مجلة البيان للبرقوقي/العدد 55/النهضة الإيرلندية
→ عجز الذهن البشري | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 55 النهضة الإيرلندية [[مؤلف:|]] |
روح الإسلام ← |
بتاريخ: 1 - 5 - 1920 |
شيء عن حزب السين فين
قد أضحى العالم بأجمعه يعلم نبأ النار المشتعلة في تلك الجزيرة ثالثة ثلاثة الممالك المتحدة البريطانية. وهي ايرلندة. والحركة الثائرة القائمة في أرضها النزاعة بأهلها إلى الاستقلال ولكن قليلين من الناس الذين يدركون معنى كلمة السين فين التي تطالعهم في كل يوم من أنهار الصحف. والرّوح التي تنطوي تحت تلك اللفظة. والمبادئ التي تتوخى منها. والأغراض التي يسعى الساعون باسمها. ولهذا آثرنا أن نوجز في المقال الآتي تاريخ تلك الحركة حتى يكون القراء على بينة منها.
- * *
معنى كلمة السين فين في اللغة الايرلندية بالحرف الواحد نحن انفسنا ولما كانت هذه الكلمة تطوي تحتها النهضة النزاعة إلى استقلال ايرلندة، لم تلبث أن أصبحت اسماً للحزب الجمهوري في تلك البلاد. وهذا المعنى الذي جثا اليوم هو الذي سيدون في معاجم الغد، ويدرج في قواميس لغة الحرية في المستقبل.
وأول ظهور هذه الكلمة في عالم الدنيا كان عام 1904 - أي منذ ستة عشر عاماً وكانت تدل على كثير من المعاني، وغلب عليها جملة من التطورات، وتشعبت فيها المطامح والأغراض، حتى أضحت لها المكانة التي تمت لها اليوم.
وقد شرحت المبادئ التي يقصد إليها من كلمة السين فين والحركة الناهضة من جوانبها في أبحاث عدة وسمت بعنوان أبحاث في عودة المجر إلى الحياة ونشرت عام 1904 في صحيفة سيارة اسمها الايرلندي المتحد وقد وصفت الحركة المجربة لنيل الاستقلال في تلك المباحث بأنها نتاج ثورة منتصرة ناجحة لم يسفك فيها دم ولم تسل في سبيلها نفوس، ولم يطح فيها بأرواح وأبدان. وعزيمة صارمة في شعب مظلوم أبي ألا أن ينكر سيادة الأقوياء عليه، ويخلع عنه سلطان الجبروت الذي يريد أن يتحكم في حياته، ورغبة شديدة في العمل بنفسه لإصلاح شن بلاده من جميع الوجود الأدبية والاقتصادية والسياسية، وقد حض بها كاتب تلك المباحث أهل جلدته وأبناء وطنه الايرانديين أن يحتذوا هذا الحذو ويتبعوا تلك المبادئ بعينها، فأغرى ايرلندة بأن تكف عن إرسال مندوبين عنها في البرلمان البريط وتمتنع عن دفع الضرائب إلى الخزانة البريطانية والالتجاء إلى قضاة المحاكم البريطانية وإدارتها وتقليد الانجليز في مبادئ الأخلاق وفي الآداب وفي حركة العلم وفي تيار الشعر والنثر. وبذلك كله تصبح ايرلندة قائمة بذاتها وتكتب بيدها في لوحة التاريخ ايرلندة الحرة بلا انجلترة.
ذلكم الكاتب القوي العظيم الجبار الروح الذي كان القائد الأول من قواد النهضة، والجندي السائر في الطليعة، كانا رجلاً بسيطاً يدعى آرثر جريفيس وهو فتى ملتهب الروح. ناضج الذهن، اجتمعت فيه الروح السلتية بالخيال الايرلندي، وكان رئيس تحرير تلك الصحيفة الأسبوعية، التي كانت تعيش في العن مظاهر الفقر عام 1903، في شارع مهجور من شوارع عاصمة ايرلندة، حتى لقد وصفها أحد الكتاب الفرنسيين الذين اتفق لهم رؤيتها في ذلك الحين فقال إن إدارة تحرير تلك الصحيفة لم تكن إلا حجرة صغيرة ضيقة الجوانب، لا ينفذ إليها بصيص الضياء إلا من نافذة واحدة قد استعيض عن زجاجها صحائف الجرائد، ولا تحتوي من الأثاث إلا كراسي قذرة علاها الماد والصمغ والتراب وقد علل فقر تلك الصحيفة كثيرون بسوء حالها وقلة دخلها. وآخرون زعموا أن أصحاب الصحيفة أنفسهم هم الذين أبوا إلا أن تظهر بهذه الحال الرثة، وتبدو بذلك مظاهر الفقر، حتى لا تقع أدوات المكتب وأثاثاته إن احتوت منه الشيء الفخم والمظهر الغني في أيدي الشرطة وتحت طائلة القانون الذي كان يصادر الصحف التي تكتب في حدود التطرف وتنشيء المقال الثائر المخيف من تلكم الحجرة الصغيرة.
ومن وسط مظاهر ذلك الفقر الشديد والرثائة البادية راحت إذ ذاك كلمات ذلك الكاتب تخرج ملايين من أهل ايرلندة إلى النور وتشيع في أجزاء الإمبراطورية كلها، وتنتقل في ندوات البرلمان. وكان ذلك الرجل يكتب فكأنما كان محامياً أصولياً مدرها يحمي عن الحق، ويبسط مبادئ القانون، وكأنما كان قاضياً يصدر حكمه من دست القضاء.
وكان المجمع الغالي في ذلك (نسبة إلا بلاد غاله - وبلس) العهد قد أعاد ماضي اللغة وأقر رجعتها الايرلندية إلى البلاد، وأسس الروح الغالية القديمة، ولكن كان الفلاحون والزارعون الصغار في الوقت نفسه منكبين على شراء الأراضي والانتفاع بالمخترعات الحديثة الزراعية في الاستثمار والاستكثار حتى أصبح لا هم لهم إلا الأرض تخرج لهم الحب يكنزون بثمنه أموالهم، ويملأون خزانتهم، حتى لم تلبث البلاد أن احتوت جمهوراً من المزاعين المترفين المتبلدين المتناسين حركة الاستقلال والعمل للحرية، وكذلك تنازعت المادية والمبادئ الروحية العالية ووقعت بينهما الحرب. ونشب الخلاف وتركت مقاليد النهضة السياسية في أيدي قوم من أهل الصناعة وقصروا سعيهم على طلب الهوم رول حتى ذهبت الطنون إلى أن جماهير الشعب الايرلندي لا تجد روحاً إلى الاستقلال ولا نميل بقلوبها إلى طلاب تحقيق النهضة، وفي الحقيقة لم يتبع الحزب البرلماني من أهل ايرلندة المبادئ كلها التي كان يسعى إلى تحقيقها جملة لشعب ولم يرعوا حق تلك الرغبة الايرلندية في وستمنستر وفي مقاعد أهل البرلمان من الايرلنديين كماليتها السماوية والروحانية العالية التي تتجلى من ناحيتها في بلادها، والإلهية التي تشع على الناس من سماء كلمة الحرية الجميلة ولم يلبث أن عدت مبادئ الكاتب الأول، والجبدي الحي الآنف آرثر جريفيس، واضع أساس النهضة، وراسم خطة السعي - مبادئ طوينية خيالية، وأمثلة عليا لا سبيل إلى بلوغها.
على أنه في اليوم الثامن والعشرين من شهر نوفمبر عام 1905 انتدبت طائفة صغيرة من زعماء الوطنية الايرلندية وألفت المجلس الأهلي وطلبت إلى جريفيس أن يضع البرنامج الوطني الذي ينبغي العمل على إنفاذه ورسم الخطة العملية الخليقة بالتحقيق فقام الرجل بإلقاء مباحث ومحاضرات عن ذلك وكانت كلمة سياسة السين فين أول ما ظهرت على شفتيه، وجرت في مباحثه.
ولم تكن تلك الندوة يوماً من الأيام منذ نشأتها الأولى جمعية سرية، أو شرذمة من الناس يعملون في الظلام وتحت أستار الدسائس. بل كانت تتألف من أندية صغيرة منتشرة في جميع أطراف أيرلندة. مفتحة أبوابها للقصاد. مجاهرة بمبادئها وأغراضها. معلنة مقاصدها ومساعيها. وكانت كلها تحت اسم واحد وهو ندوات السن فين وما كاد يحل عام 1907 حتى كان منها في أيرلندة كلها سبعون نادياً ولم تلبث صحيفة الأيرلندي المتحد التي مر بك ذكرها أن غيرت اسمها فراحت تنادي في ذلك الوطن الملتهب لمعنى الحرية صحيفة السين فين وأضحت يومية سيارة عدة أشهر في عام 1909 واجتمعت نية الوطنيين على إصدار طوابع للبريد خاصة بأيرلندة مختلفة عن الطابع البريطاني. ولكن لم تلبث الأموال التي خصصت لأغراض تلك الحركة أن نفذت. وضعف شأن الحزب الأيرلندي المعين في البرلمان. وقامت ثائرة المتطرفين والاشتراكيين، ففقدت نهضة السين فين مكانتها الكبرى التي كانت لها. وذهبت ريحها. فتولى عنها. وتفرق القوم. ولم تعد ندوات السين فين تلفت أنظار الإنسانية والعالم المتحضر - على أن دور النشاط الثاني وعهد الحمية والعمل والسعي، لم يلبث أن أقبل عام 1913 فظل باقياً مستحراً حتى عام 1916 وهو دور الأيرلنديين الذين تطوعوا للجندية، ودخلوا في غمار القتال طواعية واختياراً. يومئذٍ لعبت أحزاب السين فين دوراً خطيراً في سبيل الاستقلال. فإنه لما أصبح التصويت للهوم رول أمراً محققاً. قرر أهل ولاية بلفاست أن ينفذوا بالقوة والاقتسار قانون الاستقلال الذاتي ولهذا أنشأوا جيشاً من المتطوعين الالتريين من جراء الحرب الداخلية التي أثارتها الحكومة الوقتية تحت إشراف السير ادوارد كرزون. ثم جمع الاشتراكيون من ناحيتهم كذلك جيشاً آخر من أهل دبلن سموه الجيش المدني وفي الحال أعدوا العدة لتعليمه واستمدوا له الذخيرة واللباس. وجعلوه على الطراز الأخير من فن قيادة الجيوش.
فلما نشبت الحربر الأوربية اقترح جون ردموند على وزارة الحرب الانجليزية أن تحول فرقة الأيرلنديين المتطوعين إلى فرقة مقيمة في انجلترة لا تبرحها لحماية الأرض والدفاع عن الحمى والذمار ولكن اللورد كتشنر قابل المقترح بالرفض استكباراً وأنفة واعتزازاً، فنصح النواب الوطنيون الأيرلنديون لجنود تلك الفرقة ورجالاتها أن يخرجوا من سلكها ويندمجوا في جيش الإمبراطورية التي منحتهم الهوم رول والتي جعلت تقول أنها تدافع عن حرية الشعوب. وكذلك سلك كثيرون أنفسهم في الجيوش المتدفعة إلى الحرب وأسدل الستار يومذاك على الهوم رول إلى أجل مسمى على أن زعماء إيرلندة رأوا أنه قد خدعوا عن أمرهم وأن أيرلندة لم تكن من بين الشعوب التي من أجلها شبت نار الحرب في الغرب لمنحها حريتها، وفك رقبتها من أغلال الاستبداد وأنه خليق بهم أن يكون السعي لتحرير بلادهم في أرضهم والجهاد للحرية فرق ثري وطنهم فأعادوا إنشاء جيشهم الأول ألذي أصبح العالم كله يعرفه باسم جيش السين فين ولم بكن في صفوف ذلك الجيش كثيرون من شيوخ السين فين الأولين، وإنما كان فيهم قلائل من الجمهوريين نخض بالذكر منهم العالم الأيرلندي ماكتيل والأستاذ دي فلبرا ومؤسس جامعة سارت انده ونعني به باتريك بيرس وقد احتذى الزعماء الجدد حذو الأولين فجعلوا يثيرون الحرب على إنجلترة ويطلبون فصل أيرلندة عنها الفصل التام. وإنشاء جمهورية أيرلندية على أنقاض البناء الأول.
ولا تظن العالم قد نسي القتال العنيف الذي وقع عام 1916 يوم ثار فتيان أيرلندة وهم نحو ألفي رجل فاحتلوا جزءاً كبيراً من عاصمة البلاد ونادوا بالجمهورية الأيرلندية وجعلوا يقفون أمام جيش منظم ويقاومون مدفعية شديدة النيران وظلوا وقوفاً أمام تلك الشراذم التي تفوقهم عدداً عديداً أسبوعاً كاملاً حتى استشهدوا والابتسامة الحلوة العذبة ابتسامة الاستشهاد في سبيل الحرية - تجري على شفاههم في محضر الموت. ورفعوا إلى أداة الإعدام. والمقصلة مصلته. والمنون متداينةز وهم فرحون لا تفتر ثغورهم عن الابتسام. وأما الشعب الأيرلندي - إن لم يظهر إعجاباً بتلك الثورة الطائشة المستميتة فقد أبدى إكباره الأعظم لبطولة أولئك الفتيان ولقد شهد لهم بتلك البطولة أعداؤهم. كان من وراء تلك الثورة أن ضرب خمسة وعشرين من الزعماء بالرصاص ومن بينهم الزعيم توماس كلارك ذلك الوطني المغوار اذي جعل طوال حياته يشتهي أن يلقي تلك المنية الحلوة. وضربت رقاب كثيرين، منهم في الربيع العشرين. ماتوا جميعاً وظل الابتسامة الناضرة التياهة المدلة ببطولتها يجري على أفواههم.
وحكم على الشاعر الأيرلندي الجميل يوسف بلا نكت بالإعدام وكان إذ ذاك خطيب عروس حسناء. ففي الليلة السابقة لموعد شنقه انسلت العروس تحت ستار الظلام إلى السجن ومعها قسيس فعقد للعروسين وتم الزواج. وفي الغداة سقط ذلكم البطل قتيلاً إذ بدت أمينة عن كثب زوجه وهي في إطار حفلة العرس والأزاهر حافة بها.
كان موت أولئك الأبطال وزج إخوانهم في غيابات السجون ونفي رفاقهم وتشريدهم في الأصقاع النائية. والبلاد البعيدة. صفحة أخرى في كتاب الذكريات الوطنية التي يكتب منها تاريخ أيرلندة المجيد. وكان تقتيلهم سبباً من الأسباب التي دفعت السواد الأعظم من الشعب الأيرلندي إلى الرغبة عن الهوم رول. وإنشاء السين فين - علم الجمهورية الجميلة المبتغاة.
- * *
منذ ذلك العهد أصبح السين فين حزباً سياسياً كبير الشأن كبير الخطر، واتخذ مركزه مدينة دبلن وانتشرت منه ندوات فوقعت في جميع بلاد أيرلنده وحواضرها أضحى المبدأ الأوحد الذي تعمل جميعاً له هو أيرلندة بلا أنجلترة، وجمهورية على أنقاض العبودية، وأصبح الزعيمان جريفيس ودي فاليرا يضعات أيديهما على هذا العمل لا كبر.
فلما كانت انتخابات ديسمبر سنة 1918 انتصر في الانتخاب أعضاء السين فين على مزاحميهم وأصبحوا أعضاء الحزب الأهلي الأكبر، وأصر الأعضاء المنتخبون وهم أحد بني وطنهم أخلاصاً، وأكبرهم نفوسها - على مبدأهم وهو أن لا يجلسوا في مجالس البرلمان الإنجليزي ولا يشغلوا منه المقاعد، ولا تكون لهم في تلك الندوة أشباح، ولذلك اجتمعوا في شهر يناير عام 1919 فأنشأوا مجلساً وطنياً يدعى في اللغة الأيرلندية (الديل إيربين) ونشر ذلكم المجلس دعوة بالاستقلال ونادى بتأسيس الجمهورية الأيرلندية.
ثم قر بعد ذلك القرار على إرسال نائبين إلى باريس ي طلبان إلى مؤتمر الصلح سماع القضية الأيرلندية. ووقع الاختيار على الزعيم جون أوكلي رئيس ذلكم المجلس وكاتب من مشهوري الكتاب، وبطل من الأبطال جرج في تلك الموقعة التي مر بك بيانها. والثاني جورج دوفي النائب عن دبلن وهو رجل من كبار أهل القضاء. وانضم إليهما ثلاثة زعماء من قبل أيرلندي أمريكا وهم الذين قووا شوكة النهضة، وأيدوها بالحمية والنشاط، وهم فرانك والش وادوارد ون من حكام الولايات المتحدة الأسبقين ثم ميشيل ريان. على أن المؤتمر لم يستمع لهم. ولم يتقبلهم. ولم يرتض زيارتهم، بل لقد كان من كليمنصو أن رفض مقابلة مدام دوفي وهي السيدة التي أوفدت برسالة إليه من قبل نساء أيرلندة للدفاع عن حق وطنهن. ولكن الرئيس ويلسون رضي بلقاء الثلاثة النواب من أهل مملكته، ووقعت بينه وبينهم أحاديث، ودارت مناقشات، وبعد لأي تنازل مستر لويد جورج بالموافقة على مقابلتهم.
- * *
أبطال ذلك الحزب السياسي الكبير اليوم رهائن المحابس، يعيشون في الحواصل والسجون، ومنهم اللذين توسدوا الحفر، واضطجعوا في ظلمة القبور \، إذ رأت الحكومة المسيطرة أن ذلك الحزب مسؤول عما وقع في أيرلندة من المجازر وأنه من الأحزاب المشاغبة المرجفة بالفتن، الناشرة أعلام القلاقل، فعملت على مصادرته، والتنكيل بزعمائه.
على أن كلمة السين فين ستخلد في تاريخ الدنيا علماً على ما كان في جزء من بلاد الله من الاستماتة في سبيل الحرية والاستشهاد لنيل نعمة الاستقلال.