الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 46/روايات البيان

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 46/روايات البيان

بتاريخ: 1 - 2 - 1919


إيزابلا

أو قصرية النعناع

جون كيتس الشاعر الإنكليزي الكبير من شعراء الطبقة الأولى عاش في أوائل القرن التاسع عشر وتوفي في 1821 عن خمس وعشرين سنة وهو في ريعان الشبيبة وشرخ الصبا. ويلقبه نقاد الشعر الأوروبي (شاعر الجمال) لأنه بينما شغل شعراء هذا العصر الثوري - عصر الثوةر الفرنسية واستبداد نابليون الأول - مسائلا الحياة الكبرى: الحرية والإخاء والمساواة: فخفيت في تذليل هذه المذاهب الوعرة أقلام (بيرون) و (شيلي) و (وردذورث) أعرض الشاعر كيتس عن هذهالأغراض العامة وأقبل على عناصر الجمال المؤلفة للحياة والكون فأخذ يبدع تصويرها بأبرع يراع، وأحذق كف صناع يستخرج كوامنها ويستثير دفائنها، ويقتنص شواردها ويطرق مواردها.

كالعين منهومة بالحسن تتبعه ... والأنف يطلب أقصى منتهى الطيب

ون آياته البينات هذه القصة الغرامية المنظومة التي فتت بها الأكباد وأذاب بها كل مهجة فؤاد. والتي اقتبسها من قصة نثرية قديمة للكاتب الطلياني بوكاسيو فأفرغها في أبدع قالب من مبانيه، وزانها بالدرر اليتائم من معانيه فجاءت طرفة الأديب وتحفة اللبيب: وها هي:

في مدينة فلورنسا من أعمال إيطاليا كان يقطن في العصور الوسطى أخوان في قصر فاخر منيف، وكان لهما ضياع وعقار وثروة جمة وتجارة واسعة، وكانا يكفلان أختاً لهما يتيمة تدعى إيزابلا آية من الجمال، فاستخدما فتى يدعى لورنزو وكيلاً وكاتباً وأقاماه معهما في القصر ببعض حجراته، وكان رشيق القد حلو الطلعة. فشب الغرام بين هذا الفتى وبين إيزابلا ولبث مكتوماً في صدر كل منهما أشهراً والحياء يحول بينهما وبين المجاهرة والتكاشف.

لهفي عليكما أيها العاشقان! تبيتان على حسرة الجوى، وتصبحان على حرقة الهوى تجدان في التداني برداً وسلاماً. وفي التباعد بغضة وسقاما، وفي وادي الكرى عناقاً والتزاما، وفي دجى الليل مسيلا للدموع وانسجاما.

كلما بزغت الشمس زاد ذلك الحب شغفاً، وكلما غربت تضاعف صبابة وكلفا. فشخصهم ماثل لعينيه أينما كان، وصوته في أذنها أحلى من صليل الجدول الرنان، وممر النسيم على عذبات الأغصان، ومناغاة الأطيار في الأوكار، وهي إذا عزفت على المزهر فباسمه تنطق الأوتار وتردد، وإذا طرزت على المنسج فباسمه تملأ نسيجها وتفسد.

وإذا طرقت الباب علم من الطارقة قبل أن يجلوها على الباب ناظره الظمآن، ومن خلال نافذتها تعرفها عينه من أقصى مدى بأسرع من لمحة الصقر وأوحى من خواطر الأذهان، ويسهر الليل البطيء الكثير الأتراح، ارتقاب أن يسمع وقع قدمها الوثاب في الصباح.

بهذا الكمد والأسى مضت أشهر الربيع فطلعت نضرة الصيف على نضرة شبابهما ذابلة، وتجلت بهجة الطبيعة على بهجة جمالهما حائلة، وجعل كل منهما يسر غرامه إلى النجمة الساهرة والنسمة الخاطرة. ويقول هو لوسادته بلسان الدمعة الهامية، والزفرة الحامية

لا طلعت عليّ شمس الغداة يا إيزابلا إذا أنا لم أسمع نغمة الغرام من شفتك اللمياء

غداً أفوه لإيزابلا بحديث لوعتي، غداً أفض خاتم الكتمان عن مكنون وجدي وحسرتي

وما زال ذلك شأنهما حتى أبصر لورنزو إيزابلا وقد علاها البهار مكان الشقيق وزال عن عينيها لألآء الماس وعن شفتيها حمرة العقيق. وعراها هزال الأم الصغيرة الساهرة على رضيعها المريض تسكن آلامه. وتخفف أوجاعه وأسقامه، فقال لورنزو في نفسه ما أسوأ حالها، وما أسرع هزالها ليس لي أن أفاتحها على أني خليق أن أفعل فأبثها قصة صبابتي. إذا كان ما تخفيه الصدور يظهر في أسارير الوجوه فإن صحيفة وجهها لتنم عن أعظم الأنباء. وأفدح الأعباء، فلو أتيح لي أن أرقأ عبرتها وأشرب دمعتها، لكشفت كربها، ومحوت خبطها.

كذلك أسر لورنزو في نفسه ذات صباح ولبث سائر يومه قلق الأحشاء خفاق الفؤاد يسأل الله معونة على القول وقدرة على الإفصاح ولكن لسانه بقي أسسيراً في أغلال الهيبة كما بقي قلبه سجيناً في قبضة الطرب. كذلبك أمضى بالأرق والسهاد ليلته كدأبه وديدنه وفطنت إيزابلا إلى سوء حاله فقالت له في اليوم التالي ونار الغرام تضطرم في وجنتيها لورنزو! ثم حبس الحصر لسانها ولكن الفتى قرأ في لمحات لحظها ونبرات لفظها مكنون صدرها.

فقال: إيزابلا! أحسب أنه لا بأس عليّ الآن أن أبثك حزني وشجني إذا كنت تؤمنين بشي في هذا الوجود فأيقني أني أحبك وأن شغفي بك قد أشرف بي على الردى. وأنا لا أجرؤ على لمس يدك الطاهرة مخافة أن تتألم من مس أناملي ولا أكاد أحدق في عينيك خشية أن تنكر ألحاظك ألحاظي تأففاً وضجراً ولكني لا أستطيع البقاء في الدنيا ساعة أخرى ما لم أبح لك بحبي. وهكذا تجرأت شفتاه فامتزجتا بشفتيها في حديث صامت معسول لقد فازا بنعمة الدهر ولذة العمر وشبت بينهما السعادة ناضرة جنية شباب الزهرة الندية في ريعان الربيع.

ثم افترقا إلى حين وكأنهما لفرط السرور يطآن أديم الهواء. وكأنهما وردتان توأمتان فرق بينهما النسيم ولكن إلى وشك انعطاف، وسرعة التئام وائتلاف، فما هي إلا برهة ثم تلتقي الوردتان فتنفث كل في فؤاد أختها عبيرها الفياح. وأريجها النفاح. وهكذا مضت لإيزابلا إلى خدرها المصون فأخذت تشدو بأغاريد الغرام والمنى المشرقة. ومضى لورنزو وثاب القدم إلى ربوة مشرفة فاستقبل الغرب والشمس تجنح للمغيب ثم ودع النور وخلا إلى نفسه في حمرة الشفق يتأمل وجه سعادته الأغر. ويتنشق أريج نعيمه العطر. ويرفل في برد أمله القشيب. ويمرح في روض أنسه العشيب.

فلما أسفر الصباح هرعا إلى مكان خفي في ألفاف الرياض فتقابلا في غرة البكور

من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي في ثغور الأقاح

وما زال شأنهما ذلك يلتقيان في البكرة والأصيل في سرادق من الورد والياسمين مستتر من العيون محتجب عن الظنون بعيد عن ألسن الوشاة والرقباء ألا ليت الحال دامت كذلك فلم يصبح حديثهما مرتع المغتاب وملهى السمار ومتعة الأصحاب.

أفهل كانا إذ ذاك من الأشقياء؟ كلا. إن قطرة من النعيم في حياة العشاق ترجح بمرارة بحر آلامه الجياش وترد ملوحته عذوبة. وكم ينال منا العشاق غير ذلك من نفحات عطف ورحمة ومواهب رثاء ورقة. كم نرسل عليهم من الدموع والزفرات وكم نقرأ لهم من محزون الأقاصيص مما هو أجدر أن ترقم آياته بإبريز النضار. أجل إن آلام الحب لذيذة ومرارة الحب حلوة.

ليس الهوى إلا عذاباً يعذب ... أو ضرباناً في الحشة أو ضرب

ومن ثم نرى طوائف النحل التي هي شحاذة الصدقات من موائد الرياض عارفة لهذه الحقيقة بصيرة بهذا السر فهي تفطن إلى ما يكن في الأزاهر السامة من اللذة والحلاوة.

وشاء الله أن علائم الحب وأماراته بدت في وجه الفتى والفتاة لأعين الأخوين صاحبي القصر فأفضى كل منهما بظنونه إلى أخيه فألفى كل في الآخر مصدقاً لتلك الظنون ومحققاً. واستشاطا غضباً أن يكون أجيرهما وخادمهما لأختهما عاشقاً وبودها وحبها ظافراً فائزاً، وهي التي أرادا أن يزوجاها من حسيب نسيب واسع الثروة عريض الجاه. ثم أفضى بهما التشاور والتآمر إلى استدراج لورنزو إلى بعض مغامض الغابات وذبحه هنا.

ففي ذات صبحا صحو منير عمدا إليه وكان متكئاً على سياج الحديقة فقالا: أسعد الله صباحك يا لورنزو. أنا في حاجة إليك الساعة. هلم إلى جوادك فاسرجه واركب قبل أن تحتدم شمس الظهيرة. فقد عزمنا أن نسير ثلاثة فراسخ في ناحية الإبينين أسرع يا رعاك الله قبل أن توقد الهاجرة. فانحنى الفتى تحية للسيدين ومضى مسرعاً ليأخذ أهبة السفر.

وفي أثناء مسيره إلى ساحة القصر جعل يتلفت لدى كل خطوة عل عينه تظفر بشخص حبيبته المحبوب أو أذنه بصوتها العذب اللذيذ فإنه لكذلك إذ سمع رنين ضحكة حلوة النغمة تهبط عليه من عل فرفع بصره فرأى وجهها المليح يطالعه من خلل الأستار تضيء ملامحه ابتسامة الجذل والسرور.

فقال: حبيبتي إيزابلا! كنت أخشى أن أذهب ولا أودعك، ويلي أيتها الحبيبة ماذا يكون من أمري إن فرق الدهر بيننا إذا كانت غيبة ساعة من الزمن تكاد تقتلني حسرة وغماً؟ ولكنا سنأخذ من الليل السخي الكريم أضعاف ما يأخذ منا النهار المجرم الأثيم. وداعاً أيتها الحبيبة وداعاً إلى حين. سأعود بعد بضع ساعات. فردت عليه إيزابلا سلام الوداع ومضى لورنزو وهي تشيعه بلحظها الطماح. وسجعها المطرب الصداح. وكذلك ركب الأخوان وفريستهما وبرحا بلدة فلورنسا إلى حيث نهر الأرنو ينسجم مسيله. ويدوي صليله وتحنو عليه الأدواح وتمسح جبينه الرماح ثم نفذ الثلاثة إلى جوف الغابة وهناك ذبحا الفتى ودفناه وهنالك انقطع تيار حبه الزاخر وخبا كوكب غرامه الزاهر.

ثم عادا وأخبرا إيزابلا أن لورنزو أبحر إلى بلد قاص في بعض شؤونهما التجارية وأنها آثراه بهذه الرحلة على غيره لفرط ثقتهما به وتعويلهما عليه. مسكينة إيزابلا! البسي الحداد، والزمي الأرق والسهاد، واستشعري اليأس واطرحي الرجاء، فلن ترين لورنزو ما أظلت الأرض السماء.

كذلك انطلقت إيزابلا إلى حجرتها كاسفة حزينة وظلت تبكي على الأمل الذابل، والنعيم الزائل وتراءى لها شبح لورنزو في الظلماء فأقبلت تناجيه وتعتنق الفضاء وانطرحت على فراشها تنادي واحرباه! أين هو ومن لي بأن أراه!

وهكذا بقيت إيزابلا أشهراً تكابد من برحاء الكمد ما تكابد، فأغفت ذات ليلة فرأت فيما يرى النائم أن لورزو ماثل أمامها يبكي وقد شوه القبر جماله، وأطفأ من حسنه رونقه وصقاله. وسلب من صوته الرخيم مزهراً وعوداً. وخد في خده الأسيل للدمع أخدوداً. ثم أن شبح لورنزو إلى الفتاة بعين لهفى مولهة إنسانها غرق يتجلى الحب في سنا بريقها وينفي سحر حلاوتها عوارض الرعب في قلب الغادة. ثم قص الشبح حديث مصرعه بصوت خافت حزين تحس في نبراته وحشة القبور. وأخبر بما صنع به أخواها في مجاهل الغابة تحت سرادق الورق الكثيف وكيف انقضا عليه فطعناه خلسة وغيلة في صمت وسكوت وشقا له لحداً في الثرى الجعد البليل فدفناه وحثوا عليه ثم قال: واعلمي يا شقيقة الروح أن قبري تنبت عليه الأعشاب وتزخرف حواشيه أفانين الزهر والريحان وثمر التوت الأحمر وعليه حجر من الصوان وقد مدت فوقه يد الطبيعة سرادقاً من السرو والصفصاف وشجر أبي الفرو ينثر ورقه الأخضر وثمره الشائك ويغدو إليه سرب من الأنعام يطوف حوله ويحوم. ألا فاسعي إليه يا إيزابلا فاسكبي على ثراه دمعة حرة تبل ظمأي وتندي على كبدي وتضيء ظلمة ضريحي.

ما أنا اليوم إلا خيال يا إيزابلا أنتبذ من الأحياء مكاناً منعزلاً بعيداً واقيم منفرداً على أطراف حاشية الحياة. وأتلو الصلاة على صدى أصوات الإنسانية المنحدر إليّ من متالع سيلها الجياش، وطنين قبائل النحل هو ناقوس جنازتي، وهديل الحمام في الأصائل والأسحار. وهذه الأصوات الدنيوية لا تزال تزداد غرابة في أذني وتباعداً عن طبعي وذهني كابتعادك عني في عالم الأحياء.

إني أعلم ما كان وما يكون الآن. ولو أن الأرواح يصيبها الجنون لجننت من غوائل الزمان. ومظالم الإنسان. وإني وإن كنت قد نسيت طعم لذات الحياة الأرضية لأشعر الآن بلذة وجودك الهني، وأن صفرة وجهك الحزين تضيء ظلمة قبري الداجية وتدفئ أشلاء رمتي البالية. كأن ملائكة الجنان تزف إلي عروساً من الحور، أجل أن صفرة محياك تسرني وتفرحني وإن روح جمالك تنبث في روحي وتشيع في فضاء نفس وإني لأحس دبيب الغرام ومسرى الصبابة في نواحي كياني ووجداني وداعاً أيتها الحبيبة وداعاً. ثم أملس الخيال واختفى. وذعرت إيزابلا فهبت من مرقدها مطلع الفجر وقالت: ويلي ثم ويلي! ما هكذا ظننت إن غي الأمر جناية لقد سفكت مدية أخوي أزكى دم وأكرمه أيها الروح الطاهر! لقد نبهت غفلتي وأثرت ظلمتي سأزورك وألثم عينيك وأحييك صباح مساء.

ولما مال ميزان النهار خرجت في خفية وخادمة عجوزاً فسارتا حتى بلغتا الغابة وقد سال ذهب الأصيل فولجتا الأجمة وأخذت إيزابلا تجيل بصرها بين الدوح والأعشاب تلتمس علامات القبر كما وصفها لورنزو فلم تك غلا برهة حتى أبصرت حجر الصوان وثمر التوت الأحمر وشجر السرو والصفصاف.

فأقبلت إيزابلا على ثرى القبر وشرعت تنبش التراب وتحفر حتى أزالت سقف الضريح ثم نظرت فأبصرت في قرارته جثة هامدة فحدقت إلى ذلك المشهد الأليم ثابتة مكانها لا تحرك ساكناً كأنها ريحانة نبتت على ذلك الضريح. ثم أكبت على الترب تنبش بمديتها وتحفر، وهي في ذلك أشد حرصاً وأنهما كما من البخيل في تحصيل ديناره وما هي إلا هينهة حتى عثرت بقفازه ملوثة مرقوم عليها نقوش وزخارف من صنع كفها فأهوت عليها تقبلها ثم خبأتها في صدرها حيث وقعت موقع الريح المصوحة والزمهرير على تينك الثمرتين اللتين جعلتهما الطبيعة منهلين لشفاه الطفولة وشفاء غليلها. وإسكات عويلها ثم استأنفت الكد والدؤوب لا تفتر ولا تقف إلا ريثما تحسر ذوائبها المنشورة عن وجهها الحزين.

وأشفقت عليها العجوز وأقبلت تعينها تحفر الأرض بذراعين مهزولتين وقد انتشرت ضفائرها الشمطاء كالثلج في صميم الشتاء دأبهما ذات ثلاث ساعات حتى خلصا إلى لباب القبر. وبدت لأعينهما الدفينة كأبين ما يكون فهل ترى الفتاة هاجت وماجت وثارت وفارت وأرغت وأزبدت وأبرقت وأرعدت؟ كلا لقد هبطت عليها سكينة الحزن الصامت والوجد الثابت الساكت.

وهنا اقتطفت إيزابلا من حديقة الموت تلك الزهرة ال1ذاوية - رأس حبيبها وتالله ما كان ذلك الراس مشوهاً ولا قبيحاً ولكنها هامة راقت حلاوة وشاقت ملاحة في ظلال الموت كما كانت في ضياء الأرض.

وكذلك حملت إيزابلا رأس حبيبها إلى غرفتها حيث أقبلت عليها تهدئ ثائر شعرها بمشط من الذهب. وتبسط ملتوي أهدابها حول مقبرتي عينيها. وتنضح تراب القبر بدموعها الغزيرة. وقضت الساعات الطوال تمشط وتتنهد وتجدد البكاء وتردد.

وجاءت بمنديل من الحرير أشبعته بالطيب والغالية فلفت به الهامة المحبوبة وجعلت قبرها قصرية زهر حيث دفنتها وغطتها بالتراب ووضعت فوقها بذور نعناع وجعلت من غدران دمعها ريها وسقياها. ثم عكفت عليها ونسيت في سبيلها الحياة ومعانيها. والدنيا ومناحيها ونسيت الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم والروض والنهر والشجر والغدير والصبا والجنوب فلم تدر متى بزغت الشمس ومتى توارت بالحجاب ولكنها أكبت على نعناعتها الحلوة صباح مساء في سكينة وهدوء تمطرها دموعها الغزار وتروحها بأنفاسها الحرار.

وكذلك شبت النعناعة وزكت ملتفة خضراء. ناضرة حسناء وفاح لها نسيم طيب أذكى وأعبق من نفحات نظائرها وأمثالها مما يزين قصور المدينة وخمائلها ولا بدع إذ كان غذائها لوعة القلب الحزين، ومادة الحياة من ذرات الراس الدفين.

كذلك برزت من حجابها روح تلك الجوهرة المكنونة والذخيرة المدفونة فبدت للعيان زاهية خضراء ملتفة الورق عبقة الأريج. ألا قفي برهة على هذا المشهد الأليم يا أسراب الهوام ويا طوائف الأحزان فاطرقي أسفاً وذوبي حسرة ولهفاً. ويا نغمات الموسيقى الرخيم اسجعي جزعاً وكمدا. واهتفي ولوعاً ووجدا! ويا صدى عالم الأرواح ثر من مكامنك الخفية فأرسل زفرات العناء وأنفاس الصعداء ويا ساكني القبور ارفعوا الرؤوس وابتسموا استبشاراً فعما قريب تنزل بينكم إيزابلا إنها لتزوي وتذبل كالغصن الرطيب قصفه الزهار للعطر والطيب.

وراقب الأخوان إدمانها البكاء لا يجف لها جفن ولا ترقأ لها عبرة. وكم من خبيث من بين قومها متطلع متجسس أخذ يعجب لذلتها وانكسارها وكيف ظلت تبدد بيد الحزن كنوز جمالها وتضحي على مذبح الكمد قربان حسنها وأنها لجديرة أن تكون زوجة أشرف سري وأثرى غني.

وأعجب ما أدهش الأخوين عكوفها على قصرية النعناع كاسفة البال سيئة الحال. واخضرار تلك الريحانة ورفيف ورقها والتفافه كأنما يمسه ساحر بعصاه. أو يقوم نفر من الجن بريه وسقياه. أجل لقد أفرط عجب الأخوين لهذا الأمر الغريب وتساءلا ماذا عسى أن يكون. وقال أحدهما للآخر: لا والله إن لهذه القصرية لنبأ وشأنا. ولولا أن هذه الريحانة تنطوي على سر كميت لما كان لها كل هذا الأثر في نفس إيزابلا ولا استطاعت أن تصرفها عن شؤون الحياة كلها. وتنسيها الدنيا بأسرها. وتستلها من محاسن جمالها وشبيبتها. وتبتزها من مباهج متاعها ولذتها. بل تنسيها حبيبها وسيرته وعهد غرامه وذكرته.

فأخدا يرصدان غفلة عينها عن ريحانتها ليسجليا غامض شأنها وقصتها وأدمنا الرقبة ولكن دون جدوى. وكيف والفتاة أبداً على الريحانة عاكفة. وغيوث عبرتها لا تنفك وكفة فهي لا تخرج إلى متنزه ولا تسير إلى متنسك ولا تسعى إلى ملهى أو مقصف. ولا تذهب إلى معهد أو متحف. فإذا قامت إلى أمس حاجاتها عادت إلىالريحانة بأسرع مما تنقلب الحمامة إلى صغارها فتلزم جانب القصرية لزوم الدجاجة بيضها ثم لا تزال تبكي على ذخيرتها المدفونة وتسرق الدمع في فروج شعرها.

ولكنهما استطاعا مع ذلك كله أن يسرقا القصرية ويفحصاها في مكان مستور وكذلك بدت لأعينهما الدفينة الشنعاء كأبشع ما لاح لعين مخلوق وبالرغم من عبث البلى بتلك النبيشة وعيث الفساد وعفاء تلك المعالم وانطماس هاتيك المعارف أيقنا أنها رأس لورنزو.

فلما وقع في أيديهما أثر جريمتهما وعنوان جنايتهما غادرا مدينة فلورنسا في طرفة عين إلى حيث لم يعودا آخر الدهر. أجل. فر المجرمان إلى منفاهما وفي عنقيهما دم الجريمة.

أسراب الهموم وطوائف الأحزان! أزوى وجوهك عن هذا المشهد الأليم! ويا نغمات الموسيقى الرخيم اسجعي جزعاً وكمدا واهتفي ولوعاً ووجدا. ويا صدى عالم الأرواح ثر من مكامنك الخفية فأرسل زفرات العناء وأنفاس الصعداء ويا ملائكة الحزن والأسى نوحي واندبي سجناً على إيزابلا. فقد أصبحت هامة اليوم أو غد، ستموت أحزن ميتة وأكمدها إذ سلبها أخواها آخر أرماق الحياة وفصما آخر عروة كانت تربطها بهذا الوجود - قصرية النعناع.

لد ظلت الفتاة حيرى مولهة بعد فقدانها الريحانة تسأل عن نعناعتها المحبوبة وربما أخذت تبكي وفي أوتار صوتها المبحوح نغمة حزن رخيم. ويا طالما ساءلت السائح الجوال عن نعناعتها هل رآها في بعض رحلاته. أو سمع عنها في غدواته وروحاته. وتصيح قائلة لماذا أخفوها عني وخبأوها. واحسرتي ووالهفي أن أبحث عن نعناعتي فلا أراها.

كذلك مرضت الفتاة وضنيت وذابت وهي تسائل عن نعناعتها إلى آخر لحظات الحياة. فلم يبق قلب في مدينة فلورنسا إلا تفتت حزناً ولا مقلة إلا سالت عليها رحمة وشجناً. وذاع بين الناس لحن عن هذه القصة الحزينة رددته الألسن والشفاه.

وما برح للآن يتناقله المحدثون والرواة. وما هو إلا كلمة الفتاة إيزابلا تقول: واحسرتي ووالهفي أن أبحث عن نعناعتي فلا أراها!.

الأماني الأربع

قصة فكهة ذات مغزى

من مختارات تواليف القصصية الطائرة الصيت

شارلوت برونتيه

ذات مساء قر في شهر ديسمبر إذ كنت لا أزال عاملاً أشتغل لأظفر بأجر اليوم. وجزاء عمل النهار، وإن لم أكن في ذلك اليوم خلواً من تلك المطامع التي تثور في قلوب الشبان رغباً في المجد وطلاباً للشهرة، ونزوعاً إلى نوال الذورة العالية، ووصولاً إلى ربوة العظمة، جلست وحيداً بقرب موقدتي في كسر عشي الصغير أحلم أحلام المستقبل، واسرح في ملكوت الله. وأتلهى بالخيالات الغريبة، والأوهام الموحشة المسرفة المتغالية، وقد مرت بذهني ألوف من الأماني. وجالت في خواطري مئات من العلالات حتى لا تكاد تذهب أمنية حتى تعقبها أخت لها أغرب منها، ولا تني تترادف الأحلام أثر الأحلام.

وإني لكذلك أشيد قصوراً في الهواء وأبتني مغاني وقلاعاً في الفضاء إذ سمعت بغتة حولي حمحمة صوت غريب فأجفلت مذعوراً ورفعت رأسي أتبين مصدر ذلك الصوت فلم تأخذ عيني شيئاً فظننت أنها وهم اعتراني. فعدت إلى ما كنت فيه من تأمل وحلم ولكني لم ألبث أن سمعت ذلك الصوت ثانية فرفعت رأسي مرة أخرى وإذ ذاك تولاني الرعب الشديد إذ أبصرت في المقعد الذي إزائي بدن رجل صغير ضئيل في أثواب خضر سندسية، تعم جميع بدنه، فتمالكت نفسي واستعدت جأشي واجترأت على أن أسأله كيف جسر على أن يدخل بيتي بلا إذن مني، وكيف كان سبيله إلى مقعده والأمر الذي جاء من أجله.

فأجاب الرجل بصوت ضعيف مرتعش إني من الجان ولكن لا تخف شيئاً فإني لا أردي بك سوءاً. بل بالعكس أردت أن أمنحك أماني أربعاً. على شرط أن تطلبها على فترات من الزمن. وفي أوقات متفرقة مختلفة. فإذا ألفيت الأمنية لا تتفق وما كنت مرتقباً منها. ووجدت أنها ليست كما كنت تبتغي قبل تحقيقها. فلك أن تطرحها جانباً قبل أن تطلب غيرها.

فلما أتم كلامه أعطاني خاتماً وقال لي أن السر الذي في هذا الخاتم كفيل بتحقيق ما أشتهي. فشكرت له منحته وسألته كيف السبيل إلى الاستغناء عن الخاتم إن ظفرت بالأماني الأربع. فأجابني قائلاً: تعال وهو في إصبعك في منتصف الليل إلى الوادي البعيد عن بيتك هذا وسترى أن ستتخلص إذ ذاك منه.

فلما انتهى من هذه الألفاظ اختفى بغتة، وتركني لا أكاد اصدق ما شاهدته بعيني رأسي. على أنني لم ألبث أن تبينت الحقيقة إذ أبصرت الخاتم الأخضر يبرق في إصبعي.

فلما تولى عني الرعب وهذا الروع. جعلت أفكر فيما ينبغي أن تكون الأمنية الأولى. فبعد لأي ولمعان وتفكير وجدت رغبتي في الجمال تسمو على جميع رغباتي الأخرى فأجمعت ذهني على أنني إذا أصبحت الغداة لا بد أن أجد نفسي في أفتن ألوان الجمال. وأبدع مظاهر الحسن والقسامة والوسامة.

فلما هبطت في وادي النوم العميق انطلقت أحلامي الذهبية أتصور مستقبلي وأيامي المقبلة في ظل هذا الجمال الخارق للطبيعة. ولكن صيحة الديك أيقظتني من منامي ونبهتني إلى تنفس الصبح. ومطلع نور النهار. فنهضت فرحاً خفيفاً نشيطاً ووثبت من سريري ونظرت غير مصدق إلى المرآة المعلقة فوق جدار بيتي الصغير لأتبين هل تغير وجهي منذ العشية أم لا يزال على دمامته الأولى. على أنني لن أنسى في حياتي مطلقاً هزة السرور التي هزت أعضائي إذ رأيت وجهي الجديد وملامحي الطريفة. وهناك وقفت أتراءى في المرآة أهيف القد مشذب العود جميل المحيا، كشجرة الصفصاف أو سرحة الجوز. وقد تناسبت أعضائي فكان منها جمال يبهر الناظرين. وبدت عيناي زرقاوين يسطعان فتنة وسحراً تحت حاجبين مقوسين كالنون وفي فمي طراوة شنب وعذوبة متبسم وجمال ميسم. وذوائب شعري الأصفر الجميل متراخية على جبيني أنعم ملمساً من العاج وبالجملة لم أر شيئاً في حياتي ولم أسمع بجمال يداني هذه الروعة التي وهبتها في ذلك اليوم.

فوقفت مدة أنظر إلى وجهي وأنا في ذهول الإعجاب، وقد طفا على قلبي ظل من السعادة لم أشعر به من قبل. وكان ذلك اليوم يوم أحد. فاشتملت بأثوابي وتجملت بأحسنها وأزهاها وخرجت أريد الكنيسة وكانت الصلاة توشك أن تبتدئ. فلما خطرت بين الصفوف ألتمس مقعدي شهدت العيون محدقة بي والأنظار مستقرة علي من كل صوب فاعتراني من الزهو والخيلاء ما جعلني أمشي مشية المتكبر المعجب بنفسه. وزادت المشية في جلالي وروعة منظري. وكان من بين الذين لم يتركوا النظر إلي اللادي بتريس دوسي وكانت هذه السيدة أرملة اللور دوسي صاحب القرية التي أنا فيها ورب الضياع والمزارع والقصور ومورثها بعد مماته أرملته هذه وتارك هذه النعمة لها. وكانت المرأة عاقراً ولم يكن لها منه بنون أو بنات. وكانت لها الحرية التامة في التزوج بمن تشاء ومتى تختار. وكانت على الرغم من أنها نصف ناهزت الحدود الأولى للشباب. بارعة سليمة وكانت فوق ذلك مشهورة بالسحر. فتمنيت لو أنها مالت إلي وأنا في هذا الجمال الفتان، وتزوجت بي حتى ترفعني من وهدة الفقر إلى أعلى مدارج النعمة والأبهة والترف.

تلك كانت خيالات نفسي ومطامح روحي. وأنا أمشي الخطى عائداً على داري.

وفي المساء عدت إلى الكنيسة وهناك عادت الأرملة تخصني بنظراتها وابتساماتها ورنوات الإعجاب من ناظريها وأخيراً زالت شكوكي وتبدلت مخاوفي إذ دنت إلى بعد انتهاء الصلاة، وهمست إلي تقول: تعال إلى منزلي غداً في الساعة الرابعة. فلم أجب إلا بانحناءة من رأسي. وأسرعت قافلاً أدراجي إلى منزلي.

فلما كان الغد وحل الموعد ارتديت بأفخر ما لدي من ثياب ووضعت زهرة جميلة في معطفي وأسرعت أريد دارها في الموعد المضروب.

فلما دخلت بستان ذلك المغنى التقيت عنده بحاجب استوقفني والتمست إلي أن أتبعه فأطعت، ومشينا بين صفوف الأزاهر حتى دانينا خميلة جميلة من الأعراش والأغصان جلست فيها السيدة مفكرة سارحة، وقد ارتدت برداء من أفخر الحرير الأبيض مزركش أنيق فخم راع، وقد غطت كتفيها بشال هندي ثمين، فلما أقلت نحوها نهضت محيية فرددت على التحية بأحسن منها، وجلسنا وذهب الخادم في وجهه وابتدأت المفاوضات فوهبتني يدها وقلبها، فتقبلتهما بأحسن القبول.

وبعد أسابيع ثلاثة تزوجنا وزففنا في الكنيسة بتصريح خصوصي بين التهليل والفرح، وأقيمت الأعراس لبهجة أهل القرية، وأولمت الولائم وظلت الأفراح أياماً.

وكذلك دخلت الآن في دور جديد من الحياة، وكل ما وقع بصري عليه أضحى ينم عن الجمال والثراء والعظمة والفخامة وكل طعام جلست إليه أصبح طعاماً غنياً بهيجاً غالياً، ويطفر من فرح، لأني أصبحت أرى نفسي مالك كل هذه النعمة، وصاحب جميع هذا الخير.

وطفقت أمام الخدم وهم في الحلل الغالية، والمظهر السني وهم حافون من حولي صافون أمامي أعاملهم بكل احترام، إذ راعني منهم أدبهم العالي ومظهرهم الأنيق.

وقد أصبحت حولي جموع كثيرة من الزوار، وفي كل يوم يقبل للتشريف طائفة كبيرة من المقربين والصحب والخلطاء، وقد جعلت أصرف زمني كله في جميع ضروب اللهو، فمن مراقص متألقة، على محافل حافلة، وبين مآدب فخمة تقام في كل يوم في القصر ابتهاجاً بالعرس، واحتفالاً بالزواج، وبين عشي تصدح فيها الموسيقى، ويقام فيها الرقص، وتهتز فيها الأعطاف، وبين نزهات في الخلاء فوق ظهور الصافنات الجياد، إلى مقانص صيد في البراري والغابات.

ولكن على الرغم من كل هذا لم أكن سعيداً، ولم أستشعر الهناء، فقد كانت الحجرات عديدة حتى لقد تهت في بيتي، وضللت طريقي في منزلي، وكثيراً ما عانيت المشقة الكبرى في سبيل العثور على حجرت الخاصة، ومنامتي المعتزلة، وأنشأ زوارنا الأماجد يحتقرونني ويستزرون بي ويستخفون بآدابي المضحكة وهيئتي الغريبة واضطررت إلى احتمال أمر الضحكات وأشنع النكات والدعابات والسخريات من أفواه النبلاء وشفاه الشرفاء، وأصبح خدمي يهينونني بكل قحة، ويعاملونني بكل استخفاف وبذاء، وبدأت أخيراً معاملة زوجتي تظهر بأجلى مظهر في شكل المستهتر المستخف المحتقر، وأصبحت غيرى في أشد حالات الغيرة، ولا تكاد تحتمل أن أفارق نظرها لحظة واحدة، ولا أزيدكم قولاً بل لتعلم أنه لم تكد تمضي أشهر ثلاثة حتى وددت لو أنني انفصلت منها وعدت إلى سيرتي الأولى عاملاً بسيطاً خشناً فقيراً يصيب رزقه يوماً فيوماً.

ولم يلبث أن تحقق ما كنت أتمنى، وتم هذا الانفصال الذي وددت، وغليك الحادثة التي ساقت إلي ذلك: في مأدبة من المآدب التي أقمناها في القصر، كان بين المدعوين سيدة شابة في ربيع العمر تسمى سيسليا، وقد أصابت حظاً وافراً من الجمال في أبدع ملامح، وأوسم وجه رأيته في حياتي، وكانت رقيقة الحاشية، عذبة المحضر، تأسر الفؤاد رقتها، ويسحر الألباب خلقها، طاهرة من تلك الغطرسة وذلك الكبر، وتلك الخيلاء التي كانت تغضبني من غيرها من أصحابنا الشرفاء، فإذا أنا قلت كلمة تافهة، أو خرجت يوماً عن الآداب النبيلة، أو أحدثت أمراً أداً في نظر هؤلاء النبلاء الغطاريف، فلا تظهر أمامي شيء من السخرية أو التضاحك احتقاراً لي، واستخفافاً بأمري، بل تهمس في أذني ما كان ينبغي أن أفعل وتعلمين كيف السبيل إلى اجتناب الشذوذ عن آداب السادة.

فلما انتثر عقد الجميع، وانتهت المأدبة، وغادرت تلك السيدة القصر قلت لزوجتي على سبيل الملاحظة: يا لله ما أرق الآنسة سيسليا وما أعذبها محضراً والينها عريكة. فأجابت زوجتي وقد احمر وجهها وتصاعد الدم إلى محياها: نعم كل امرأة تستطيع أن تعجبك إلا أنا، ولا تحسبن أنك مخادعي أو مراوغي، فقد رأيتك تضحك وتتحدث إليها طول الوقت، أيها المخلوق الوضيع الزري المنبت الذي رفعته من وهدة الخمول إلى منصة المجد والجلال، ثم لم يغرك هذا بأن تحمل لي شيئاً من التقدير الجميل والمعرفة بالصنيع، ولكني سأنتقم منك وأصيل الثأر.

قالت ذلك وغادرتني أفكر فيما عسى أن يكون هذا الثأر فلما أمسى المساء وأويت إلى المضجع، لم يغمض لي جفن، ولم يأخذ النوم لي عيناً، ولم ألبث أن سمعت فجأة وقع أقدام خارج باب الحجرة، فتولاني الرعب وتملكتني الدهشة، فنهضت وفتحت الباب بكل هدوء. وناهيك عن الدهشة الكبرى التي ثارت بفؤادي إذا أبصرت شبح زوجتي وهي تنسل في خفية وخفوت أمامي والمشعل في يدها، فتعجبت وزادت حيرتي ولم أعلم السبب الذي بعثها أن تمشي في حجرات القصر في جنح الليل، فتبعتها في رفق، وأنا أحاذر وأجتهد أن تقع مواقع قدمي منسجمة مع مواقع قدميها.

فبعد أن تنقلت بين معاطف ودروب القصر لم أشهدها من قبل هبطت وأنا في آثارها سلماً هاوية حتى بلغت الطابق الذي دون أقبية الخمر ومخازن الفحم في الدار إلى أن دخلت إلى قبة رطبة تحت الأرض، وثمت وقفت ووضعت المشعل جانباً، وانزويت أنا في ركن أتخفى وأتسمع.

وإذ ذاك تذكرت ما كنت أسمع عنها من أنها تتصل بالسحرة وتدرك أفانين السحر، فجمد الدم في عروقي، وذهبت نفسي شعاعاً، ورأيتها في تلك اللحظة قد جثمت فوق أديم الأرض وفتحت ذراعيها وجعلت تتمتم ألفاظاً لم أسمعها بصوت أجش غريب وإذا بلهب من النيران قد انشقت عنها الأرض، وتصاعدت سحب من الدخان كثيفة ولم يلبث أن بدد السكون السائد صوت عظيم هز أساس الدار وللحال رأيت ستة أشباح سود تخرج من الظلمات تحمل محفة من محفات الموتى وأبصرت فوقها كما رأيتها الليلة الماضية في ثوبها الدمقسي الجميل، وفي ريشها الناعم الأشهب، سيسليا بعينها، وكانت مغمضة الجفن، وقد سكنت أهدابها عن الحركة فوق خد ذابل ووجنة صفراء، وهي جامدة لا تحرك ساكناً.

فلم أستطع قبالة هذا المنظر المخيف والمشهد الفاجع أن أمسك نفسي عن الصراخ، ووثبت من مكمني، ورأتني زوجتي فطفرت من جثومها واندفعت صوبي وصرخت في وجهي: أيها الوغد ماذا جاء بك على هذا المكان وأية لعنة ساقتك إليه. وما كادت تتم هذه الكلم حتى همت بعنقي وأرادت خنقي فتململت وأردت الخلاص ومن قبضة يدها، فما أفلحت، وكانت حياتي تندفع من عنقي، وروحي تجري مصعدة إلى نحري، ولكنها لم تلبث فجأة أن تراخت يداها وسقطت إلى الأرض مغشياً عليها.

فلما صحوت من غشيتي رأيت على هدي المشعل قزماً صغيراً في ثوبه السندسي يخطو فوق جثتها وهو يحمل سيفاً يلوح به في الهواء وللحال تبينت من وجهه صاحبي الجني الذي وهبني الخاتم منذ ستة أشهر منصرمة، وعلمت إذ ذاك أنه طعن زوجتي بسيفه وبذلك خلصني من مخالبها في اللحظة التي كانت حياتي معلقة بها.

فبعد أن حمدته أجمل الحمد سألته أن يدلني على السبيل التي نتخلص بها من جثة المرأة.

فأجاب: دع ذلك. والآن وقد كاد الصباح ينبثق من صميم الفجر لا بد لي من الانصراف، نبئني هل تريد أن تعود إلى حياتك الماضية ولون عيشك الأول، وترد إلى الدنيا رجلاً عاملاً أميناً دؤوباً مرتاح البال، هانئ النفس، وتحرم من نعمة الجمال الذي لم تظفر منه إلا بالوبال والآلام، أم هل تريد أن تبقى عليها وتجمد ألا نبئني بالقول الفصل وأوجز، فإنني أريد أن أعجل بالذهاب!.

قلت بلا تردد: بل أعدني إلى مرتبتي الأولى، وحياتي السابقة. ولم تكد تخرج هذه الألفاظ من فمي حتى وجدتني واقفاً وحدي أمام باب كوخي، كما كنت أشعث أغبر، لم تبق في وجهه مسحة من ذلك الجمال الفتان الذي أنعم علبه من قبل.

فألقي نظرة طويلة حرى إلى قصر الأيزو وهو يلوح لناظري عن كثب، فمشيت مطرق الرأس إلى كوخي فدخلته.

ومضى يومان، وإني لجالس إلى طعام الإفطار، إذ دخل علي جار لي من أهل القرية فسألني أين كنت منذ نصف عام، وفي أي أرض الله تقلبت، فلم أجد لي سبيلاً غير المخادعة والكذب، فنبأته أنني كنت في زورة ريب من عشيرتي في بلد بعيد ومنزل قصي، فصدق الرجل الحديث ورحت أسأله عن أحوال القرية وما جرى فيها منذ أن غبت عن أهلها.

قال: اسمع حديثاً عجيباً وقصة فكهة إنك غبت من هنا وتزوجت الأميرة دوسي بأجمل فتيان الدنيا الذين ظهروا في العالم فتى لم يعرف أحد من أي مكان هبط، ولا أي منشأ نشأ، وحسبه القوم رسولاً من عالم الجان هبط في بدن إنسان، ومنذ أربعة أيام فقط، اختفى القوم جميعاً، أي الأميرة دوسي وزوجها وابنة اللورد ستاندرن التي تدعى سيسليا، وأعجب ما في أمرهم أنهم اختفوا في ليلة واحدة، ولم يسمع أحد بنبئهم، ولم ندر ما خطبهم، بعدما اشتدت الشرطة في البحث، وتعقبت الآثار، واستقصت الأثر من جميع وجوهه، وقد جاء ليلة أمس شقيق الأميرة، فاستحوذ على الضيعة وأخذ بضبع الثروة، وهو يحاول اليوم أن يرقد ما استثار من أنباء القوم ويرسل الأستار حول الحادث.

فبعثني هذا الحديث على الاطمئنان، إذ علمت منه أن أهل القرية لم يختلج في قلوبهم الشك من ناحيته، ولم يدروا أنني كنت زوج تلك الأميرة.

على أنني تذكرت بعد ذلك أنه لا تزال لي أماني ثلاث فأخلدت إلى التفكير أياماً، واعتزلت لي مكاناً ألتمس فيه استنزال الوحي أستهديه فيما ينبغي أن أشتهي، ويصح أن أطلب، بعد أن رأيت غرور أمنيتي الأولىـ، وباطل ما ابتغيت من قبل، فقر قراري على (الذكاء الفائق والخارق للعادة) وما كنت أفعل حتى أحسست انبثاق روح جديدة في جميع جثماني، ومهب خواطر آية في الذكاء، وبدأ منذ ذلك اليوم كل شيء يتراءى لي في لون جديد، ومظهر طريف وجال بذهني الخواطر العالية، وتزاحمت الفكر الحسان، وحالت السوانح الروائع بصدري.

وقد حدث ذات يوم، بعد هذه النعمة بأيام قلائل أن أرسلني جار لنا من أهل القرية يدعى تندرتن إلى السوق لأبتاع له عدة أواني من الخزف والزجاج، فلما أتممت الشراء، وانتهيت من الصفقة، ووضعت الأواني في صندوق، ولففتها في القش، واحتقبت الصندوق وعدت أدراجي إلى القرية، ولكني لم أكد ألم على منتصف الطريق، حتى أدركني الليل، وكانت الليلة غائمة، والقمر فيها محاقاً، والظلمة حالكة، والمطر منهمراً، فانطلقت إلى حان ثمت في الطريق لأصطلي من نارهن وأستدفئ من شرابه.

ففتحت باب الحان وزاغ مني البصر على مستهل الأنوار، فلمحت في جوانب الحجرة بضعة أصدقاء ومعارف من أهل قريتنا، فجلست إلى شراب حار، ومصطلى عذب يرد الروح في الجثمان، وبعد أن وضعت صندوق الزجاج جانباً، فوق أديم الحجرة واخترت مقعدي بين القوم، وكانوا يتجاذبون أطراف حديث طويل، ومناقشة حارة في أي الحكومتين خير وأبقى، الملكية أم الجمهورية، وكان الزعيم المفوه الذي كان يدعو إلى الجمهورية ويمتدحها وينسب لها الخير كله دون أختها الملكية، بوب سيلفستر، من سكان قريتنا، حداد يشتغل بصهر المعادن وسبكها، وكان من أبلغ من عرفت لساناً، وأفصح مقولاً وأبرع مذوداً، وكان بهذه الموهبة فخوراً وبنعمة الفصاحة مزهواً، ولكنني لم ألبث بفضل ما أوتيت من الحكمة (والذكاء الخارق للعادة) أن أسكته وألقمته حجراً، وبززته في حججه، وركمت دعاواه، وفزت بالمجلس دونه، حتى دوى لي التصفيق من الجانبين، وعلا الهتاف بين أعضاء الحزبين.

وكان بوب هذا رجلاً، حاد المزاج، سريع الغضب لا يرضى أن يسكن إلى هزيمة أو يؤوب مذعناً إلى اندحار، ولذلك نهض وطلب إلي الملاكمة وسألني أن أنزل إليه في مجالدة، فما وسعني إلا القبول خوفاً من الفضيحة، وبدأ القتال واشتد النزال، فلكمني عدة لكمات واندفع علي كالسهم ورماني بلكمة عظيمة من يده اليسرى، فتعثرت وسقطت لا أعي شيئاً مما حولي بل آخر ما تذكرت من هذا المشهد أنني سمعت صوت زجاج منكسر.

فلما أفقت من الغشية، وجدتني نائماً في فراشي في كوخي، جريحاً مرضوضاً دامياً، وعلمت إذ ذاك أن صندوق الأواني تكسر، وتحطم الزجاج والخزف، وأن الرجل صاحبها وكان من البخلاء الماديين قد رفع علي قضية يطالبني بالثمن والتعويض وكانت تلك مصيبة أشد من الجراح إيلاماً.

فلما استطعت النهوض من الفراش، أجمعت النية على أن أطرح هذا الخاتم اللعين في الوادي الذي وصفه الجني، بعد أن رأيت منه الويل، ولم أظفر منه إلا بسوء المنقلب، وقنعت بأن أعيش عاملاً فقيراً، ليس أهنأ له وأبهج لنفسه من أن يجلس إلى عشاء اكتسب ثمنه بعرق الجبين. .

انتهت