مجلة البيان للبرقوقي/العدد 55/سلطان مضحك
→ أشعار منثورة | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 55 سلطان مضحك [[مؤلف:|]] |
الملوك ورؤساء الجمهوريات ← |
بتاريخ: 1 - 5 - 1920 |
مولاي الحفيظ ومضحكاته
يعرف الشرقيون مولاي الحفيظ سلطان مراكش السابق، وما كان من تنازله عن الملك، وتركه السلطان لفرنسا، ونحن نذكر القراء بما نشرناه عنه من قبل يوم ضرب الموعد لاستلامه المبلغ المتفق عليه وقدره أربعون ألفاً من الجنيهات من القائد ليوتي: المعتمد السامي في مراكش. على أن يسلمه عهد التنازل. فقد وقف السلطان أمام القائد يحمل عهد التنازل في يد ويمد الأخرى إلى الجنرال لتناول المال. وجعل يمد يده بعهد التنازل ثم يراخيها. ويبسطها ثم يقبضها. خوفاً من أن تكون ثمت خديعة يراد منها أن سيحب منه التنازل ولا يقبض المال المتفق عليه.
ولقد كان منظراً مضحكاً. ومشهداً آية في الغرابة. إذ وقف الحفيظ هكذا كالأطفال. لا يريد أن يتنازل عن القرش حتى يعطى قطعة الحلوى.
وقد كان ذلك على ظهر سفينة من سفائن الفرنسيس وكانت النية في ذلك أن يسافر الحفيظ إلى جبل طارق ومنها على صدر المحيط إلى فرنسا تنزهاً وترويجاً عن نفسه وأبعاداً له عن مقر ملكه الذي باعه في سبيل مال قليل لا تباع به العروش.
وقد وصف أحد كتاب الإنجليز ما كان من الحفيظ في رحلته من عجائب خلقه. ومضحكات أطواره. وكان ذلك الكاتب مسافراً في السفينة يعنيها إلى باريس. وكان قد أقام ردحاً من الزمن في مراكش وعرف الحفيظ واختلط به. وقد نشر تلك. المذكرات عنه في مجلة كبري من مجلات الإنكليز. ولغرابة موضوعها. واحتوائها الكثير من الفكاهة والمجون. آثرنا أن نطوف بها قراء البيان.
- * *
قال الكاتب: وصلت بنا الباخرة في اليوم التالي وعلى صدرها السلطان. إلى جبل طارق. وقد اتفق لكاتب هذه السطور أن ان عائداً من مراكش إلى موطنه في إنجلتره عن طريق فرنسا. وكان يريد أن يرحل في سفينة أخرى. ولكنه أراد أن يودع صحابة له من حاشية السلطان والموظفين الفرنسيين المسافرين في حراسته على ظهر السفينة قبل ارتحالها. وكانت الرغبة أن يتجنب رؤية الحفيظ ويتحاشى لقاءه لأن السلطان كان منه مغضباً. ووقع بينه وبين الكاتب شجار طويل في فاس قلب السفر بنحو خمسة أشهر إذ جعل الحفيظ يصب جام غضبه الملوكي على الكاتب لنشره المقالات الضافية عن الفظائع التي كان الحفيظ يرتكبها في مراكش قبل اعتزاله. ولذلك نزل السفينة وهي بالساحل راسية ليودع أصحابه وهو متحرش أن يرى السلطان مخافة أن يصب عليه غضبه مرة أخرى. ولكن السلطان ما كاد يلمحه وهو يخطو إلى السفينة حتى أسرع إليه فعانقه أحر عناق بين صديقين ودودين وقال لمن حوله أنه إذا لم يوافق كاتب هذه السطور على السفر معه في حاشيته. فليس على الحفيظ إلا أن يعلن أنه في منطقة المياه البريطانية ويرفض التقدم خطوة واحدة.
كان المركز حرجاً، والمأزق صعباً، فتشاور الموظفون الفرنسيون فيما بينهم، وعرضوا عليّ الفكرة فأينت لهم أن خطتي قد وضعت، ولا أستطيع تغييرها، ولكن السلطان ظل على إصراره، فوقع المندوبون الفرنسيون في حيص بيص وجعلوا يرجون إليّ أن تنازل عن فكرتي وأسافر معهم فلما رأيت الأمر ازداد حرجاً، لم يسعني إلا القبول، فبدأت ثرثرة السلطان، وفرح بالأمر، وارتضى السفر وما كاد النهار ينتصف حتى كنا مغذين السير إلى مرسيليا وقد أدركت السبب الذب من أجله أبى السلطان إلا أن أكون معه، على الرغم من شدة كراهيته لي، ذلك أنه كان مضطرباً منزعج الأعصاب، متوهماً أنه كان معتقلاً، وإن النية فيه أن يؤخذ إلى فرنسا فيزج في غيابات السجن، ولهذا أراد أن يكون من بين حاشيته رجل إنكليزي أو رجلان، ليكونا شاهدين على ما يكون من الفرنسيين معه، على أنه لم تخطر هذه الفكرة بأذهان الفرنسيين البتة، ولم تكن على بال الحكومة الفرنسية.
وبعد يومين وصلت الباخرة مارسيليا فاستقبل السلطان استقبالاً رسمياً إذ علقت الأعلام. فوق الميناء وخفقت الرايات. واصطف حرس من الفرسان وصدحت الموسيقى العسكرية بالتحية. وعلى أن مولاي الحفيظ لم يكن معروفة في فرنسا. فقد لفتت رحلته أنظار الشعب الفرنسي واهتم القوم به وبتحليل شخصيته. وكان إذ ذاك النجم المتألق. وظهرت صورته في الصحف ونشرت سياحته وبرنامج زيارته في الجرائد واجترأ مصنع من مصانع الأساور فملاً حيطان الحانوت بصور الحفيظ وهو يلبس تلك الأساور.
وكان مولاي الحفيظ على الرغم من عدم اكتراثه بسرعة السيارات التي نركبها شديد الجزع من سرعة القطار وكان من الصعب إقناعه بوجوب ركوب القطار إلى مدينة فيشي للاستحمام بمياهها المعدنية المشهورة فإن المسافة شاسعة والسفر مع حاشيته الكبيرة والضباط الفرنسيين الكثيرين شاق بالسيارات. فبعد أيام ثلاثة من مقامه بمارسيليا ركب المركبة الخاصة به في القطار الذي أعد له ولحاشيته وحرسه ليقله إلى ذلك المصطاف الجميل فما كاد القطار يترك إلافريز وينهب الأرض نهباً. حتى جزع السلطان واضطربت أعصابه واشتد قلقه ولم يستطع أن يكتم خوفه ويسر جزعه فلما زاد القطار سرعته. صاح السلطان طالباً إيقاف القطار وقال أنه يؤثر أن يصل إلى فيشي سعياً على القدم من أن يظل دقيقة واحدة في ذلك القطار اللعين. وبلغ جزعه الحد الأقصى. وتناهت مخاوفه. إذ بلغ القطار فسرب فيه وما لبث أن جري في ظلمة طخياء وحلكة شديدة وكان منظر السلطان يستثير الشفقة فقد جعل يتشبث بذراع الضابط الفرنسي الذي كان بجانبه والرعب في عينيه وهب لا ينفك يصيح. قل لهم أن يوقفوا القطار. لماذا لا تأمرهم بإيقاف القطار: وكان رعب حاشيته من المراكشيين أشد ظهوراً. إذ جعلوا يصرخون ويتماسكون ويتشبثون بعضهم ببعض خوفاً وهولاً ثم ما لبث القطار أن نفذ من النفق فعاد يجري في أرض سهلة وضياء منبسط فاستوى السلطان في مجلسه وسرى عنه. وذهب الروع، وراح يقول في لهجة عظيمة جريحة متألمة تكرم بكفهم عن هذا العمل!
قال الضابط: أخشي أن لا يكون ذلك ممكناً.
فقال السلطان: ولماذا
قال الضابط: لأن القطار لا بد من أن يجري في سفح الجبل
فنهض السلطان من مجلسه وراح يقول: إذن فيجب أن يقف القطار عن المسير وسأمشي فوق الجبال حتى الحق به عند تركه هذه الجهة.
فصاح الضابط مقاطعاً مبيناً للسلطان مقدار المسافة: فلم يكن من السلطان إلا أن قال لا اتهمني المسافة أصلاً: فإنني أفضل أي شيء غير هذه الالآم التي يحدثها لي القطار.
فبعد لأي استطاع القوم الذين حوله أن يقنعوه بالرضي بالسفر فأذعن صابراً: ولكنه لم ينفك طول المساء يلعن مخترع القطارات وبناة السكك الحديدية ويشتم مخترعي الفق خاصة وبفردهم بذمه ولعناته. وحدث عن الأشياء الكثيرة التي جعل يشتريها الحفيظ ولا حرج ففي ذات يوم ونحن في فيشى معه انطلق السلطان فزار ضيعة قريبة من الموضع وأصر على أن يطوف خلالها ويجوس بين ديارها وأرباضها حتى جاء إلى مكان اجتمع فيه قطيع كبير من الماشية فقرر السلطان ابتياع القطيع برمته ودفع إلى صاحب النعم بطاقته (كرته) وقال: لترسل الأغنام بهذ العنوان الليلة وكان العنوان الذي ذكره في البطاقة، فندق ماجستيك وهو أبدع قصور فيشى وفنادقها الفخمة، فما كادت تؤذن الساعة الحادية عشرة من تلك الليلة بعينها. وهي الساعة التي يكون الفندق فيها في أشد حركته، والنازلون به في أشد سمرهم، وأعز حوارهم وطوفاتهم حتى جاء صاحب الفندق إلى وأخبرني بأنه قد وصلت إلى الفندق سبع وعشرون بقرة بيضاء على غير انتظار وقد ادخلت رحبة الفندق وهي إذ ذاك به، فرأيت ثم أبقاراً بيضاً غلاظاً، تجري مصطدمة متدفعة في وسط عشرات من السيارات وهي في خوار وصياح، والخدم حولها مزدحمون بفصلون بعضها عن بعض، تلك كانت صفقة السلطان، ولا أعلم أين كان مبيت تلك الأبقار في تلك الليلة، ولكن اضطر صاحب الفندق في اليوم الثاني أن يجد لها مكاناً صالحاً.
وكان السلطان يتناول العشاء في حجرة الطعام الكبرى في الفندق، وقد أعدت له مائدة متعالية حتى يكون على مستشرف من الآكلين جميعاً - وهم صفوة أهل باريس، وخيرة النجوم المتألقة في الحياة، وأعمدة المجتمع التسامية، ففي ذات مساء، والقوم صافون حول الموائد والسلطان إلى المائدة جالس، إذ جعل ينظر نظرات ذهول وشرود ذهن إلى الجلاس وبرتو إليهم رجل مشفق عليهم. راث لحالهم، وكان قليل الكلام، ملازم الصوت وأخيراً استدعي صاحب الفندق فهرع إليه الرجل في أدب وشدة إجلال فلما وقف أمامه راح الحفيظ يقول وهو يشير إلى جمع الجالسين في المائدة: إن هذا الجمع موزع اسوأ توزيع، وكثيرون منهم لهذا الترتيب السيء متألمون، يبدو عليهم الحزن، وتتجلى شيماء الكآبة على معارفهم، فلنعمل على ترتيبهم كما يجب فإن هذا الرجل العجوز ذا اللحية الشهباء المستطيلة لا حق له في الجلوس بجانب تلك السيدة الشابة الحسناء ذات القبعة الطويلة الجميلة والعقد اللؤلؤى المتلألئ - فإن ثمت فارقاً فظيعاً بين عمريهما، فيجب أن تجاس بجانب ذلك الضابط الفتى الجالس هناك: وأشار إلى مائدة أخرى - لأن السيدة العجوز التي تجلس بثيابه - وكأنها أمه وخالته - هي التي ينبغي أن تكون جلية ذلك العجوز ذي اللحية البيضاء. ألا ينبغي لك أن تمهد السعادة لضيوف فندقك، وتعمل على راحة النازلين بدارك وهنا أشار إلى جهة أخرى من الحجرة، والآن ألا ترى تلك السيدة الجالسة هناك تبدو حزينة متألمة، وقد جعلت تضرب الصحفة التي أمامها بطرف شوكتها دون أن تمس طعاماً، ويلوح لي أنها كارهة الجلوس بجانب الرجل الذي بجانبها ولعله زوجها. أنني مراقب حركاتها طول هذه المدة وقد رأيتها تنظر إلى الفتى الجميل الذي يجلس هناك وحيداً بفتل شاربه فاذهب وقم بواجب تعريفها بعضهما فإن زوجها لم يخاطبها بكلمة واحدة كل هذا المساء فاذهب وافعل كا أشرت عليك، وبذلك تجعل من مخلوقين محزونين إنسانين سعيدين فرحين فإذا ساء الزوج ذلك، واسوحش العزلة فادع إلى الجلوس بجانبه تلك السيدة ذات الفروع الحمراء التي تخالسه النظرات. وإذ ذاك تستطيع أن تشغله عن زوجته.
هذا التقسيم جميل بلا شك ولطيف الغاية، ولكن للأسف لم يكن في إلا مكان إنفاذه وكانت الأيام التي قضاها السلطان في فيشى غائمة سوداء لا تطالعها شمس، ولكن لم تلبث الشمس أن أعلنت نفسها فكان صباح جميل ناضر، فرأى السلطان أن يغير المكان الذي اعتاد المكث والمبيت، فوجد في الناحية المقابلة حجرة ذات شرفة ازدانت بالأزاهر، فدخلها وفي أثره غلمانه وخدمه، ولما رأى الشرير فيها أمر الغلمان بأزاحته إلى جانب الناقدة المؤدية إلى الشرفة، وجلس هو على الزرابي في الشرفة جلسة القرفصاء وراح يطل على الشارع. على أن تلك كانت السيدة نبيلة من الروس وكانت قد ذهبت إلى الحمام لتبترد، فلما انتهت من الاستحمام دخلت الحجرة متفصلة من ثيابها ليس عليها إلا ثوب الحمام فإذا بها أما رجل شرقي أسمر المعارف، وحوله غلمان سود، وخدم في القفاطين، فذعرت السيدة، ولكن السلطان قابلها بأشد الاحتشام، وألطف عبارات التأدب، ودليل الأدب أنه عزم عليها إلا ما جلست بجانبه على الزرابي. فقابلت السيدة ذلك بالتلطف ولولا ذلك لازداد الأمر حرجاً، ودعى كاتب هذه السطور في الحال لفض المشكل، فانفض على خير وجاء زوج السيدة فجعل الزوجان يضحكان من هذه المباغتة المسرحية.
ومثلت ليلة في الأوبرا تحت رعاية السلطان وكانت الرواية غنائية، وأنتم تعلمون أن الغناء في مراكش أو قل في الشرق عامة يختلف والغناء الفرنجي أشد الاختلاف، وكان المغنى في تلك الرواية رجلاً جهيراً ذا صوت كالرعد، غما كادت الأوركسترا تعزف وتعينه على القطعة الثانية، حتى انفجر صوته فملأ قاعة الملهى وجوها كله. فاضطرب السلطان الحفيظ إذ لم تفعل فيه الموسيقى الأثر الذي فعلته في الجمهور. ولم يقهم من كل هذه الصيحات الغنائية والإشارات التي جعل الرجل يصحبها بالغناء إلا أن الممثل كان مريضاً يحس آلاماً شديدة ولا سيما أنه كلما رفع بالغناء عقيرته. راح يلوح بذراعيه في الهواء، ثم يدنيهما حتى يمسا معدته. فلما رأى السلطان الرجل مسترسلاً في الصياح. لم يلبث أن نهض من مجلسه مذعوراً وصاح. أين الطبيب، أين الطبيب، ليذهب لاستدعائه رجل منكم فلعله مستطيع أن ينقذ حياة هذا الرجل المسكين: وما كاد ينتهي من عبارته حتى أرسل عينيه تدوران في الملهى تبحث عن الطبيب وهو في أشيد الجزع على المغني ولكن بعد أشد الجهد استطعنا أن نقنع السلطان بأن الرجل ليس مريضاً بل كان يغني لتسلية الجمهور. ولكنه لم يصدق بتة وجلس برهةً ثم سئم الغناء وسماعه فترك المكان قبل أن تنتهي الرواية، فلما كان اليوم التالي سألني عما حدث في الفصل الأخير فلما نبيء بالختام المحزن الذي وقع لجميع أشخاص الرواية. لم يكن منه إلا أن قال أنني آسفت على تركي الملهى قبل النهاية ولو كنت مكثت لاستدعيت صاحب دار التمثيل في الحال وأصررت على أن يكون ختام الرواية ساراً مفرحاً فإن ذلك الجندي في الرواية كان يجب أن يتزوج السيدة ذات الثوب الأبيض. وتلك المرأة العمياء كان ينبغي أن يبحث لها عن طبيب يرد عليها بصرها: وكنت قديراً على أن أنقذ الرواية من كل هذه المصائب. . .