الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 48/حضارة العرب في الأندلس

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 48/حضارة العرب في الأندلس

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 48
حضارة العرب في الأندلس
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 5 - 1919


الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية

وكان سيرنا في محاذاة الساحل بحيث نبصره رأي العين، وصرنا نسرح النظر في عمائر وقرى متصلة، وحصون ومعاقل في قلل الجبال مطلة، وقد أرسل إلينا الله ريحاً طيبة رخاء زجت السفينة تزجية طيبة، فكانت تلك الساعة من أطيب ما يظفر به السفر، في هذا البحر، وما زلنا في أنعم حال وأطيبها حتى استقام ميزان النهار وقام قائم الظهيرة وإذ ذاك أبصرنا عن يميننا تسع جزائر متجاورة آنسنا فيها دخاناً يصاعد من جبلين في جزيرتين من هذه الجزائر، فرأيت بعض المسافرين وقد ضربوا بأذقانهم الأرض، لما ألم بهم من الذعر، فقال أبو عبد الله الصقلي لا عليكم أيها الأخوان، ولا تكونن قلوبكم كقلوب الطير تنماث كما ينماث الملح في الماء، إن هذه البراكين مأمونة الناحية، وليست تزفر في النهار إلا هذا الدخان الذي ترون، أما البركان المخوف فهو ذلك الرابض في الجزيرة الكبرى (صقلية) وقد ابتعدنا عنه والحمد لله، وهنا سأله بعض القادمين من المشرق الإفاضة في صوف هذه البراكين وسر تلك الفظائع التي تتوارد أخبارها إلى المشرق، فأخذ أبو عبد الله يفيض في القول على طريقته الفلسفية، ولا بأس إذا نحن أثبتا هنا زبدة قوله إتماماً للفائدة.

البراكين في صقلية

والجزائر المجاورة لها

وما قاله فلاسفة الإسلام في ذلك

قال أبو عبد الله ما ملخصه: من المعلوم الذي لا خفاء به أن هذه الكرة الأرضية السابحة في الفضاء بجملتها وأجزائها ظاهرها وباطنها طبقات، ساف فوق ساف، مختلفة التركيب والخلقة، فمنها صخور وجبال صلبة، وأحجار وجلاميد صلدة، ورمال جريشة، وطين رخو، وتراب لين وسبارخ وشورج، بعضها مختلف ببعض، أو متجاورة كما قال الله جل شأنه {وفي الأرض قطع متجاورات} وهي مختلقة الألوان والطعوم والروائح فمن ترابها وأحجارها وأجبالها حمر وبيض وسود وخضر وزرق وصفر كما قال جل ثناؤه: ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، وهي مع ذلك كثيرة التخلخل والثقب والتجاويف والعروق والجداول والأنهار داخلها وخارجها، كثيرة الأهوية والمغارات والكهوف وفيها من أنواع المعادن السائلة والجامدة ما لا يحصى كثرة، وهذه الأهوية والأواه إذا حمي جوف الأرض بتأثير الشمس فيه كتأثير القمر في مد البحر وجزره سخنت تلك الأمواه ولطفت وتحللت وصارت بخاراً وارتفعت وطلبت مكاناً أوسع، فإن تكن الأرض كثيرة التخلخل تحللت وخرجت تلك البخارات من تلك النوافذ، وإن يكن ظاهر الأرض شديد التكاثف حصيفاً منعها من الخروح وبقيت محتبسة تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج، وربما انشقت الأرض في موضع منها وخرجت تلك الرياح مفاجأة وانخسف مكانها ويسمع لها دوي وهدة وزلزلة، وإن لم تجد لها مخرجاً بقيت هناك محتبسة وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية ويغلظ وتتكاثف تلك البخارات وتجتمع أجزاؤها وتستحيل إلى ماء وتخر راجعة إلى قاع تلك الكهوف المغارات، وتمكث زماناًـ، وكلما طال وقوفها ازدادت صفاء وغلظاً حتى تصير زئبقاً رجراجاً وتختلط بتربة تلك المعادن وتتحد بها، وقد تستحيل إلى كبريت أو نفط أو غيرهما حسب اختلاف ترب القاغ، فيكون من ذلك ضروب الجواهر المعدنية المختلفة الطبائع - قلنا أن في الجبال جبالاً وفي الرض أرضين يجوفها كهوف ومغارات وأهوية حارة ملتهبة، فهذه الكهوف قد تجري إليها مياه كبريتية أو نفطية دهنية فتكون لها دائماً - فإذا اختنقت هذه المواد بفعل الحرارة ذهبت صعداً تطلب الخلاص - فقد تكون هذه المواد دخاناً صرفاً كما هي حال هذين البركانين في هاتين الجزيرتين، وهذا الدخان يخرج بقوة شديدة حتى لقد يقذف فيه الحجر الكبير فترده رداً قوياً - وقد تكون هذه المواد أحجاراً محترقة ومواد أخرى كبريتية ونفطية نارية تخرج كالسيل العرم فلا تمر بشيء إلا أحرقته كما يكون من جبل النار الذي في الجزيرة نفسها، وترى هذا الجبل يرمي فيما يرمي بجمر كبير كأعدال القطن يقع بعضه في البر فيصير حجراً ابيض خفيفاً يطفو على وجه الماء لخفته، والذي يقع في البحر يصير حجراً أسوداً مثقباً تحك به الأرجل في الحمامات، وهو كذلك لخفته يطفو على الماء، ومن غريب الأمر أنه إذا وقع هذا الحجر على حجر احترق ذلك الحجر واشتعل كما يشتعل القطن حتى يصير ذلك الحجر غباراً كالكحل، أما الحشيش وسائر ضروب النبات فلا تحترق، ولا يحترق إلا الحجارة والحيوان، فكأنها نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة.

هذا ويسمي الأهالي عندنا أحد البركانين الموجودين في هاتي الجزيرتين (بركاناً) ويسمون الآخر (استنبري) ومعنى بركان واستنبري فيما علمت الرعد والبرق.

وقد لاحظت أن معادن الكبريت الأصفر لا توجد في الأعم الأغلب إلا بجانب البراكين، ففي هاتين الجزيرتين معدن كبريت لا يوجد مثله بموضع آخر، رأيته ورأيت القطاع الذي يقتطعونه - رأيتهم وقد تمرطت شعورهم ونصلت أظفارهم من حره ويبسه وهم يذكرون أنهم يجدونه في بعض الأيام سائلاً متميعاً فيتخذون له في الأرض مواضع يجتمع فيها م يجدونه في غير ذلك قد تحجر فيقطعونه بالمعاويل، وكذلك ترى بجانب جبل النار الذي في الجزيرة نفسها آبار زيت النفط الذي لا يخرج منها إلا في وقت معلوم من السنة - في شهر شباط وشهرين بعده - فتراهم في ذلك الوقت ينزلون في هذه الآبار على درك ويخمر الرجل الذي ينزل فيه رأسه ويسد مسام أنفه - منخريه - وإن تنفس في أسفل البئر هلك لساعته، وما يستخرجونه من هذا الزيت يضعونه في أواني فيعلو الدهن منه وهو المستعمل، وذلك كله مما يدل على طبيعة هذه الأرض الغريبة الشن ولله في خلقه شؤون، سبحانه مالك الملك لا لإله غيره.

مدينة بلرم

حضرة جزيرة صقلية

ولقائي أميرها أبا الحسين أحمد

كان وصولنا إلى مدينة بلرم بعد انفصالنا من مدينة مسيني بيومين كاملين، وكان تعريجنا عليها دون قصد منا إليه، إذ كانت الريح غير موافقة في ذلك اليوم وهو يوم الأحد الخامس عشر من شهر جونيو الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح، فاضررنا أن نقيم في هذه المدينة ريث أن تأتي الريح الموافقة، ولقد اهتبلت هذه الفرصة فجلت في المدينة جولة وقفت فيها على أشياء كان لا بد من اجتلائها، وقد أسعدني الحظ فقابلت أميرها من قبل المعز لدين الله الفاطمي أبا الحسين أحمد بن أبي الحسن الكلبي وجرى بيني وبينه حديث مشوق سأذكره لك بعد أن آتي على وصف هذه المدينة إن شاء الله.

مدينة بلرم هي حضرة جزيرة صقلية، ففيها يقيم الوالي الذي يوليه الفاطمي وفيها قاضي القضاة وديوان الحسبة ودار الصناعة، وفي مينائها يربض أسطولها الأعظم، ومنها يغدو ويروح مختالاً في ثبج هذا البحر فيغزو ما شاء أن يغزو من جزائره وعدوته الشمالية - جنوب أوروبا - وهي لذلك كله وبفضل ما أحدثه المسلمون فيها من ضروب العمران تراها من أجمل المدن وأفخمها - فهي بهذه الجزائر أم الحضارة، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئت فيها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، تتطلع لك بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان يشقها نهر ينساب فيها مثل الحية المذعور، أو السيف المشهور، ويطرد في جنباتها أربع عيون زاخرة عليها أرجاء كثيرة لا تحصى.

بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاوس

كأنما الأنهار في ساحاتها ... خمر وكأن ساحات الديار كؤس

وهي تنقسم إلى خمسة أقسام محدودة متباينة متجاورة، فقسم هو المدينة الكبرى التي تسمى بلرم، يسكنها التجار، وفيها المسجد الجامع، الذي كان في القديم بيعة للروم، وهو الآن لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المبتكرة من ضروب التصاوير وصنوف التزاويق التي أبدعها المسلمون فيه يعد من أعجب عجائب الدنيا النامة عن حذق العرب ومهارتهم في الصناعة إلى الحد الذي لا وراءه، في هذه المدينة وفي أقسامها الأخرى نيف وثلاثمائة مسجد ولم أر مثل هذا العدد في بلد من البلدان، ومن غريب الأمر أني كنت واقفاً في جوار دار أحد الفقهاء الأعيان في هذه المدينة وهو أبو محمد القفصي الوثا قي فبصرت فريباً من مسجده على مقدار رمية سهم عشرة مساجد، ومنها المسجد تجاه المسجد لا يفصلهما إلا الطريق وأغرب من ذلك أن من بين هذه العشرة المساجد، وغلى نحو عشرين خطوة من مسجد الفقيه القفصي المذكور مسجداً لابنه ابتناه ليتفقه فيه، منعزلاً عن أبيه، وهذا عمرك الله مما يستشف الناظر من ورائه أبهة القوم واعتزازهم بسلطانهم وأنهم سادة هذه البلاد ولا جرم كان ذلك باعثاً لهم على التنافس في المفاخر والمكارم وسائر خلال الخير والكمال، وهو معنى من المعاني التي يستتبعها الملك والغب والسلطان.

أما القسم الثاني من أقسام بلرم فهو المعروف بالخالصة، وهو مقام الوالي وأتباعه، وليس فيه أسواق ولا فنادق، وبه حمامان، وفيه مسجد جامع مقتصر صغير، وفيه حبس الوالي ودار صناعة البحر والديوان. والأقسام الأخرى الثلاثة، فقسم يعرف بحارة الصقالبة، وهذا القسم أعمر من القسمين السابقين وأجل ومرسى البحر به، وآخر يسمى حارة المسجد، وثالث يسميه القوم الحارة الجديدة، وأكثر الأسواق في هذا القسم كسوق الزياتين والصيارفة والصيادلة والخرازين والصياقلة والنحاسين وسوق القمح وسائر الصناع على اختلافهم، وفي هذه الحارة الجديدة نحو من خمسين ومائة حانوت لبيع للحم وهذا مما يدل على استبحار العمران في هذه الجزيرة ورخاء أهليها وكثرة عديدهم، فسبحان المعز لمن يشاء.

ولقد حدثني الفقيه الوثائقي حديثاً يجمل بنا أن نجلوه لك الآن فقال: إن المسلمين لما فتحوا هذه الجزيرة، وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة واستوثق لهم الأمر، ومدت لهم أمم الفرنجة يد الإذعان أخذوا حسب عادتهم في كل بلاد يفتحونها بنية الإقامة فيها، وإصلاح حال أهليها، في أن يستنقذوا هذه البلاد من تلك الحمأة المنتنة التي كانت مرتطمة فيها أيام حكم الرومان، فنشروا في البلاد ألوية العدل، وعمدوا إلى الزراعة فانتعشت بعد صرعتها، وإلى التجارة فهبت من رقدتها، وإلى الصناعة فانتاشوها من وهدتها، ووثب الأهلون وثبة كأنما أنشطوا من عقال، فكثرت الأموال واغدودقت الخيرات إلى الحد الأقصى، وافتن الناس فاتنانهم في ضروب الترف والنعيم واتساعالعيش والتأنق فيه والتلون بأزهى ألوانه. قال الفقيه: أما عدل المسلمين فإنك لتجد انصارة هذه البلاد لا يكاد المسلمون ينمازون عنهم بشيء، فالجميع يرتعون متبحبحين متحابين، وكل متمتع بعيشه وعقيدته وطقوسه فللنصارى كنائسهم كما أن للمسلمين مساجدهم، وإذا جاء عيد من الأعياد رأيت أعلام النصارى بجانب أعلام المسلمين، أما علم النصارى فقد صور فيه صليب مذهب في بهرة ساحة حمراء، وعلم المسلمين قد رسم فيه حصن أسود في ساحة خضراء، وأما نساؤهم فربما رأيتهن اليوم (الأحد) وهن ذاهبات إلى الكنائس، وقد تشبهن بنساء المسلمين لأن المغلوب كما تعلم مولع دائماً بتقليد الغالب، فانتقبن بالنقب الملونة، وانتعلن الأخفاف المذهبة، ولبسن الحرير الموشى بالذهب، والتحفن اللحف الرائقة، وتزين بكل ما يتزين به المسلمات:

إن من يدخل الكنيسة يوماً ... يلق فيها جآذراً وظباء وليس يطلب من النصارى سوى تلك الأتاوة التافهة المفروضة عليهم لقاء قومة السلطان على الرعية، وهي دينارات يؤديهما غنيهم في كل شهر، ودينار واحد يؤديه صناعهم وأرباب الحرف منهم، أما النساء والأطفال فليس بمفروض عليهم وهم يقرون بأنهم لم يذوقوا طعم هذا العيش الأخضر إلا على عهد المسلمين.

أما الزراعة فقد شققنا الأنهار، واحتفرنا الجداول، وأقمنا عليها القناطر الحاجزة وأحيينا الأرض الغامرة، فأخصبت ودرت وربت، وأخذت زخرفها وازينت، وجلبنا إلى هنا كثيراً من الأشجار والأزهار وضروب النبات التي لم يكن ليعرفها أهل البلاد الأصليون مثل القطن والقصب وشجرة الزيتون والبردي الذي لا يوجد إلا في مصر وكثير غير ذلك.

وأما الصناعة فقد خطت بفضل المسلمين خطوات بعيدة المدى فاستثرنا دفائن الأرض ومعادنها من الفضة والنحاس والرخام والحديد، ومهر المسلمون في ضروب الصناعات الشتى الألوان، فحذقوا صنع الحرير والصباغة وما إليهما وكذلك تراهم قد برعوا وأربوا وتفوقا في سائر العلوم الصناعية بله الأدبية والدينية والفلسفية حتى أن الفرنجة لانبهارهم من براعة المسلمين فيما بلغني يقرفونهم بالسحر، وما هو عمر الله بالسحر، إن هو إلا تسنمهم ذورة الكمال، وهوى هذه الأمم الحمراء إلى الحضري الأوهد والنجم تستصغر الأبصار صورته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر.

وأما التجارة فلعلك فد شاهدت كثرة السلع والبضائع المجلوبة إلى هذه البلاد، والحوانيت والمتاجر المتكاثرة في شوارع البلد، وكذلك عساك قد أبصرت الحركة المباركة في مينائنا وعمار المكوس فيها مما تتحقق منه أن الجزيرة قد شأت شأواً بعيداً في التجارة بفضل نشاط المسلمين وإقدامهم وبعد هممهم، وكل ذلك بما أثر فيهم روح هذا الدين القويم وآدابه الإلهية.

لقائي الأمير أبا الحسين أحمد

ابن أبي الحسن الكلبي

والي جزيرة صقلية

وإني لجالس مع الفقيه الوثائقي في مسجده بعد أن تغدينا وصلينا صلاة الظهر ثم أخذنا بأطراف الحديث بيننا إذ دخل علينا المسجد خادم من قبل الأمير، فذعر الفقيه عندما أخذت عينه هذا الخادم فذعرت لذعره ثم قال الخادم إن الأمير يدعوك الساعة إليه ومعك ضيفك المصري، فقلت للفقيه أثم ما يخاف منه فأفرخ روعي وقال الآن لا أظن ثمت شيئاً أكثر من رغبة الأمير في أن يستطلع منك طلع مصر والمصريين، وأميرنا حفظه الله من خواص أهل الأدب وعليتهم، وإنه لذو حظ عظيم من رجاحة العقل وسجاحة الخلق يحب الأدباء ويقربهم إليه ويتحدث معهم كما يتحدث النظير مع النظير، على أن اليوم في صقلية كأنه عيد من أعياد الأهلين، إذ كان قد ورد من أيام على الأمير كتاب من أمير المؤمنين المعز لدين الله يأمر الأمير فيه بإحصاء أطفال الجزيرة وأن يختتنهم ويكسوهم ويحبوهم بالعطايا في اليوم الذي يختتن فيه ولد أمير المؤمنين، فكتب الأمير خمسة عشر ألف طفل ثم اختتن ولده وأخوته، وقد أمر اليوم باختتان سائر أطفال الجزيرة وخلع عليهم وفرق فيهم مائة ألف درهم وخمسين حملاً من الصلات وردت عليه من أمير المؤمنين فكيف نتوقع شراً من الأمير في مثل هذا اليوم المبارك.

وقد كان مع الخادم بغلتان فارهتان من مطايا الأمير وقد جللتا بالديباج وحليتا بالفضة، فركبت أنا والفقيه وسرنا حتى وصلنا إلى دور الإمارة فوقعت عيني على شيء لم تقع على مثله من قبل:

قصور كالكواكب لامعات ... يكدن يضئن للساري الظلاما

  • *

وقبة ملك كأن النجو ... م تفضي إليها بأسرارها

لها شرفات كأن الربيع ... كساها الرياض بأنوارها

  • *

كأن جن سليما الذين ولوا ... إبداعها فأدقوا في مغانيها

ولما أن وصلنا إلى دور الإمارة اشار علينا الخادم بالنزول وأسلمنا إلى الحجاب فساروا بنا في ممر مفروش بالصحباء، تتخللها الفسيفساء، ثم سلكوا بنا حدائق فيحاء، مترامية الأنحاء، قد اغلولبت فيها الأشجار، وتعلقت بأغصانها الأطيار، وانسربت فيها الجداول، واعشوشبت فيها النجوم والأزهار.

والجو من أرج الهواء كأنه ... ثوب يعنبر ويمسك وما زلنا إلى انتهينا إلى قصر الأمير، فرجع الحجاب بعد أن أسلمونا إلى الحجاب المقربين، فرقي بنا هؤلاء سلماً من الرخام ينتهي بالراقي عليه إلى بهو عظيم يملأ صدر الناظر إليه مهابة وجلالاً فاجتزناه واجتزنا بعده غرفاً ومقاصير عدة حتى انتهينا إلى مجلس الأمير، وناهيك به ملجساً لم أر ما هو أحق منه بقول من قال:

قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعادة إلى المقام بصيرا

أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناطري محسورا

فظننت إني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا

تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه فتكبو عن مداه قصورا

ضحكن محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا

وإذا الولائد فتحت أبواه ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا

عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكبيرا

فكأنما لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا

ومصفخ الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا

وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضاً من السماء نضيرا

وصنعت به صناعها أقلامها ... فارتك كل طريدة تصويرا

وكأنما للشمس فيه ليقة ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا

فلما أقبلنا على المجلس غلبني البهر من جلالة الأمير، فسلم الفقيه الوثائقي ثم سلمت بعده بالإمارة فرد علي السلام باشاً في وجهي وأذن لنا بالجلوس، وقد كان قاضي القضاة جالساً على يسار الأمير، ثم أخذ الأمير في أحاديث شتى يقصد بها لعله أن يؤنسني وينفي الوحشة عن ساحتي، وبعد أن آنس مني الأنس به قال: أي منتوى ينتوي أخونا المصري إن شاء الله، فقلت إني أنتوي يا مولاي القطر الأندلسي، فقال: ومتى زايل مصر؟ فقلت منذ نيف وعشرين يوماً فقال: وكيف فارقتها.؟ فقلت: على أحسن حال يا مولاي الأمير. فقال: وكيف حال الأمير أنوجور وحال كافور معه فقد اتصل بنا أن كاوفراً قد استبد به وغلبه على أمره. فقلت: إذا كان كافور يا مولاي قد استبد بالأمير أنوجور فإن المصريين قد استبدوا بكافوا، فقد أصبح كافور للمصريين لا لنفسه ولا للأمير، فسيرته فينا عادلة رشيدة، وحاله معنا جميلة سديدة لأنه يعلم أن الملوك إنما هم خدام الرعية فكيف يظلمونها ويستجيزون كيدها ولم يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ على أن كافوراً ليس هو وحده الذي ينهض بأعباء الملك، وإنما يشد إزره، ويشاركه أمره، وزيرنا الأعظم، أبو الفضل جعفر بن الفرات وغيره من رجالات الدولة. فقال الأمير: ولكن أليس أليق بكم وأسمى وأنبل أن يلي أمركم ابن بنت رسول الله صلى الله علية وسلم أمير المؤمنين المعز لدين الله، وأنت تعلم أيها الأخ أن العباسيين قد ضعف أمرهم، وتضعضعت حالهم، والتاث عليهم ملكهم، وانتزى الأعاجم والأتراك على البلاد فاقتطعوا الممالك منهم وتفردوا بالأمر دونهم - أما عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس فقد اكتفى بما في يده من الممالك المترامية الأطراف، فلم يبق إلا أن يستظلوا بظل خلفائنا الفاطميين حتى يحموكم ويردوا عنكم طمع الطامعين. وهنا طار طائر الغضب إلى رأسي فلم ألبث أن اندفعت قائلاً: إن مولاي الأمير حفظه الله يعلم أنه إذا عد من أظلم الظلم وأنكر النكر أن ينقض جارح من الجوارح على وكر طائر آمن في سربه فيزعجه في سكنه، وينغص عليه عيشته، ويستلبه سراحه وحريته، ويضطرهإما إلى الظعن إلى جو غير جوه، أو الإقامة بجواره بين مخلبه وظفره، فإن من الظلم الذي لا ظلم وراءه أن تعدو أمة على أخرى وحجتها في ذلك أن تحميها من طمع الطامعين. أليس من السفسطة، وابعد ما يقال في باب المغالطة، أن يعدو قوم على قوم بحجة أن هذا العدوان إنما هو وقاء لهم من عدوان الآخرين؟ ولم لا تبدأ هذه الأمة بنفسها فتريح غيرها من عدائها إن مولاي الأمير ليعلم أن فطرة الإنسان معجونة بحب وطنه، ولذلك يقول بقراط: يداوي كل عليل بعقاقير أرضه، ويقول جالينوس: يتروح العليل بنسيم بلده كما تتروح الأرض الجدبة ببلل القطر، والكريم يا مولاي يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى غابه، فلا جرم أن يتغلغل حب مصر والمصريين في السواد من حبة القلب مني، حتى لكأني المعني بقول من يقول:

كأن فؤادي من تذكرة الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريش طائر

وكيف لا أحب بلداً ولدت فيه، وأرضه هي أول أرض مس جلدي ترابها وقد طعمت غذاءها، وشربت ماءها النمير، ماء نيلها المبارك الذي يعذر الأقدمون عن زعمهم أن الجنة منبعه انسرب منها إلى هذه الخضراء: بلد صبحت به الشبيبة والصبى ... ولبست فيه العيش وهو جديد

فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أفنية الشبات تميد

  • *

ألا يا حبذا وطني وأهلي ... وصحبي حين يذكر الصحاب

وما عسل ببارد ماء مزن ... على ضمأ لشاربه يشاب

بأشهى من لقائكم إلينا ... فكيف لنا به ومتى الإياب

ومولاي الأمير يعلم علماً ليش بالظن أن الحكام الغرباء عن البلاد مهما كانت منزلتهم من العدل لتأبى عليهم سنة الله في خلقه إلا أن يضيموا الرعية التي لا تمت إليهم برحم أو آصرة موطن، أما رهط المرء فرحم الله من قال:

لعمري رهط المرء خيرٌ بقيةً ... عليه وإنا عالوا به كل مركب

إذا كنت في قوم عداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيب

لذلك كله أقول وأنا آمن الأمير:

ولي وطن آليت أن لا أبيعه ... وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا

وهنا أطرق الأمير ثم ابنعث قاضي القضاة قائلاً: أظن أخانا المصري لا يغيب عنه أن الأرض ملئت اليوم جوراً ظلماً وعدواناًَ، وذاع الفساد في البلاد وعم الشر وطم، فلا بد من إمام عادل يملأ الدنيا قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلما، ولا يكون هذا الإمام إلا من ولد فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وها هو ذا قد صدق رسول الله وعده وجاء إلينا إمام المسلمين العادل الرحيم البار برعيته، الداعي إلى الحق والقائم بنصرته مولانا وابن مولانا المعز لدين الله ابن مولانا المنصور ابن مولانا القائم ابن مولانا عبيد الله المهدي أدام الله تأييده، هذا إلى أنه لا يوجد اليوم بين ملوك المسلمين من هو أعز من مولانا نفراً وأكثر مالاً ووفرا، وأقوى سلاحاً وشوكة وأبعد في سياسة الأمم تجربة وحنكة، فكان لذلك من الواجب الحتم على كل مسلم أن يعمل على نشر دعوته، ويستظل برعاتيه، فما كاد قاضي القضاة أن يتم كلامه حتى ابتدرت فقلت: إن المصريين لا ينكرون على أمير المؤمنين المعز لدين الله شيئاً مما قلت بيد أن مولانا حفظه الله يعرف مما عرف من طبائع البشر أن الأمة التي تغلب على أمرها، ويخفق عليها لواء غيرها، وتصبح بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليها، يقصر أملها ويبلى رجاؤها وتضوى أرواحها.

واحتمال الأذى وروية جاني ... هـ غذاء تضوى به الأجسام

وذلك لما خضد الغلب عليها من شوطكتها، وكسر من حميتها، فيفضي ذلك على كر الأدهار، وتعاقب الليل والنهار، إلى أن ترأم الذل والاستخذاء، وتشتمل بأردية الكسل والوناء، فيكون من نتاج ذلك ضعف النشاط في القوى الحيوية وهلم حتى يتناقص عمرانهم وتتلاشى مكاسبهم ويعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، فيصبحوا مغلبين لكل متغلب، طعمة لكل آكل، نهباً مقسماً لكل ناهب، وثمت شيء آخر وهو أن الإنسان يا مولاي رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، والرئيس إذا غلب على رآسته، كبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه ورى كبده، وهذا سر ركب في غرائز البشر كما أنه يوجد مثله في الحيوانات المفترسة، فإنها لا تسافد كما يقولون إذا كانت في ملكة الآدميين.

ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام