كانت تسكن يوماً في بيت قديم في غربي لندن. ففي ليلة قرة من ليالي الشتاء وإنها لمغفية بين النوم واليقظة. إذ سمعت صوتاً أشبه بتصفيح أوراق كثيفة ففتحت عينيها وإذ ذاك رجلاً جالساً في مقعد أمام الموقدة المشبوبة. وكان في ثوب عسكري من الطراز الذي كان يلبس في أيام القائد نلسون ذي أزرار نحاسية. وكان الرجل مجيلاً البصر في النار المشبوبة أمامه. وهو ممسك بإحدى يديه عدة أوراق وكان جميل الطلعة رائعاً غيسانياً. وظل ساعة في مجلسه ودخان النار متصاعد من فوق الأزرار النحاسية. ولبث كذلك حت الساعة الأولى من الصبح فاختفى بالتدريج. ورأت السيدة الشبح بعينه عدة مرات ولا مشاحة في أن الشبح كان دائماً في مكانه. وإنما رؤيته كانت تتوقف على حالة السيدة المشاهدة. وهذه الحادثة تشرح رأينا في أن ذلك الشبح إنما كان صورة ذهنية ظلت بالمكان الذي وقعت عنده الحادثة. فإن تلك الأوراق التي كانت في يده توحي إلى الإنسان إنها كانت وصية أو أوراقاً ذات أهمية كان ذلك الضابط بعدها أو كان تلقاها. وكانت قد أحدثت له مشاغل وآلاماً ودليل ذلك جلوسه أمام النار مفكراً واجماً سارحاً في التفكير.
وهنا أضرب لكم مثلاً من أعجب الأمثلة التي دونت منذ بضع سنين ونشرت في مجلة الوايد ورلد وأنا على أتم الاعتقاد بأن تلك القضية حقيقية، وقامت على أساس متين من الحقائق. وتفصيل تلك القصة إن سيدة وأطفالاً لها كانوا يسكنون بيتاً منفرداً منعزلاً على ساحل البحر وقد أزعجهم شبح جعل في ساعة معلومة من الليل يهبط سلالم البيت ثم يختفي في حجرة الطابق الأرضي في البيت. وكانت السيدة على شيء من الشجاعة فأجمعت النية على أن تجلس لانتظار رؤية ذلك الشبح فما لبثت عند حلول الميعاد المعلوم أن رأته أمامها وتبينت ثم رجلاً قزماً شيخاً في ثوب بال عتيق يحمل حذاءيه في يديه غير منتعل وهو يخرج نوراً أصفر براقاً. فجعل ينزل مدارج السلم بخطى ثقيلة بينة الوقع فعزمت السيدة أن لا تكاشف أحداً من أهل البيت بالأمر ولكن مرضعاً في الدار لطفل من أطفال السيدة جاءت تصرخ وتصيح قائلة أنها رأت في البيت رجلاً عجوزاً مخيفاً وقد رأته وهي تنزل السلم إلى قاعة المائدة لتحضر قدحاً من الماء وشهدته عياناً وقد جلس إلى مقعد وجعل يخلع نعليه وقد تبينته من النور الذي كان معه لأنها لم تجد من اضطرابها وقتاً لإشعال عود الكبريت. فقام وزوج السيدة وأخوها بتحقيق الأمر فوجدا أن هناك تحت البيت قبواً أو مخزناً كان يؤدي إلى مغارة أو كهف يتصل بمياه البحر فدل ذلك على أن المكان كان معداً لتهريب البضائع. فقام الزوج وشقيق السيدة بتحقيق الأمر ومشاهدة ذلك القبو. وإذ ذاك رأيا أشنع منظر وشهدا أرهب مشهد. وجدا رجلين في صراع مخيف وشجار رهيب. وتغلب رجل منهما على الآخر فصرعه إلى الأرض وقتله ثم حمل جثته إلى الكهف وراح يدفن السكين في حفرة في الأرض. وكان الزوج هو الذي تمكن وحده من رؤية الرجل وهو يدفن السكين وأغرب ما في الأمر أن الزوج أخرج فعلاً سكيناً من أرض الكهف بعد ذلك. وشهد الرجلان بعد هذا الحادث القاتل يمر بهما فتبعاه ودخل قاعة الطعام فشرب كأساً من الخمر ثم خلع نعليه وحملهما في يده وصعد السلم ودخل حجرة من الحجرات واختفى. وكانت تلك الأفعال تحدث منه كل ليلة يرقبانه فيها.
فانتهى منهم البحث إلا الاستدلال على أن البيت كان يسكنه منذ عدة سنين إخوان جمعا ثروة طائلة من وراء التهريب وكانا يجمعان المال على نية المشاركة فأراد أحدهما الزواج فطلب أخذ نصيبه من الثروة ولكنه لم يلبث أن اختفى فجأة وأشيع عنه أنه ركب البحر في سفرة طويلة وأعقب ذلك أن الأخ الثاني لم يلبث أن جن. ولم يظهر سر اختفاء أخيه في حياته البتة وهنا نقول أن الحجرة التي دخل فيها الشبح كانت تحوي دولاباً لعله كان خزانة المال الذي جمعاه من تهريب البضائع. والغالب على الظن أن حمل الرجل نعليه في يديه كان باعثه أن القاتل يخشى حارس البيت ويخاف أن يسمع وقع أقدامه في هدأة الليل.
من هذه القصة نستطيع أن نتصور أنه في تلك المجالدة الأخوية المخيفة كان الرجلان في أشد ثورة العواطف حتى تركت أثراً في لوحة المكان الذي وقعت فيه. وهذا الأثر ظهر جلياً لكل من السيدة والزوج والممرضة والأخ. لأنهم جميعاً رأوا الشبح مما يدل على أن صورته كانت لا تزال متينة لم تتغير وهنا نقول أن القصة مثل من الأمثلة الدالة على وجود صور ذهنية تنطبع فوق لوحة الزمن والمكان في أوقات الشدائد وثوران العواطف. وإنه كلما كانت العاطفة شديدة عند وقوع الحادث. كان الشبح أثبت على البقاء عدة سنين.