الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/حضارة العرب في الأندلس

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/حضارة العرب في الأندلس

بتاريخ: 1 - 6 - 1919


الرسالة الأولى

من الإسكندرية إلى المرية

وهنا كأن الأمير أراد أن يطوي بساط هذا الموضوع فانتقل فجأة إلى معنى آخر فقال: هل يحفظ أخونا المصري شيئاً مما مدح به المتنبي الشاعر كافوراً، وهل لا يزال هذا الشاعر مقيماً في مصر؟ فقلت: نعم يا مولاي الأمير، لقد فارقت مصر ولما يزل المتنبي في خدمة مولانا أبي المسك كافور ولقد امتدحه بأحسن المدح، وحق له أن يمتدحه، إذ اللُّها يا مولاي تفتح اللَّها كما يقولون، فما يعلق بالذاكرة مما أنشدنيه قوله فيه، بعد أن وصف الحيل التي سرت به إليه:

قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحراستقل السواقيا

فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا

وقوله في قصيدة:

وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملى عليَّ فأكتب

إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه ... ويمم كافوراً فما يتغرب

ومن جملة هذه القصيدة:

يضاحك في ذا العيد كل حبيبه ... حذائي وأبكى من أحب وأندب

أحن إلى أهلى وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب

فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب

وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب

فقال الأمير: بيد أن لهذا الشاعر في سيف الدولة بن حمدان ما هو أبرع مما مدح به كافوراً، ويعجبني من قصيدة له في هذه الأبيات الحكيمة:

إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا

من أطاق التماس شيء غلاباً ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا

كل غادٍ لحاجةٍ يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا

وهذه الأبيات إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم

يرى الجبناء أن العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم

ثم قال الأمير: وهل لا يرى أخونا المصري لأبي القاسم ابن هانئ الأندلسي شاعر أمير المؤمنين المعز لدين الله ما يستأهل به أن يلز مع المتنبي في فرن؟ فقلت: إني أخشى يا مولاي أن أصرح برأيي فقال: قل وأنت آمن. فقالت: إني لا أشبهه يا مولاي إلا برحى تطحن قرونا. وني كلما أنشدت شعره فكأني أسمع جعجعة ولا أرى طحناً، فأربد وجه الأمير غضباً ثم تحالم وقال: وهل يقال مثل هذا فيمن يقول:

يا بنت ذي السيف الطويل نجاد ... أكذا يجور الحكم في ناديك

عيناك أم مغناك موعدنا وفي ... وادي الكرى ألقاك أم واديك

منعوك من سنة الكرى وسروا فلو ... عثروا بطيف طارق ظنوك

حسبوا التكحل في جفونك حلية ... تالله ما بأكفهم كحلوك

وجلوك لي إذ نحن غصنا بانة ... حتى إذا احتفل الهوى حجبوك

ويقول في أبيات في وصف الخيل:

تكاد تحس اختلاج الظنو ... ن بين الضلوع وبين الحشى

ومن رفقها أنها لا تحس ... ومن عدوها أنها لا ترى

وتحسب أطراف آذانها ... يراعاً بريد لها بالمدى

جرين إلى السبق في حلبة ... إذا ما جرى البرق فيها كبا

ديار الأعزة لكنها ... مكرمة عن مشيد البنا

وهل لمولانا المعز الذي يقول مثل هذا الشعر

أطلع الحسن من جبينك شمساً ... فوق ورد في وجنتيك أطلا

وكأن الجمال خاف على الور ... د جفافاً فمدّ بالشَعر ظلا

أن يقرب ابن هانئ إليه ويؤثره على غيره ويعتز به ويفاخر لولا أن رآه من الشعر بحيث لا يكاد يتخلف عن المتنبي؟ بلى وإذا كان في المشرق المتنبي ففي المغرب ابن هانئ. وإذا كان فيه عبد الله بن المعتز فعندنا ابن مولانا المعز - الأمير أبو علي تميم الذي يقول: وكما يمل الدهر من إعطائه ... فكذا ملالته من الحرمان

ويقول:

وما أم خشف ظل يوماً وليلة ... ببلقعة بيضائ ظمآن صاديا

تهيم فلا تدري إلى أين تنتهي ... مولهة حيرى تجوب الفيافيا

أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغلتها من بارد الماء شافيا

فلما دنت من خشفها انعطفت له ... فألفته ملهوف الحوائج طاويا

بأوجع مني يوم شدت حمولهم ... ونادى منادي الحي أن لا تلاقيا

ويقول:

أما والذي لا يملك الأمر غيره ... ومن هو بالسر المكتم أعلم ... لأعلانها عندي أشد وآلم

وبي كل ما يبكي العيون أقله ... وإن كنت منه دائماً أبتسم

وبعد ذلك رأيت من الحزامة أن لا أطيل سبب المحاجة، فخرجت بالصمت عن لا ونهم، ثم أمر لي الأمير بعطاء سني، ثم أذن لي في الانصراف من حضرته.

جزائر ميورقة ومنوورقة ويابسة

وقبل أن أختتم هذه الرسالة آتي لك على شيء مما اعترضنا في طريقنا بعد أن انفصلنا من بلرم قاصدين المرية، فمن ذلك أنا ونحن إزاء جزيرة كبيرة تسمى سردانية أبصرنا أسطولاً كبيراً قادماً من ناحيتها، وقد علمنا أن هذا الأسطول هو أسطول المعز لدين الله، غزا هذه الجزيرة، وبلاد جنوة من بر الأرض الكبيرة، وغنم وسبى شيئاً كثيراً يخطئه العد والإحصاء وما خام في سائر غزواته عن اللقاء، على ما في ذلك من الغرر، إذ أن وراء هذه البلاد من أمم إفرنجة عديد الذر، غير أن المعز يفعل ذلك الفينة بعد الفينة، لأنه يعلم أن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبه عنه ألبسه الله الذل وسيما الخسف وديت بالصغار، وأن أمة من الأمم تريد أن تكون عزيزة مهيبة لا بد أن تغزو غيرها قبل أن يغزوها الأغيار، ورضي الله عن علي بن أبي طالب إذ يقول في إحدى خطبه: ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.

وهذه سردانية جزيرة كبيرة في غرب هذا البحر الرومي غزاها المسلمون حوال 92 هجرية الموافقة سنة 710 ميلادية في عسكر موسى ابن نصير وملكوها حيناً من الدهر ثم تركوا حبلها على غاربها ثم هم الآن يغزونها من وقت لآخر ويغنمون ويسبون لما علمت.

وقد مررنا فيما مررنا به من جزر هذا البحر بجزائر ثلاث متجاورات تسمى ميورقة ومنورقة ويابسة، وهي جزائر عامرة مأهولة بالمسلمين يرجع أمرها إلى صاحب الأندلس. وعليها وال من قبله. ومن هنا تعلم أن المسلمين قد ملكوا ناصية هذا البحر الرومي بما فيه من الجزائر الكبيرة والصغيرة علاوة على جزائر بحر الظلمات المحيط الأطلسي كما أسلفنا لك فسبحان المعز لمن يشاء، وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

تمت هذه الرسالة - وقد كتبت على متن البحر وبيننا وبين المرية مسيرة يوم أو بعض يوم وذلك في شهر جونية الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة الموافقة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هجرية.

أرجأنا الرسالة الثانية إلى العدد القادم.