مجلة البيان للبرقوقي/العدد 48/الإنسان وضميره
→ حضارة العرب في الأندلس | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 48 الإنسان وضميره [[مؤلف:|]] |
روح الإسلام ← |
بتاريخ: 1 - 5 - 1919 |
مختارات من فلسفة الدكتور رولسون وآرائه
طبع في هذه الأيام الأخيرة كتاب ممتع، غريب المنحى بقلم الرئيس ويلسون اختص بطبعه فرنسا وحدها، ولم ينشر قبل اليوم في غيرها، لا في أميركا ولا في بلاد البريطان، وقد وسمه ذلك السياسي العظيم بعنوان عندما يثوب الإنسان إلى نفسه والناظر في هذا الكتاب يتبين من تضاعيفه أصول هذه النزعات الطريفة التي جعلت من ذلك الرئيس حامل الوحي السياسي، وواضع خريطة الدنيا القادمة. ونحن نقتطف من ذلك الكتاب الجديد الذي وضعه هذا الرجل جملة من الآراء والشذرات الطيبة الصالحة.
أولئك الذين يريدون أن يعيشوا على المثل الأعلى، ويضعوا نصب أعينهم مبدأ سامياً، ويمشوا في العالم على هدي سنة كمالية، إنما يأخذون على عواتقهم مطلباً صعباً، ويلزمون أنفسهم واجباً قاسياً شامساً، ولكنه ولا ريب لا يزال واجباً جميلاً نيراً بهيجاً ممتلئاً حياة ونشاطاً وقوة.
لكي يصل الإنسان إلى ضميره، ويصدر في أعماله عن وجدانه الحقيقي، ينبغي أن لا يفكر في مصالحه الذاتية خاصة، بل كان لزاماً عليه أن يطرح حقائر الأمور، ويدع جانباً صغائر الفعال، ولا يشغل ذهنه باعتقاده أنه المركز من العالم كله، والقطب من رحى الدنيا، بل عليه أن يجيل البصر بعينيه المتفتحتين المحملقتين في الكون. ويكتشف بنظره مجاهل العالم، وأن يتعلم كيف يرى الدنيا على حقائقها حتى يتبين المكان الذي يشغله منها، والدور الذي ينبغي له أن يلعبه فوق مسرحها.
ولا ريب في أن الطريق إلى بغيته هذه محفوفة بالأشواك يتخللها القتاد، ويفرع فيها العوسج، وسيلقى في سبيله الإغراءات، وتفتنه الأوهام، وتخدعه الخدائع، وستهوي تحت مواقع قدميه مدارج السلم وتختفي مصاعد المرقى، ولكنه إذا تعلم كيف يتخلص من الهواجس الإنسانية، وطائشة أفكار الدنيوية وإغراءات العمل وهموم الفعل وتنصبه ومتاعبه، إذن فالهدى هداه والنور مضيء له الشبهات، وهو إلى النجاح موفض مسرع.
وعلى رغم الدموع والعبرات، والآلام والنكبات، لن يفقد ثباته، ولن يرتد عن مطلبه، ما دام قد حشد قوته لبلوغ الغاية، ووضع عينه على إحراز المقصد، بل سيبقى في نجوة الهواجس والأوهام، بل لا يكون من تلك الأوهام إلا أن ترسل إليه ضياء يهتدي به، ونبراساً يستصبح بنوره نور مطلق فياض، أشبه شيء بأشعة الشمس المخلصة الصريحة الطلعة، يشرق في طريقه ويجعل سبيله فرحة مطمئنة آمنة راضية.
إن الساعة التي يثوب الإنسان فيها إلى ضميره تختلف باختلاف الأشخاص والأفراد، فمن الناس فريق لا يرون أنفسهم بحاجة إلى هذه العملية النفسانية، لأنهم وضعوا أمامهم قدوة واحدة. وهي أولئك الرجال الذين استطاعوا أن يتغلبوا على متاعبهم وآلامهم. وكل إنسان أهل للمكان الذي يشغله بين الناس الذين يعيشون معه في مضطرب واحد. ويشتركون معه في عمل موحد. وإذا كان الإنسان لم يولد ليعيش مقصياً في عزلة. منتبذاً عن الدنيا مكاناً بعيداً وحيداً. فلذلك كانت معيشته مرتبطة بالمصالح التي يشاطرهم إياها والروابط التي تربط الجميع.
على أن الناس يعملون مختلفين متباينين كل في وجهة، وكل إلى غاية ففريق لا يجدون مرشداً، ولا يضعون للحياة خططاً وهادياً، ولا يفكرون ولا تجري في أذهانهم خواطر ولا تسنح لهم آراء، وآخرون لا يرون إلا مصلحتهم الذاتية، والفائدة التي سيجتازونها من عمل معين أو سبيل معروفة وقليل من الناس أولئك الذين يعملون بنفاذ بصيرة في سبيل تحقيق خطة مرسومة ويسعون سعيهم في سبيل غاية سامية. ليكونوا خدام فكرة من الفكر. أو منفذي مبدأ من المبادئ يضحون في سبيل إنجاحه قلوبهم. ويذيبون من أجله أدمغتهم وعقولهم. ويستنفدون مواهبهم أولئك هم الذين اكتشفوا أنفسهم أولئك الذين وصلوا إلى القطب من أرواحهم. أولئك الذين تعلموا كيف يبلغون الناحية السامية من قلوبهم. وتلك مزية لا يصل المرء إليها إلا بعد تجاريب عدة. وسلسلة من المشاهدات والمرهقات. وما أشد التطورات وأكثر العوارض التي تعترض سبيله إلى هذا المختم العجيب. فالتجربة الأولى لا تني تثب إذ يخرج الشاب من الجامعة أو معهد العلم. ويحس الفتى أنه صار رجلاً فجأة. ويعلم أن حياته قبل ذلك كانت سهلة لامعة مشرقة. في ظل صحابة له يشاركونه آراءه وخواطر شبابه وأنه قد قرأ كثيراً وتعلم كثيراً وأحرز إجازات وشهادات ولكن الذي لا يزال منه في جهل ولا بد من أن يتعلمه بنفسه هو ماذا ينتظر العالم منه. ويرى أنه سيركب بحراً مضطرباً عاصفاً معتلج اللج في وسط سحاب ثقال. تحجب عنه المنارة. ولكنه إذا كان من أولئك النفوس العالية ومن الجوهر الإنساني السامي النادر استطاع أن يجعل تلك السحائب سحائب صيف عما قليل تنقشع.
اعتاد مسيو باجشو أن يقول أن الرجل الأعزب ليس إلا من الغواة في الحياة ومن الحق أن الرجل الذي لا يعيش إلا لنفسه لم يبتدئ بعد الحياة. ولا يزال تحت التمرين والاختبار وليس من الضروري أن يتزوج حتى يكتشف نفسه. ولكن عليه أن يعرف ما هو الحب. حب لأب أو أم. يضحي بنفسه في الإخلاص لهما. أو حب لمبدأ يتوفر على خدمته بجميع قوى روحه.
إذن فعليك بتنمية زهرة التضحية في رفق بقلبك. سواء أكانت التضحية لمخلوق أم كانت لمبدأ. فإذا فعلت جعلت للحياة المعنى الأسمى لها. لأن ما تطلبه الروح من السمو هو أن ينسى الإنسان نفسه في سبيل غيره.
كل إنسان في العالم يملك قوتين. وينعم بضربين من المقدرة مقدرة مطلقة ومقدرة نسبية. فأما المطلقة ففي الإنسان قد منح طبيعة ومواهب خاصة به وأما نسبية فإن ذلك فيما يشترك الإنسان فيه مع الجماعات الإنسانية العامة وفيما يجب عليه العمل معها والتضامن والارتباط بها ولا يستطيع الإنسان أن يكتشف نفسه إلا إذا أدرك أنه جزء من هذا الكل وعرف الفريضة التي لزمته من التعاون في سبيل النفع العام وإعطاء مواهبه الحد المتسع لإظهار نفسها.
كان الناس منذ عهد غير بعيد إذا تكلموا عن جماعة السياسيين راحوا يتحدثون أحاديث السوء عنهم ويظهرون الاشمئزاز منهم والاحتقار لهم. وكانوا يعدونهم آفة لا بد منها وضريبة ملعونة. ولكن لا مناص منها ولا مفر. لا بقاء السلطان على الفرد وحكومته والنهي والبت في أمره. وتلك نظرية الأنانيين الذين يستخدمون كل شيء لأجلهم. ولا يعملون إلا لمنفعتهم الخاصة، وهذه النظرية قد أحدثت من السوآت والآثام في العالم السياسي ما لا قبل لنا بإحصائه.